الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الأدلة العقلية على المعاد»

من إمامةبيديا
ط (استبدال النص - '{{متن قرآن' ب'{{نص قرآني')
 
(٣ مراجعات متوسطة بواسطة مستخدمين اثنين آخرين غير معروضة)
سطر ٨: سطر ٨:


==لغوية الخلق بدون المعاد==
==لغوية الخلق بدون المعاد==
لو لا المعاد لكان أصل الخلق لغواً باطلاً عبثاً، وبما أنَّ الثابت عندنا والعقيدة الصحيحة تقودنا للإيمان بأننا لم نخلق عبثاً وأنَّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإنسان سدى، ولم يخلق السماوات والأرض باطلاً وإنما لابد هناك من حقيقة خلق من أجلها وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {{متن قرآن|أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}} <ref>المؤمنون: ۱۱٥</ref>، فالقرآن الكريم يركز على هذه الناحية بأنَّ مجرد تصور الإنسان واحتماله بأنْ لا توجد هناك قيامة ولا معاد، فإنَّ نفس هذا التصور يؤدي ويلازم الاعتقاد بأنَّ كل ما في الوجود عبث وباطل. إذاً يجب الإذعان بأنه لولا المعاد لكان الخلق باطلاً، وبما أنَّ الخلق ليس باطلاً إذاً لابد من وجود المعاد في يوم القيامة.
لو لا المعاد لكان أصل الخلق لغواً باطلاً عبثاً، وبما أنَّ الثابت عندنا والعقيدة الصحيحة تقودنا للإيمان بأننا لم نخلق عبثاً وأنَّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإنسان سدى، ولم يخلق السماوات والأرض باطلاً وإنما لابد هناك من حقيقة خلق من أجلها وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {{نص قرآني|أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}} <ref>المؤمنون: ۱۱٥</ref>، فالقرآن الكريم يركز على هذه الناحية بأنَّ مجرد تصور الإنسان واحتماله بأنْ لا توجد هناك قيامة ولا معاد، فإنَّ نفس هذا التصور يؤدي ويلازم الاعتقاد بأنَّ كل ما في الوجود عبث وباطل. إذاً يجب الإذعان بأنه لولا المعاد لكان الخلق باطلاً، وبما أنَّ الخلق ليس باطلاً إذاً لابد من وجود المعاد في يوم القيامة.


وللوصول إلى هذه الحقيقة نحتاج إلى بيان مقدمات ثلاث:
وللوصول إلى هذه الحقيقة نحتاج إلى بيان مقدمات ثلاث:
سطر ١٨: سطر ١٨:
'''المقدمة الثانية:'''
'''المقدمة الثانية:'''


إنَّ القرآن الكريم يعرف الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض، حيث قال تعالى: {{متن قرآن|وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}} <ref>البقرة: ٣٠</ref>، وإنَّ خلق الإنسان وجعله خليفته في الأرض إنما هو لهدفين:
إنَّ القرآن الكريم يعرف الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض، حيث قال تعالى: {{نص قرآني|وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}} <ref>البقرة: ٣٠</ref>، وإنَّ خلق الإنسان وجعله خليفته في الأرض إنما هو لهدفين:
#الامتحان والاختبار: قال تعالى: {{متن قرآن|الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}} <ref>الملك: ٢.</ref>
#الامتحان والاختبار: قال تعالى: {{نص قرآني|الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}} <ref>الملك: ٢.</ref>
#العبادة والمعرفة: {{متن قرآن|وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}} <ref>الذاريات: ٥٦.</ref>ز
#العبادة والمعرفة: {{نص قرآني|وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}} <ref>الذاريات: ٥٦.</ref>ز


فهذان الأمران (الابتلاء والعبادة) يذوبان في حقيقة واحدة وهي أنَّ الإنسان مختار، والتكاليف التي يكلف بها إنما هي لصقل مواهبه وإمكانياته واستعداده، ففي هذه الاختبارات والابتلاءات إما أنْ يصل إلى أعلى عليين أو ينزل إلى أدنى مستوى في أسفل السافلين، إذاً إما أنْ يختار بنفسه طريق الهداية ويتسامى أو ينزل إلى طريق الظلال ويتسافل.
فهذان الأمران (الابتلاء والعبادة) يذوبان في حقيقة واحدة وهي أنَّ الإنسان مختار، والتكاليف التي يكلف بها إنما هي لصقل مواهبه وإمكانياته واستعداده، ففي هذه الاختبارات والابتلاءات إما أنْ يصل إلى أعلى عليين أو ينزل إلى أدنى مستوى في أسفل السافلين، إذاً إما أنْ يختار بنفسه طريق الهداية ويتسامى أو ينزل إلى طريق الظلال ويتسافل.


فالله تبارك وتعالى لا يجهل شيئاً حتى يختبر البشر فهو العالم المطلق، عالم بالبشر وبالحقائق ولا يخفى عليه شيء والاختبار إنما هو لصقل مواهب البشر وقابليتهم وخروجها من درجة الشأنية والإمكان والقوة إلى درجة الفعلية، والقابليات الموجودة تبرز إلى عالم الوجود من خلال المعاناة ومن خلال التجربة والتكليف، ثم إنَّ الله تبارك وتعالى غني عن عبادة خلقه، وهذا أمر أساسي يجب على الإنسان أنْ يدركه حيث قال تعالى: {{متن قرآن|يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}} <ref>فاطر: ١٥ز</ref>
فالله تبارك وتعالى لا يجهل شيئاً حتى يختبر البشر فهو العالم المطلق، عالم بالبشر وبالحقائق ولا يخفى عليه شيء والاختبار إنما هو لصقل مواهب البشر وقابليتهم وخروجها من درجة الشأنية والإمكان والقوة إلى درجة الفعلية، والقابليات الموجودة تبرز إلى عالم الوجود من خلال المعاناة ومن خلال التجربة والتكليف، ثم إنَّ الله تبارك وتعالى غني عن عبادة خلقه، وهذا أمر أساسي يجب على الإنسان أنْ يدركه حيث قال تعالى: {{نص قرآني|يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}} <ref>فاطر: ١٥ز</ref>


'''المقدمة الثالثة'''
'''المقدمة الثالثة'''


خلق الله تعالى الإنسان ليصل إلى كماله النهائي عن طريق الاختبار والعبادة ولابد أنْ يمر بسلسلة من الاختبارات والامتحانات والمحن والمصائب، إذاً هناك تناسب حقيقي وتناسب طردي بين مستوى الكمال والتكامل مع كثرة المصائب التي يمر بها الإنسان، يصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب{{ع}} هذه الدنيا وصفاً دقيقاً في إحدى خطبه فيقول: {{متن حدیث|دَارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لا تَدُومُ أحوالُها وَلايَسلَمُ نِزَّالُهَا الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ والأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وإِنَّمَا أهْلُهَا فِيهَا أغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرمِيهِم بِسِهامِها وَتُفنيهِم بِحِمامِها}}. وكما يقول أحدهم عن اللذة: {{متن حدیث| اللَّذَّةَ فِي الدُّنْيَا كالقطرةِ مِنْ بَحْرٍ }}.
خلق الله تعالى الإنسان ليصل إلى كماله النهائي عن طريق الاختبار والعبادة ولابد أنْ يمر بسلسلة من الاختبارات والامتحانات والمحن والمصائب، إذاً هناك تناسب حقيقي وتناسب طردي بين مستوى الكمال والتكامل مع كثرة المصائب التي يمر بها الإنسان، يصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب{{ع}} هذه الدنيا وصفاً دقيقاً في إحدى خطبه فيقول: {{نص حديث|دَارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لا تَدُومُ أحوالُها وَلايَسلَمُ نِزَّالُهَا الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ والأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وإِنَّمَا أهْلُهَا فِيهَا أغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرمِيهِم بِسِهامِها وَتُفنيهِم بِحِمامِها}}. وكما يقول أحدهم عن اللذة: {{نص حديث| اللَّذَّةَ فِي الدُّنْيَا كالقطرةِ مِنْ بَحْرٍ }}.


إذاً فالمعاناة والمشاكل في هذه الحياة الدنيا و(الكبد) بالتعبير القرآني تدل على أنَّ هناك مرحلة يحصل فيها الإنسان على نتيجة أعماله، ويقطف ثمار المعاناة الطويلة التي عاناها في الدنيا، فلا يُعقل أنْ يُخلق في الإنسان حُبُّ الكمال المنشود وهو في الدنيا يعاني المشاكل والمصائب ولا يخلق له حياة أخرى يجني فيها ثمار ما عاناه في الدنيا، فهذا عبثٌ ولغوٌ.
إذاً فالمعاناة والمشاكل في هذه الحياة الدنيا و(الكبد) بالتعبير القرآني تدل على أنَّ هناك مرحلة يحصل فيها الإنسان على نتيجة أعماله، ويقطف ثمار المعاناة الطويلة التي عاناها في الدنيا، فلا يُعقل أنْ يُخلق في الإنسان حُبُّ الكمال المنشود وهو في الدنيا يعاني المشاكل والمصائب ولا يخلق له حياة أخرى يجني فيها ثمار ما عاناه في الدنيا، فهذا عبثٌ ولغوٌ.
سطر ٣٤: سطر ٣٤:
وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة في عدد من الآيات المباركة في كتابه المجيد تأكيداً على ذلك، منها:
وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة في عدد من الآيات المباركة في كتابه المجيد تأكيداً على ذلك، منها:


قال تعالى: {{متن قرآن|وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}} <ref>ص: ۲۷.</ref>
قال تعالى: {{نص قرآني|وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}} <ref>ص: ۲۷.</ref>


قال تعالى: {{متن قرآن|أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}} <ref>الجاثية: ٢١.</ref>
قال تعالى: {{نص قرآني|أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}} <ref>الجاثية: ٢١.</ref>


قال تعالى: {{متن قرآن|أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}} <ref>المؤمنون: ١١٥</ref>
قال تعالى: {{نص قرآني|أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}} <ref>المؤمنون: ١١٥</ref>


قال تعالى: {{متن قرآن| أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}} <ref>القيامة: ٣٧-٤٠</ref>، إذاً فالله تبارك وتعالى ينفي العبثية واللغوية ويجعل ذلك مناقضاً للهدف الأصلي والغاية الحقيقية من خلق الإنسان.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٧٥-٢٧٧.</ref>
قال تعالى: {{نص قرآني| أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}} <ref>القيامة: ٣٧-٤٠</ref>، إذاً فالله تبارك وتعالى ينفي العبثية واللغوية ويجعل ذلك مناقضاً للهدف الأصلي والغاية الحقيقية من خلق الإنسان.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٧٥-٢٧٧.</ref>


==المعاد من لوازم العدل==
==المعاد من لوازم العدل==
إنَّ كل ما في الوجود قائم على العدل والقسط بكلا المعنيين، العدل والقسط التكويني والعدل والقسط التشريعي.
إنَّ كل ما في الوجود قائم على العدل والقسط بكلا المعنيين، العدل والقسط التكويني والعدل والقسط التشريعي.


ففيما يتعلق بالعدل في التكوين نجد قوله تعالى: {{متن قرآن|الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}} <ref>الرحمن: ٥-٧.</ref>، فهناك حسابٌ دقيقٌ، ونظامٌ كاملٌ، وعدلٌ مطلقٌ في خلق السموات والأرض والشمس والقمر و...
ففيما يتعلق بالعدل في التكوين نجد قوله تعالى: {{نص قرآني|الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}} <ref>الرحمن: ٥-٧.</ref>، فهناك حسابٌ دقيقٌ، ونظامٌ كاملٌ، وعدلٌ مطلقٌ في خلق السموات والأرض والشمس والقمر و...


وفيما يتعلق بالعدل التشريعي نرى الأمر الإلهي الموجه للإنسان في قوله تعالى: {{متن قرآن| وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }} <ref>الرحمن: ۹.</ref>
وفيما يتعلق بالعدل التشريعي نرى الأمر الإلهي الموجه للإنسان في قوله تعالى: {{نص قرآني| وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }} <ref>الرحمن: ۹.</ref>


إذاً فكل ما في عالم الخليقة إنما هو محسوبٌ بدقةٍ وقائمٌ على أساسِ العدلِ، كما أننا في حياتنا العملية يجب أنْ نلتزم بهذا القسط والعدل، لهذا نجد قول الرسول{{صل}}: {{متن حدیث|بِالْعَدْلِ قامَتِ السَّماوَاتُ وَالأرضُ}}، وأما في الجانب التشريعي قال تعالى: {{متن قرآن| لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}} <ref>الحديد: ٢٥.</ref>، فالنظام العام في المجتمع هو الالتزام بالحقوق والواجبات، ويجب أنْ يكون بميزانٍ دقيقٍ وقائمٍ على أساس العدل، بحيث يضمن لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه ويبين حدوده ومقدار تصرفاته وأنْ لا يعتدي على غيره في مجال التطبيق والاستفادة من حرياته، لأنَّ الإنسان بما أنه مختارٌ فإنه قد يحسن الاستفادة من الاختيار فيكون العدل، وقد يسيء الاستفادة من الحرية فيكون الظلم والجور، قال تعالى: {{متن قرآن|إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}} <ref>الإنسان: ٣.</ref>، وقال تعالى: {{متن قرآن|وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}} <ref>البلد: ۱۰.</ref>، إذاً قد يسيء الفرد الاستفادة من الحرية والاختيار فيظلم ويعتدي ويجور على الآخرين ولكنه يعيش منعماً ومرفهاً وفي سعة من العيش في الدنيا، وفي مقابله من استفاد من الحرية والاختيار وأحسن فيهما فلم يظلم ولم يعتدِ على أحد في حياته، لكنه يعيش حياة ملؤها الشقاء والبؤس والتعاسة.
إذاً فكل ما في عالم الخليقة إنما هو محسوبٌ بدقةٍ وقائمٌ على أساسِ العدلِ، كما أننا في حياتنا العملية يجب أنْ نلتزم بهذا القسط والعدل، لهذا نجد قول الرسول{{صل}}: {{نص حديث|بِالْعَدْلِ قامَتِ السَّماوَاتُ وَالأرضُ}}، وأما في الجانب التشريعي قال تعالى: {{نص قرآني| لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}} <ref>الحديد: ٢٥.</ref>، فالنظام العام في المجتمع هو الالتزام بالحقوق والواجبات، ويجب أنْ يكون بميزانٍ دقيقٍ وقائمٍ على أساس العدل، بحيث يضمن لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه ويبين حدوده ومقدار تصرفاته وأنْ لا يعتدي على غيره في مجال التطبيق والاستفادة من حرياته، لأنَّ الإنسان بما أنه مختارٌ فإنه قد يحسن الاستفادة من الاختيار فيكون العدل، وقد يسيء الاستفادة من الحرية فيكون الظلم والجور، قال تعالى: {{نص قرآني|إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}} <ref>الإنسان: ٣.</ref>، وقال تعالى: {{نص قرآني|وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}} <ref>البلد: ۱۰.</ref>، إذاً قد يسيء الفرد الاستفادة من الحرية والاختيار فيظلم ويعتدي ويجور على الآخرين ولكنه يعيش منعماً ومرفهاً وفي سعة من العيش في الدنيا، وفي مقابله من استفاد من الحرية والاختيار وأحسن فيهما فلم يظلم ولم يعتدِ على أحد في حياته، لكنه يعيش حياة ملؤها الشقاء والبؤس والتعاسة.


فيجب أنْ نتأمل في هاتين الصورتين ونفكر فيهما، فإذا كان الموت نهاية كل شيء فما الفرق إذاً بين المحسن وبين المسيء؟
فيجب أنْ نتأمل في هاتين الصورتين ونفكر فيهما، فإذا كان الموت نهاية كل شيء فما الفرق إذاً بين المحسن وبين المسيء؟
سطر ٥٧: سطر ٥٧:
==الآيات القرآنية التي تربط السعي بالجزاء==
==الآيات القرآنية التي تربط السعي بالجزاء==
قد تعرض القرآن الكريم إلى بيان هذه الحقيقة من خلال الآيات المباركة التي أكدت على هذا المفهوم وهذه الحقيقة ليكون الإنسان على استعداد تام لذلك اليوم من خلال أعماله في الدنيا، ومن تلك الآيات:
قد تعرض القرآن الكريم إلى بيان هذه الحقيقة من خلال الآيات المباركة التي أكدت على هذا المفهوم وهذه الحقيقة ليكون الإنسان على استعداد تام لذلك اليوم من خلال أعماله في الدنيا، ومن تلك الآيات:
#قال تعالى: {{متن قرآن|أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}} <ref>ص: ۲۸.</ref> فالتميز بين الفريقين إنما يكون في الحياة الآخرة من خلال أعمال الإنسان في الدنيا.
#قال تعالى: {{نص قرآني|أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}} <ref>ص: ۲۸.</ref> فالتميز بين الفريقين إنما يكون في الحياة الآخرة من خلال أعمال الإنسان في الدنيا.
#قال تعالى: {{متن قرآن|إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}} <ref>غافر: ۵٩.</ref>
#قال تعالى: {{نص قرآني|إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}} <ref>غافر: ۵٩.</ref>
#قال تعالى: {{متن قرآن|الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}} <ref>غافر: ۱۷.</ref>
#قال تعالى: {{نص قرآني|الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}} <ref>غافر: ۱۷.</ref>
#قال تعالى: {{متن قرآن|وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}} <ref>النجم: ٣١.</ref>
#قال تعالى: {{نص قرآني|وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}} <ref>النجم: ٣١.</ref>
#قال تعالى: {{متن قرآن|إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}}<ref>يونس: ٤٤.</ref>
#قال تعالى: {{نص قرآني|إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}}<ref>يونس: ٤٤.</ref>
#قال تعالى: {{متن قرآن|مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ}} <ref>فصلت: ٤٦.</ref>، إذاً فلو لا المعاد لكانت فكرة العدل فكرة لاغية ولا أساس لها ولم يكن هناك تطبيق لهذا العدل أبداً.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٧٩-٢٨٠.</ref>
#قال تعالى: {{نص قرآني|مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ}} <ref>فصلت: ٤٦.</ref>، إذاً فلو لا المعاد لكانت فكرة العدل فكرة لاغية ولا أساس لها ولم يكن هناك تطبيق لهذا العدل أبداً.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٧٩-٢٨٠.</ref>


==الحركة التكاملية==
==الحركة التكاملية==
توجد حركة نحو الكمال في كل شيء، والحركة دائماً تحتاج إلى بداية ونهاية، فالكون كله من أصغر ذرة فيه إلى أكبر موجود فيه لم يُخلق عبثاً ولا توجد عشوائية وإنما هناك حركة مستمرة منظمة نحو الكمال.
توجد حركة نحو الكمال في كل شيء، والحركة دائماً تحتاج إلى بداية ونهاية، فالكون كله من أصغر ذرة فيه إلى أكبر موجود فيه لم يُخلق عبثاً ولا توجد عشوائية وإنما هناك حركة مستمرة منظمة نحو الكمال.
فالذرات والمجرات والسدم والحيوانات والموجودات الحية وحتى الجمادات، النباتات على أنواعها كلها في حالة حركة دائبة بإتجاه الكمال الذي يناسبها، وهذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع لابد أنْ تنتهي يوماً حينما تصل إلى المقصد النهائي.
فالذرات والمجرات والسدم والحيوانات والموجودات الحية وحتى الجمادات، النباتات على أنواعها كلها في حالة حركة دائبة بإتجاه الكمال الذي يناسبها، وهذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع لابد أنْ تنتهي يوماً حينما تصل إلى المقصد النهائي.
و هذه الحركة حركة اضطرارية، أي الحركة باتجاه الكمال ليست اختيارية وإنما هناك قانون يحكم هذه الحركة وهو قانون الجبر، الجبر العِلِّي والمعلولي، والقرائن تدل على أنَّ سنة الله تبارك وتعالى جرت الخلق والكون، وإرادة الله ومشيئته تتمثل في هذا النظام الدقيق للترابط العِلِّي والمعلولي، لكن حينما تنتهي هذه الحركة إلى الكمال المطلق تزول وتنتهي، قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانِ﴾ الرحمن: ٢۶، إذاً فكل شيء سوى الله مرتبط بالزوال لأنه في هذه الحركة يستمر إلى أنْ ينتهي إلى المقصد الأسمى وهو الله تبارك وتعالى.
 
يقول الفيض الكاشاني في كتابه "علم اليقين": فللإنسان حركة طبيعية (في مقابل الاختيارية) ذاتية من لدن نشأته ومبدئه إلى آخر البعثة ولقائه بارئه ومعاده، وإليه أشار تعالى بقوله: ﴿يَاَأَيُّهَا الْإِنسَنُ إِنَّكَ كَادِعُ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَقِيه) الانشقاق: ۶، والكدح هو الجهد. وكدحاً: الجهد المستمر المتواصل الذي لاينقطع. فملاقيه: المقصد النهائي.
و هذه الحركة حركة اضطرارية، أي الحركة باتجاه الكمال ليست اختيارية وإنما هناك قانون يحكم هذه الحركة وهو قانون الجبر، الجبر العِلِّي والمعلولي، والقرائن تدل على أنَّ سنة الله تبارك وتعالى جرت الخلق والكون، وإرادة الله ومشيئته تتمثل في هذا النظام الدقيق للترابط العِلِّي والمعلولي، لكن حينما تنتهي هذه الحركة إلى الكمال المطلق تزول وتنتهي، قال تعالى: {{نص قرآني|كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}}<ref>الرحمن: ٢٦.</ref>، إذاً فكل شيء سوى الله مرتبط بالزوال لأنه في هذه الحركة يستمر إلى أنْ ينتهي إلى المقصد الأسمى وهو الله تبارك وتعالى.
ثم يقول: والموت والبعث منزلان في منازل هذا الطريق لابد من المرور عليهما، بالتالي الحركة ضرورية والموت ضرورة لقوله تعالى: ﴿يااَيُّهَا الإنسنُ إِنَّكَ كَادِعٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَقِيهِ﴾ الانشقاق: ۶، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ المؤمنون: ١۶، فيكون المصير بعد ذلك إلى الله تعالى كما قال عزوجل: (هُوَ يُحِي، ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يونس: ۵۶، (وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهى) النجم: ۴٢، (إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة: ١۵۶، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا وإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) مريم: ۴٠، (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةُ) الفجر: ۲۸، وغيرها من الآيات .. فالحركة التكاملية إنما تستقر ولا تنقطع باتجاه الكمال المطلق، وفي الحياة الدنيا نحن نشاهد هذه الحركة ولكننا لانشاهد الوصول والمقصد ولانشاهد اللقاء الإلهي.
 
إذاً يمكن أنْ نبين ما يتعلق بهذه الحركة التكاملية إن الإنسان متحرك تلقائياً أراد ذلك أو لم يرد، غاية ما هناك أنه يختار نوع الحركة، أي إما يكون متحركاً باتجاه الفضيلة والكمال فيصل إلى أعلى عليين باختياره، أو باتجاه الرذيلة والنقص فيصل إلى أسفل سافلين، لكن أصل التحرك لا يملك الإنسان اختيارها لأنه لابد منها، وإنَّ الشوق نحو الكمال أمر غريزي عند الإنسان وليس اختياري، وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة للحركة التكاملية للإنسان، حيث بيَّن أنه خُلق من تراب ثم من نطفة ثم يصبح علقة ثم مضغة ثم طفلاً إلى مرحلة البلوغ، ثم الوصول إلى أرذل العمر وهذه النماذج كلها ترتبط بالمعاد. يقول الفيض الكاشاني في كتابه<ref>عين اليقين، ص۴٢٢.</ref>: إنَّ الشوق (الغريزة باطنية) والطلب الذي أثبتناه للموجودات لو لم يكن لهما فائدة وغاية طبيعية لكان ارتكازه في الجلبة والغريزة عبثاً وهباء معطلاً، ولا تعطيل في الوجود ولا عبث في فعل الله سبحانه.
يقول الفيض الكاشاني في كتابه «علم اليقين»: فللإنسان حركة طبيعية (في مقابل الاختيارية) ذاتية من لدن نشأته ومبدئه إلى آخر البعثة ولقائه بارئه ومعاده، وإليه أشار تعالى بقوله: {{نص قرآني|يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}} <ref>الانشقاق: ۶.</ref>، والكدح هو الجهد. وكدحاً: الجهد المستمر المتواصل الذي لاينقطع. فملاقيه: المقصد النهائي.
مراحل التكامل وربطها بالمعاد في القرآن:
 
يمكننا أنْ نبين بعض تلك الآيات التي تظهر تلك المراحل للتكامل الإنساني ودورها في بيان المعاد للخلائق يوم القيامة، قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ونُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نخرجكم طفلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ومِنكُم مِّن يُتَوَفَّى ومِنكُم مِّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وتَرَى الأَرض هامدة فإذا أنزلنا عليها المَاء اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأَنْبَتَتْ مِن كُل زوج بهيج ۵ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وأَنَّهُ يُحْي الْمَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۶ وأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾ الحج: ۵-٧، قال تعالى (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَة مِن طِينٍ ۱۲ ثُمَّ جَعَلْنَهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينِ ۱۳ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العظام لحماً ثمَّ أَنشَانَاهُ خَلَقا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخالقين ۱۴ ثم إنَّكُم بعد ذلك لميتونَ ۱۵ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون: ١٢-١۶، (أَيَحْسَبُ الإِنسَنُ أَن يُتْرَكَ سُدى ۳۶ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ مِن مَنِي يُمنى ۳۷ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ۳۸ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذكر والأنثى ۳۹ أليْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحي الموتى) القيامة: ٣۶-۴٠، من خلال هذه الآيات يكون الأمر واضحاً بأنَّ وراء هذا الكون الفسيح يد عظيمة تحرك هذه المسيرة نحو كمالها.
ثم يقول: والموت والبعث منزلان في منازل هذا الطريق لابد من المرور عليهما، بالتالي الحركة ضرورية والموت ضرورة لقوله تعالى: {{نص قرآني|يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}} <ref>الانشقاق: ۶.</ref>، وقال تعالى: {{نص قرآني|ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}} <ref>المؤمنون: ١٦.</ref>، فيكون المصير بعد ذلك إلى الله تعالى كما قال عزوجل: {{نص قرآني|هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}} <ref>يونس: ٥٦</ref>، {{نص قرآني|وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}} <ref>النجم: ٤٢</ref>، {{نص قرآني|إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}} <ref>البقرة: ١٥٦</ref>، {{نص قرآني|إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}} <ref>مريم: ٤٠</ref>، {{نص قرآني|ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}} <ref>الفجر: ۲۸.</ref>، وغيرها من الآيات .. فالحركة التكاملية إنما تستقر ولا تنقطع باتجاه الكمال المطلق، وفي الحياة الدنيا نحن نشاهد هذه الحركة ولكننا لانشاهد الوصول والمقصد ولانشاهد اللقاء الإلهي.
 
إذاً يمكن أنْ نبين ما يتعلق بهذه الحركة التكاملية إن الإنسان متحرك تلقائياً أراد ذلك أو لم يرد، غاية ما هناك أنه يختار نوع الحركة، أي إما يكون متحركاً باتجاه الفضيلة والكمال فيصل إلى أعلى عليين باختياره، أو باتجاه الرذيلة والنقص فيصل إلى أسفل سافلين، لكن أصل التحرك لا يملك الإنسان اختيارها لأنه لابد منها، وإنَّ الشوق نحو الكمال أمر غريزي عند الإنسان وليس اختياري، وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة للحركة التكاملية للإنسان، حيث بيَّن أنه خُلق من تراب ثم من نطفة ثم يصبح علقة ثم مضغة ثم طفلاً إلى مرحلة البلوغ، ثم الوصول إلى أرذل العمر وهذه النماذج كلها ترتبط بالمعاد. يقول الفيض الكاشاني في كتابه<ref>عين اليقين، ص۴٢٢.</ref>: إنَّ الشوق (الغريزة باطنية) والطلب الذي أثبتناه للموجودات لو لم يكن لهما فائدة وغاية طبيعية لكان ارتكازه في الجلبة والغريزة عبثاً وهباء معطلاً، ولا تعطيل في الوجود ولا عبث في فعل الله سبحانه.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٨٠-٢٨٢.</ref>
 
==مراحل التكامل وربطها بالمعاد في القرآن==
يمكننا أنْ نبين بعض تلك الآيات التي تظهر تلك المراحل للتكامل الإنساني ودورها في بيان المعاد للخلائق يوم القيامة، قال تعالى: {{نص قرآني| يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ }} <ref>الحج: ٥-٧</ref>، قال تعالى {{نص قرآني|وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }} <ref>المؤمنون: ١٢-١٦</ref>، {{نص قرآني| أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}} <ref>القيامة: ٣٦-٤٠</ref>، من خلال هذه الآيات يكون الأمر واضحاً بأنَّ وراء هذا الكون الفسيح يد عظيمة تحرك هذه المسيرة نحو كمالها.
 
إذاً فالله الذي خلق ما خلق وأبدع ما أبدع سيبدل هذه الحركات في النهاية إلى سكون، وإنَّ المجموعة البشرية الدائبة في حركتها لا تتوقف في منتصف الطريق وإنما تستمر لتصل إلى الكمال المنشود، إذاً فلو لم تصل هذه كلها إلى الكمال المنشود لكان نقضاً للغرض، لهذا نجد التعبير عن يوم القيامة بأنه اليوم الذي يتميز فيه الخير من الشر، اليوم الذي يصل كل شيء إلى كماله المطلوب، فهو يوم الدين ويوم الفصل وهو يوم الخلود، فالذي لم يبذل الجهد المطلوب بل قصَّر فيه فيكون مغبوناً كما وصفه القرآن ب(يوم التغابن) و(يوم الحسرة) لأنَّ الذي عمل يتمنى لو عمل أكثر، والذي قصَّر يتمنى لو عمل وبذل جهداً لتحقيق الكمال المطلوب.
إذاً فالله الذي خلق ما خلق وأبدع ما أبدع سيبدل هذه الحركات في النهاية إلى سكون، وإنَّ المجموعة البشرية الدائبة في حركتها لا تتوقف في منتصف الطريق وإنما تستمر لتصل إلى الكمال المنشود، إذاً فلو لم تصل هذه كلها إلى الكمال المنشود لكان نقضاً للغرض، لهذا نجد التعبير عن يوم القيامة بأنه اليوم الذي يتميز فيه الخير من الشر، اليوم الذي يصل كل شيء إلى كماله المطلوب، فهو يوم الدين ويوم الفصل وهو يوم الخلود، فالذي لم يبذل الجهد المطلوب بل قصَّر فيه فيكون مغبوناً كما وصفه القرآن ب(يوم التغابن) و(يوم الحسرة) لأنَّ الذي عمل يتمنى لو عمل أكثر، والذي قصَّر يتمنى لو عمل وبذل جهداً لتحقيق الكمال المطلوب.
نستنتج من ذلك أنَّ الحركة التكاملية لا تتحقق ولاتصل إلى نتيجة إلا بوجود المعاد.
 
التكليف والمعاد
نستنتج من ذلك أنَّ الحركة التكاملية لا تتحقق ولاتصل إلى نتيجة إلا بوجود المعاد.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٨٢-٢٨٣.</ref>
 
==التكليف والمعاد==
إنَّ الله تبارك وتعالى لكي يحقق للإنسان سعادته في الدارين ويحقق مصاديق الهداية التامة، أرسل الأنبياء لإرشاد الناس إلى الطريق الصحيح وتحذيرهم عما فيه شقاؤهم وهلاكهم، وهذا من خلال التشريعات المقدسة التي تضمنتها الشريعة، فإذا كان الإنسان مكلفاً بمجموعة تكاليف شاقة، فيجتهد في العمل بالتكاليف ويتحمل من أجل القيام بهذه المصاعب كلها وهو مع ذلك يعيش في عالم كله محدودية وبؤس وحرمان وتعب إذاً ما الذي تم الحصول عليه من تلك التكاليف؟ سوى المتاعب والأذى!!
إنَّ الله تبارك وتعالى لكي يحقق للإنسان سعادته في الدارين ويحقق مصاديق الهداية التامة، أرسل الأنبياء لإرشاد الناس إلى الطريق الصحيح وتحذيرهم عما فيه شقاؤهم وهلاكهم، وهذا من خلال التشريعات المقدسة التي تضمنتها الشريعة، فإذا كان الإنسان مكلفاً بمجموعة تكاليف شاقة، فيجتهد في العمل بالتكاليف ويتحمل من أجل القيام بهذه المصاعب كلها وهو مع ذلك يعيش في عالم كله محدودية وبؤس وحرمان وتعب إذاً ما الذي تم الحصول عليه من تلك التكاليف؟ سوى المتاعب والأذى!!
فإذا لم يكن هناك معاد وكان هناك فقط عمل ولايوجد حساب، وكذلك لايوجد يوم آخر فيه حساب ولاعمل ولم يكن هناك عالم آخر وحياة أخرى يتم فيها تحقق ما تم من الوعد والوعيد والترغيب والتحذير في عالم آخر يلقى فيه الإنسان مثوبة أعماله وطاعته أو جزاء وعقاب عصيانه، إذاً لم تكن أي فائدة من بعثة الأنبياء{{عم}} وفي التحذيرات المستمرة والتبشيرات كلها التي جاءت في الشريعة المقدسة، فالطاعات والمعاصي كلها تكون أمور تافهة لأنها لم تحقق الهدف المنشود، وهل يمكن للحكيم المطلق أنْ يقوم بشيء من هذا القبيل، لهذا نجد أنَّ "المحقق الطوسي" في تجريد الاعتقاد يقول: (وجوب ايفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث)، و"العلامة الحلي"ق في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد يؤكد على هذين الدليلين:
 
۱- الوفاء بالوعد. ۲- الحكمة في التكليف.
فإذا لم يكن هناك معاد وكان هناك فقط عمل ولايوجد حساب، وكذلك لايوجد يوم آخر فيه حساب ولاعمل ولم يكن هناك عالم آخر وحياة أخرى يتم فيها تحقق ما تم من الوعد والوعيد والترغيب والتحذير في عالم آخر يلقى فيه الإنسان مثوبة أعماله وطاعته أو جزاء وعقاب عصيانه، إذاً لم تكن أي فائدة من بعثة الأنبياء{{عم}} وفي التحذيرات المستمرة والتبشيرات كلها التي جاءت في الشريعة المقدسة، فالطاعات والمعاصي كلها تكون أمور تافهة لأنها لم تحقق الهدف المنشود، وهل يمكن للحكيم المطلق أنْ يقوم بشيء من هذا القبيل، لهذا نجد أنَّ «المحقق الطوسي» في تجريد الاعتقاد يقول: (وجوب ايفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث)، و«العلامة الحلي» في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد يؤكد على هذين الدليلين:
يقول العلامة الحلي ق في كشف المراد بأنَّ المؤلف "المحقق الطوسي" أراد إثبات ضرورة البعث والمعاد بطريقتين:
#الوفاء بالوعد.
- الأولى: إنَّ الله تبارك وتعالى وعد الناس بالثواب والخير وبالآثار الجيدة على أعمالهم الحسنة، وحذرهم من العقاب السييء على أعمالهم السيئة، وإذا كنا نموت جميعاً وينتهي كل شيء ولايوجد هناك معاد يلزم منه تخلُف الوعد، وهذا لا يمكن، فالله تبارك وتعالى لابد أنْ يفي بوعده.
#الحكمة في التكليف.
- الثانية: إنَّ الله عزوجل كلف العباد بتكاليف صعبة وأعمال شاقة، فلابد أنْ يعوضهم عن هذا التكليف وإلا لم يكن حكيماً.
يقول العلامة الحلي ق في كشف المراد بأنَّ المؤلف «المحقق الطوسي» أراد إثبات ضرورة البعث والمعاد بطريقتين:
#إنَّ الله تبارك وتعالى وعد الناس بالثواب والخير وبالآثار الجيدة على أعمالهم الحسنة، وحذرهم من العقاب السييء على أعمالهم السيئة، وإذا كنا نموت جميعاً وينتهي كل شيء ولايوجد هناك معاد يلزم منه تخلُف الوعد، وهذا لا يمكن، فالله تبارك وتعالى لابد أنْ يفي بوعده.
# إنَّ الله عزوجل كلف العباد بتكاليف صعبة وأعمال شاقة، فلابد أنْ يعوضهم عن هذا التكليف وإلا لم يكن حكيماً.<ref>[[سيد فاضل ميلاني|ميلاني، سيد فاضل]]، [[العقائد الإسلامية (كتاب)|العقائد الإسلامية]]، ص ٢٨٣-٢٨٤.</ref>


== المراجع ==
== المراجع ==
{{مراجع}}
{{مراجع}}

المراجعة الحالية بتاريخ ٢٠:٣٠، ١٩ مارس ٢٠٢٣

تمهيد

هناك أدلة عدة استدلَّ بها العلماء على إمكانية المعاد وإثبات وجوده من خلال التفكر والتدبر واستعمال العقل وأدلته على ذلك، ونحن نذكر بعضاً من هذه الأدلة وبيانها ليكون الأمر واضحاً فيما يتعلق بحقيقة المعاد.

  1. لغوية الخلق بدون المعاد.
  2. المعاد من لوازم العدل.
  3. الحركة التكاملية الشاملة.
  4. التكليف والمعاد.

فلو لا البعث لكان الخلق لاغياً حيث إنَّ الخلق والإيجاد كان لغاية، فهذه الغاية تستلزم حتماً وجود الحياة بعد الموت. ولو انتهت الحياة بالموت ولم يكن هناك معاد ومرحلة للحياة بعد الموت، معنى ذلك أنَّ أصل الخلق لاغياً.[١]

لغوية الخلق بدون المعاد

لو لا المعاد لكان أصل الخلق لغواً باطلاً عبثاً، وبما أنَّ الثابت عندنا والعقيدة الصحيحة تقودنا للإيمان بأننا لم نخلق عبثاً وأنَّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإنسان سدى، ولم يخلق السماوات والأرض باطلاً وإنما لابد هناك من حقيقة خلق من أجلها وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [٢]، فالقرآن الكريم يركز على هذه الناحية بأنَّ مجرد تصور الإنسان واحتماله بأنْ لا توجد هناك قيامة ولا معاد، فإنَّ نفس هذا التصور يؤدي ويلازم الاعتقاد بأنَّ كل ما في الوجود عبث وباطل. إذاً يجب الإذعان بأنه لولا المعاد لكان الخلق باطلاً، وبما أنَّ الخلق ليس باطلاً إذاً لابد من وجود المعاد في يوم القيامة.

وللوصول إلى هذه الحقيقة نحتاج إلى بيان مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى:

إنَّ كل شيء في هذا الوجود إنما هو في مكانه المناسب، يعني لا يوجد شيء اسمه الباطل والفوضى واللانظام وإنما كل شيء مودع في مكانه ووضعه الخاص، بحيث أي تغيير من مكانه يحدث مجموعة من الآثار السلبية.

المقدمة الثانية:

إنَّ القرآن الكريم يعرف الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض، حيث قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [٣]، وإنَّ خلق الإنسان وجعله خليفته في الأرض إنما هو لهدفين:

  1. الامتحان والاختبار: قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [٤]
  2. العبادة والمعرفة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [٥]ز

فهذان الأمران (الابتلاء والعبادة) يذوبان في حقيقة واحدة وهي أنَّ الإنسان مختار، والتكاليف التي يكلف بها إنما هي لصقل مواهبه وإمكانياته واستعداده، ففي هذه الاختبارات والابتلاءات إما أنْ يصل إلى أعلى عليين أو ينزل إلى أدنى مستوى في أسفل السافلين، إذاً إما أنْ يختار بنفسه طريق الهداية ويتسامى أو ينزل إلى طريق الظلال ويتسافل.

فالله تبارك وتعالى لا يجهل شيئاً حتى يختبر البشر فهو العالم المطلق، عالم بالبشر وبالحقائق ولا يخفى عليه شيء والاختبار إنما هو لصقل مواهب البشر وقابليتهم وخروجها من درجة الشأنية والإمكان والقوة إلى درجة الفعلية، والقابليات الموجودة تبرز إلى عالم الوجود من خلال المعاناة ومن خلال التجربة والتكليف، ثم إنَّ الله تبارك وتعالى غني عن عبادة خلقه، وهذا أمر أساسي يجب على الإنسان أنْ يدركه حيث قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [٦]

المقدمة الثالثة

خلق الله تعالى الإنسان ليصل إلى كماله النهائي عن طريق الاختبار والعبادة ولابد أنْ يمر بسلسلة من الاختبارات والامتحانات والمحن والمصائب، إذاً هناك تناسب حقيقي وتناسب طردي بين مستوى الكمال والتكامل مع كثرة المصائب التي يمر بها الإنسان، يصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) هذه الدنيا وصفاً دقيقاً في إحدى خطبه فيقول: «دَارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لا تَدُومُ أحوالُها وَلايَسلَمُ نِزَّالُهَا الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ والأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وإِنَّمَا أهْلُهَا فِيهَا أغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرمِيهِم بِسِهامِها وَتُفنيهِم بِحِمامِها». وكما يقول أحدهم عن اللذة: « اللَّذَّةَ فِي الدُّنْيَا كالقطرةِ مِنْ بَحْرٍ ».

إذاً فالمعاناة والمشاكل في هذه الحياة الدنيا و(الكبد) بالتعبير القرآني تدل على أنَّ هناك مرحلة يحصل فيها الإنسان على نتيجة أعماله، ويقطف ثمار المعاناة الطويلة التي عاناها في الدنيا، فلا يُعقل أنْ يُخلق في الإنسان حُبُّ الكمال المنشود وهو في الدنيا يعاني المشاكل والمصائب ولا يخلق له حياة أخرى يجني فيها ثمار ما عاناه في الدنيا، فهذا عبثٌ ولغوٌ.

وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة في عدد من الآيات المباركة في كتابه المجيد تأكيداً على ذلك، منها:

قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٧]

قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [٨]

قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [٩]

قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [١٠]، إذاً فالله تبارك وتعالى ينفي العبثية واللغوية ويجعل ذلك مناقضاً للهدف الأصلي والغاية الحقيقية من خلق الإنسان.[١١]

المعاد من لوازم العدل

إنَّ كل ما في الوجود قائم على العدل والقسط بكلا المعنيين، العدل والقسط التكويني والعدل والقسط التشريعي.

ففيما يتعلق بالعدل في التكوين نجد قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [١٢]، فهناك حسابٌ دقيقٌ، ونظامٌ كاملٌ، وعدلٌ مطلقٌ في خلق السموات والأرض والشمس والقمر و...

وفيما يتعلق بالعدل التشريعي نرى الأمر الإلهي الموجه للإنسان في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [١٣]

إذاً فكل ما في عالم الخليقة إنما هو محسوبٌ بدقةٍ وقائمٌ على أساسِ العدلِ، كما أننا في حياتنا العملية يجب أنْ نلتزم بهذا القسط والعدل، لهذا نجد قول الرسول(ص): «بِالْعَدْلِ قامَتِ السَّماوَاتُ وَالأرضُ»، وأما في الجانب التشريعي قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [١٤]، فالنظام العام في المجتمع هو الالتزام بالحقوق والواجبات، ويجب أنْ يكون بميزانٍ دقيقٍ وقائمٍ على أساس العدل، بحيث يضمن لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه ويبين حدوده ومقدار تصرفاته وأنْ لا يعتدي على غيره في مجال التطبيق والاستفادة من حرياته، لأنَّ الإنسان بما أنه مختارٌ فإنه قد يحسن الاستفادة من الاختيار فيكون العدل، وقد يسيء الاستفادة من الحرية فيكون الظلم والجور، قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [١٥]، وقال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [١٦]، إذاً قد يسيء الفرد الاستفادة من الحرية والاختيار فيظلم ويعتدي ويجور على الآخرين ولكنه يعيش منعماً ومرفهاً وفي سعة من العيش في الدنيا، وفي مقابله من استفاد من الحرية والاختيار وأحسن فيهما فلم يظلم ولم يعتدِ على أحد في حياته، لكنه يعيش حياة ملؤها الشقاء والبؤس والتعاسة.

فيجب أنْ نتأمل في هاتين الصورتين ونفكر فيهما، فإذا كان الموت نهاية كل شيء فما الفرق إذاً بين المحسن وبين المسيء؟

وللإجابة على ذلك يمكن القول والاعتقاد بأنَّ العدلَ حقيقةٌ وأنه ضرورةٌ ثابتةٌ والعقلُ والشرعُ والآياتُ القرآنيةُ تدعم كلها هذا المعنى، فالعدل يستلزم حتماً وجود المعاد، لأنَّ هناك صلة دقيقة بين السعي والجزاء، وبين العمل والأثر المترتب عليه، ويجب علينا أنْ نكون على بينةٍ ويقينٍ من ذلك لنرى أثر.[١٧]

الآيات القرآنية التي تربط السعي بالجزاء

قد تعرض القرآن الكريم إلى بيان هذه الحقيقة من خلال الآيات المباركة التي أكدت على هذا المفهوم وهذه الحقيقة ليكون الإنسان على استعداد تام لذلك اليوم من خلال أعماله في الدنيا، ومن تلك الآيات:

  1. قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [١٨] فالتميز بين الفريقين إنما يكون في الحياة الآخرة من خلال أعمال الإنسان في الدنيا.
  2. قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [١٩]
  3. قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [٢٠]
  4. قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [٢١]
  5. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[٢٢]
  6. قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [٢٣]، إذاً فلو لا المعاد لكانت فكرة العدل فكرة لاغية ولا أساس لها ولم يكن هناك تطبيق لهذا العدل أبداً.[٢٤]

الحركة التكاملية

توجد حركة نحو الكمال في كل شيء، والحركة دائماً تحتاج إلى بداية ونهاية، فالكون كله من أصغر ذرة فيه إلى أكبر موجود فيه لم يُخلق عبثاً ولا توجد عشوائية وإنما هناك حركة مستمرة منظمة نحو الكمال.

فالذرات والمجرات والسدم والحيوانات والموجودات الحية وحتى الجمادات، النباتات على أنواعها كلها في حالة حركة دائبة بإتجاه الكمال الذي يناسبها، وهذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع لابد أنْ تنتهي يوماً حينما تصل إلى المقصد النهائي.

و هذه الحركة حركة اضطرارية، أي الحركة باتجاه الكمال ليست اختيارية وإنما هناك قانون يحكم هذه الحركة وهو قانون الجبر، الجبر العِلِّي والمعلولي، والقرائن تدل على أنَّ سنة الله تبارك وتعالى جرت الخلق والكون، وإرادة الله ومشيئته تتمثل في هذا النظام الدقيق للترابط العِلِّي والمعلولي، لكن حينما تنتهي هذه الحركة إلى الكمال المطلق تزول وتنتهي، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ[٢٥]، إذاً فكل شيء سوى الله مرتبط بالزوال لأنه في هذه الحركة يستمر إلى أنْ ينتهي إلى المقصد الأسمى وهو الله تبارك وتعالى.

يقول الفيض الكاشاني في كتابه «علم اليقين»: فللإنسان حركة طبيعية (في مقابل الاختيارية) ذاتية من لدن نشأته ومبدئه إلى آخر البعثة ولقائه بارئه ومعاده، وإليه أشار تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [٢٦]، والكدح هو الجهد. وكدحاً: الجهد المستمر المتواصل الذي لاينقطع. فملاقيه: المقصد النهائي.

ثم يقول: والموت والبعث منزلان في منازل هذا الطريق لابد من المرور عليهما، بالتالي الحركة ضرورية والموت ضرورة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [٢٧]، وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٢٨]، فيكون المصير بعد ذلك إلى الله تعالى كما قال عزوجل: هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٩]، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [٣٠]، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٣١]، إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [٣٢]، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [٣٣]، وغيرها من الآيات .. فالحركة التكاملية إنما تستقر ولا تنقطع باتجاه الكمال المطلق، وفي الحياة الدنيا نحن نشاهد هذه الحركة ولكننا لانشاهد الوصول والمقصد ولانشاهد اللقاء الإلهي.

إذاً يمكن أنْ نبين ما يتعلق بهذه الحركة التكاملية إن الإنسان متحرك تلقائياً أراد ذلك أو لم يرد، غاية ما هناك أنه يختار نوع الحركة، أي إما يكون متحركاً باتجاه الفضيلة والكمال فيصل إلى أعلى عليين باختياره، أو باتجاه الرذيلة والنقص فيصل إلى أسفل سافلين، لكن أصل التحرك لا يملك الإنسان اختيارها لأنه لابد منها، وإنَّ الشوق نحو الكمال أمر غريزي عند الإنسان وليس اختياري، وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة للحركة التكاملية للإنسان، حيث بيَّن أنه خُلق من تراب ثم من نطفة ثم يصبح علقة ثم مضغة ثم طفلاً إلى مرحلة البلوغ، ثم الوصول إلى أرذل العمر وهذه النماذج كلها ترتبط بالمعاد. يقول الفيض الكاشاني في كتابه[٣٤]: إنَّ الشوق (الغريزة باطنية) والطلب الذي أثبتناه للموجودات لو لم يكن لهما فائدة وغاية طبيعية لكان ارتكازه في الجلبة والغريزة عبثاً وهباء معطلاً، ولا تعطيل في الوجود ولا عبث في فعل الله سبحانه.[٣٥]

مراحل التكامل وربطها بالمعاد في القرآن

يمكننا أنْ نبين بعض تلك الآيات التي تظهر تلك المراحل للتكامل الإنساني ودورها في بيان المعاد للخلائق يوم القيامة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [٣٦]، قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٣٧]، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٣٨]، من خلال هذه الآيات يكون الأمر واضحاً بأنَّ وراء هذا الكون الفسيح يد عظيمة تحرك هذه المسيرة نحو كمالها.

إذاً فالله الذي خلق ما خلق وأبدع ما أبدع سيبدل هذه الحركات في النهاية إلى سكون، وإنَّ المجموعة البشرية الدائبة في حركتها لا تتوقف في منتصف الطريق وإنما تستمر لتصل إلى الكمال المنشود، إذاً فلو لم تصل هذه كلها إلى الكمال المنشود لكان نقضاً للغرض، لهذا نجد التعبير عن يوم القيامة بأنه اليوم الذي يتميز فيه الخير من الشر، اليوم الذي يصل كل شيء إلى كماله المطلوب، فهو يوم الدين ويوم الفصل وهو يوم الخلود، فالذي لم يبذل الجهد المطلوب بل قصَّر فيه فيكون مغبوناً كما وصفه القرآن ب(يوم التغابن) و(يوم الحسرة) لأنَّ الذي عمل يتمنى لو عمل أكثر، والذي قصَّر يتمنى لو عمل وبذل جهداً لتحقيق الكمال المطلوب.

نستنتج من ذلك أنَّ الحركة التكاملية لا تتحقق ولاتصل إلى نتيجة إلا بوجود المعاد.[٣٩]

التكليف والمعاد

إنَّ الله تبارك وتعالى لكي يحقق للإنسان سعادته في الدارين ويحقق مصاديق الهداية التامة، أرسل الأنبياء لإرشاد الناس إلى الطريق الصحيح وتحذيرهم عما فيه شقاؤهم وهلاكهم، وهذا من خلال التشريعات المقدسة التي تضمنتها الشريعة، فإذا كان الإنسان مكلفاً بمجموعة تكاليف شاقة، فيجتهد في العمل بالتكاليف ويتحمل من أجل القيام بهذه المصاعب كلها وهو مع ذلك يعيش في عالم كله محدودية وبؤس وحرمان وتعب إذاً ما الذي تم الحصول عليه من تلك التكاليف؟ سوى المتاعب والأذى!!

فإذا لم يكن هناك معاد وكان هناك فقط عمل ولايوجد حساب، وكذلك لايوجد يوم آخر فيه حساب ولاعمل ولم يكن هناك عالم آخر وحياة أخرى يتم فيها تحقق ما تم من الوعد والوعيد والترغيب والتحذير في عالم آخر يلقى فيه الإنسان مثوبة أعماله وطاعته أو جزاء وعقاب عصيانه، إذاً لم تكن أي فائدة من بعثة الأنبياءقالب:عم وفي التحذيرات المستمرة والتبشيرات كلها التي جاءت في الشريعة المقدسة، فالطاعات والمعاصي كلها تكون أمور تافهة لأنها لم تحقق الهدف المنشود، وهل يمكن للحكيم المطلق أنْ يقوم بشيء من هذا القبيل، لهذا نجد أنَّ «المحقق الطوسي» في تجريد الاعتقاد يقول: (وجوب ايفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث)، و«العلامة الحلي» في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد يؤكد على هذين الدليلين:

  1. الوفاء بالوعد.
  2. الحكمة في التكليف.

يقول العلامة الحلي ق في كشف المراد بأنَّ المؤلف «المحقق الطوسي» أراد إثبات ضرورة البعث والمعاد بطريقتين:

  1. إنَّ الله تبارك وتعالى وعد الناس بالثواب والخير وبالآثار الجيدة على أعمالهم الحسنة، وحذرهم من العقاب السييء على أعمالهم السيئة، وإذا كنا نموت جميعاً وينتهي كل شيء ولايوجد هناك معاد يلزم منه تخلُف الوعد، وهذا لا يمكن، فالله تبارك وتعالى لابد أنْ يفي بوعده.
  2. إنَّ الله عزوجل كلف العباد بتكاليف صعبة وأعمال شاقة، فلابد أنْ يعوضهم عن هذا التكليف وإلا لم يكن حكيماً.[٤٠]

المراجع

  1. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٤.
  2. المؤمنون: ۱۱٥
  3. البقرة: ٣٠
  4. الملك: ٢.
  5. الذاريات: ٥٦.
  6. فاطر: ١٥ز
  7. ص: ۲۷.
  8. الجاثية: ٢١.
  9. المؤمنون: ١١٥
  10. القيامة: ٣٧-٤٠
  11. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٥-٢٧٧.
  12. الرحمن: ٥-٧.
  13. الرحمن: ۹.
  14. الحديد: ٢٥.
  15. الإنسان: ٣.
  16. البلد: ۱۰.
  17. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٨-٢٧٩.
  18. ص: ۲۸.
  19. غافر: ۵٩.
  20. غافر: ۱۷.
  21. النجم: ٣١.
  22. يونس: ٤٤.
  23. فصلت: ٤٦.
  24. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٩-٢٨٠.
  25. الرحمن: ٢٦.
  26. الانشقاق: ۶.
  27. الانشقاق: ۶.
  28. المؤمنون: ١٦.
  29. يونس: ٥٦
  30. النجم: ٤٢
  31. البقرة: ١٥٦
  32. مريم: ٤٠
  33. الفجر: ۲۸.
  34. عين اليقين، ص۴٢٢.
  35. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٠-٢٨٢.
  36. الحج: ٥-٧
  37. المؤمنون: ١٢-١٦
  38. القيامة: ٣٦-٤٠
  39. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٢-٢٨٣.
  40. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٣-٢٨٤.