إثبات المعاد
تمهيد
هناك أدلة كثيرة استخدمها العلماء لإثبات إمكانية المعاد ووجوده من خلال التفكير والتأمّل واستخدام العقل.
أدلة إثبات إمكانيّة المعاد
سنذكر بعضاً من هذه الأدلة وشرحها بشكل واضح لفهم حقيقة المعاد.
أوّلاً: لغويّة الخلق بدون المعاد
لو لم يكن هناك معاد، لكان الخلق والإيجاد عبثاً وبدون هدف. ولكن عقيدتنا الصحيحة تقودنا للإيمان بأنّنا لم نُخلق عبثاً وأنّ الله تعالى لم يترك الإنسان سدى، ولم يخلق السماوات والأرض باطلاً، بل لابدّ أن يكون هناك حقيقة وهدف للخلق. كما قال تعالى: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[١]. فالقرآن يؤكّد على أنّ مجرد تصور الإنسان بعدم وجود قيامة ومعاد، يؤدّي للاعتقاد بأنّ كلّ ما في الوجود عبث وباطل. لذلك يجب الإيمان بأنّه لولا المعاد لكان الخلق باطلاً، وبما أنّ الخلق ليس باطلاً، فلابدّ من وجود المعاد في يوم القيامة. وللوصول إلى هذه الحقيقة نحتاج إلى ثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: كلّ شيء في هذا الوجود موجود في مكانه المناسب، ولا يوجد شيء اسمه الباطل والفوضى، بل كلّ شيء مرتّب ومنظّم بحيث لو تغيّر من مكانه لحدثت آثار سلبية.
المقدمة الثانية: القرآن يعرّف الإنسان بأنّه خليفة الله في الأرض، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[٢]. وخلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض له هدفان:
- الامتحان والاختبار:قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[٣].
- العبادة والمعرفة:قال جلّ وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[٤].
فالابتلاء والعبادة يعنيان أنّ الإنسان مختار، والتكاليف الموكّلة إليه هي لتنمية مواهبه واستعداداته. ففي هذه الاختبارات إمّا أن يصل لأعلى الدرجات، أو ينزل لأدناها بناءاً على اختياره. والله تعالى لا يجهل شيئًا حتّى يختبر البشر، فهو العالم المطلق بكلّ شيء. والاختبار هو لتحويل قابليّات البشر من مرحلة الإمكان إلى الفعل عن طريق المعاناة والتجربة. كما أنّ الله غني عن عبادة خلقه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[٥].
المقدمة الثالثة: خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لكي يصل إلى الكمال الأسمى عن طريق الابتلاء والعبادة. ولابدّ أن يمرّ الإنسان في حياته بسلسلة من الاختبارات والمحن والمصائب. فكلّما زادت المصائب التي يواجهها الإنسان، ارتفع مستوى كماله وتقدّمه. يصف الإمام علي بن أبي طالب (ع) هذه الدنيا وصفاً دقيقاً في إحدى خطبه فيقول: «دَارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لا تَدُومُ أحوالُها وَلايَسلَمُ نِزَّالُهَا الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ والأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وإِنَّمَا أهْلُهَا فِيهَا أغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرمِيهِم بِسِهامِها وَتُفنيهِم بِحِمامِها»[٦]. وكما يقول أحدهم عن اللذة: «اللَّذَّةَ فِي الدُّنْيَا كَالْقَطْرَةِ مِنْ بَحْرٍ»[٧]. أي أنّ المتع والملذّات في هذه الدنيا قليلة جدّاً مقارنة بالمعاناة والمشاكل.
إذن فالمعاناة والمشاكل في هذه الحياة الدنيا، أو ما يسمّيه القرآن الكريم بـ «الكبد»[٨]، تشير إلى أنّ هناك حياة أخرى بعد الموت يحصل فيها الإنسان على نتيجة أعماله، ويجني ثمار ما عاناه في الدنيا من مشاكل ومصائب. فلا يعقل أن يخلق الله في الإنسان حبّ الكمال والسعادة، ثمّ يتركه يعاني في الدنيا دون أن يخلق له حياة أخرى ينال فيها جزاء صبره. فهذا عبث ولغو لا يليق بحكمة الله وعدله. وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها:
- قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾[٩].
- قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[١٠].
- قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[١١].
- قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ * يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[١٢].
إذن فالله سبحانه ينفي أن يكون خلق الإنسان عبثاً ولغواً، ويؤكّد أنّ الحياة الآخرة هي الهدف الحقيقي وراء خلق الإنسان[١٣].
ثانياً: المعاد من لوازم العدل
إنّ كلّ ما في الكون قائم على العدل والقسط، سواء في الخلق والتكوين أو في التشريع والأحكام. ففيما يتعلّق بالعدل في الخلق، يقول تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾[١٤]، فهناك نظام دقيق وعدل تامّ في خلق السماوات والأرض والشمس والقمر وكلّ شيء.
وفيما يتعلّق بالعدل في التشريع، يأمر الله الإنسان قائلاً: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[١٥]، ويقول الرسول (ص): «بِالْعَدْلِ قامَتِ السَّماوَاتُ وَالأرضُ»[١٦]، ويقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[١٧]، فالشرائع الإلهية وُضعت لإقامة العدل والقسط بين الناس.
لكن الإنسان بما أنّه مُختار، فقد يحسن الاختيار فيعدل ويقسط وقد يسيء الاختيار فيظلم ويجور، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾[١٨]، وقال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[١٩]. فقد يظلم شخص ويعتدي على الآخرين ثمّ يعيش منعمّاً مرفّهاً في الدنيا، وفي المقابل قد يعدل آخر ولا يظلم أحداً لكن يحيا شقيّاً بائساً. فلو كان الموت نهاية كلّ شيء، فأين العدل في ذلك؟
العقل والشرع يقولان إنّ العدل حقيقة ثابتة، وهو يستلزم وجود حياة أخرى بعد الموت تتحقّق فيها العدالة وينال كلّ شخص جزاء ما عمل، وهذا ما نسمّيه بالمعاد.
الآيات القرآنية التي تربط السعي بالجزاء
إنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه الكريم آيات كثيرة تبيّن أنّ الإنسان سيحاسب على أعماله يوم القيامة. وهذه الآيات تؤكّد على أنّ الإنسان يجب أن يستعدّ لذلك اليوم العظيم بأعماله الصالحة في الدنيا. ومن هذه الآيات:
- قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾[٢٠]. يعني أنّ الفرق بين المؤمنين والكافرين سيظهر في الآخرة بناءاً على أعمالهم في الدنيا.
- وقال أيضاً: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[٢١]. أي أنّ يوم القيامة سيأتي حتماً ولا شكّ فيه، لكن معظم الناس لا يؤمنون بذلك.
- وقال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[٢٢]. بمعنى أن كل إنسان سيجازى على أعماله يوم القيامة بالعدل، فالله سريع في حسابه.
- وقال عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾[٢٣]. أي أنّ الله مالك كلّ شيء، وسيجازي المسيئين على إساءتهم والمحسنين على إحسانهم.
- وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[٢٤]. يعني أنّ الله لا يظلم الناس أبداً، بل هم الذين يظلمون أنفسهم بأعمالهم السيّئة.
- وقال سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ﴾[٢٥]. أي أنّ من يعمل الصالحات فهو ينفع نفسه، ومن يفعل السيّئات فهو يضرّ نفسه، والله ليس بظلّام للعباد.
إذن لو لم يكن هناك يوم للحساب، لما كان للعدل الإلهي معنى ولا تطبيق[٢٦].
ثالثاً: الحركة التكاملية
كلّ شيء في هذا الكون يتحرّك نحو الكمال. وكلّ حركة لها بداية ونهاية. فالكون بأكمله، من أصغر ذرّة فيه إلى أكبر مجرة، لم يُخلق عبثاً بل هناك حكمة وراء خلقه. وهناك حركة مستمرّة ومنظمّة في كلّ شيء نحو كماله المناسب له. فنرى أنّ الذرّات والمجرات والكواكب والنجوم والكائنات الحيّة والجمادات والنباتات، كلّها تتحرّك باستمرار نحو كمالها الخاصّ بها. وهذه الحركة الدائمة لابدّ أن تصل في يوم مّا إلى نهايتها وغايتها. وهذه الحركة التكاملية ليست اختيارية، بل هي حركة اضطرارية محكومة بقانون إلهي دقيق هو قانون السببية. وتدلّ الأدلة على أنّ مشيئة الله نافذة في هذا النظام المحكم للكون. لكن عندما تصل هذه الحركة إلى كمالها المطلق، فإنّها تنتهي وتزول. قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾[٢٧]. إذن فكلّ المخلوقات ستفنى؛ لأنّها تتحرّك نحو مقصدها الأسمى وهو الله تعالى. يقول الفيض الكاشاني في كتابه «علم اليقين»: إنّ الإنسان يتحرّك بفطرته من بداية خلقه إلى نهاية معاده ولقاء ربّه. وقد أشار الله لذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾[٢٨]. والكدح هو الجهد والسعي المتواصل لتحقيق الهدف. ويقول أيضاً: إنّ الموت والبعث مرحلتان في مسيرة الإنسان التكاملية، فيجب أن يمرّ بهما، فالحركة ضرورية والموت حتمي لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾[٢٩]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾[٣٠]. ثمّ يكون المصير بعد ذلك إلى الله كما قال:
- ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[٣١].
- ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾[٣٢].
- ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[٣٣].
- ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾[٣٤].
- ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[٣٥].
وغيرها من الآيات. فالحركة التكاملية تستمرّ حتّى تصل إلى الكمال المطلق وتستقرّ عنده. ونحن في الدنيا نرى هذه الحركة، لكنّنا لا نشاهد نهايتها أو اللقاء مع الله.
إذن يمكن القول بأنّ الإنسان يتحرّك بشكل تلقائي سواء أراد أم لم يرد، لكنّه يختار نوع حركته، إمّا نحو الخير والفضيلة فيصل إلى أعلى الدرجات، أو نحو الشر والرذيلة فينتهي إلى أسفل الدركات. لكنّ أصل الحركة فهو أمر ضروري لا خيار له فيه. والتوق أي الاشتياق نحو الكمال فطري في الإنسان وليس اختياريّاً. وقد ضرب القرآن أمثلة لهذه الحركة التكاملية للإنسان، فبيّن أنّه خُلق من تراب ثمّ من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ طفلاً فبالغاً فشيخاً. وكلّ هذه المراحل مرتبطة بالمعاد. يقول الفيض الكاشاني[٣٦]: إنّ الشوق الفطري والطلب الغريزي الذي أثبتناه للمخلوقات لو لم يكن له فائدة وغاية لكان عبثاً وباطلاً، ولا تعطيل ولا عبث في فعل الله سبحانه[٣٧].
مراحل التكامل وربطها بالمعاد في القرآن
يمكننا أن نبيّن بعض تلك الآيات التي تظهر تلك المراحل للتكامل الإنساني ودورها في بيان المعاد للخلائق يوم القيامة:
- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾[٣٨].
- وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾[٣٩].
- وقال أیضاً: ﴿أَ يَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[٤٠].
هذه الآيات توضّح بأنّ وراء هذا الكون العظيم خالق حكيم يدير هذه الحركة التكاملية نحو كمالها. فالله الذي خلق هذا الكون العظيم سيحوّل هذه الحركة في النهاية إلى سكون. والبشرية التي تتحرّك باستمرار لا تتوقّف في منتصف الطريق، بل تستمرّ لتصل إلى كمالها المنشود. ولو لم تصل إلى هذا الكمال لكان ذلك مخالفاً للحكمة الإلهية. لذلك يصف القرآن يوم القيامة بأنّه اليوم الذي يتميّز فيه الخير من الشر، واليوم الذي يصل فيه كلّ شيء إلى كماله. فهو يوم الدين ويوم الفصل ويوم الخلود. فمن لم يبذل الجهد المطلوب يكون خاسراً، ويسمّى «يوم التغابن» و«يوم الحسرة»؛ لأنّ من عمل الصالحات يتمنّى لو عمل أكثر، ومن قصر يتمنّى لو كان قد عمل وجاهد لتحقيق الكمال.
نستنتج من ذلك أنّ الحركة التكاملية لا تتحقّق ولا تصل إلى نتيجتها إلّا بوجود المعاد والحياة الأخرى[٤١].
رابعاً: التكليف والمعاد
إنّ الله تعالى أرسل الأنبياء لهداية الناس إلى الطريق الصحيح وتحذيرهم ممّا يضرّهم، وذلك من خلال التشريعات الدينية. فلو كان الإنسان مكلّفاً بأعمال شاقّة ويجتهد في القيام بها رغم المصاعب والمشقّة، ثمّ مع ذلك يعيش في عالم محدود ومليء بالحرمان والتعب، فما الفائدة من هذه التكاليف إن لم تكن هناك حياة أخرى يجزى فيها على أعماله؟ فلو لم يكن هناك يوم آخر للحساب والجزاء، ولم تكن هناك حياة أخرى يلقى فيها الإنسان ثواب طاعته أو عقاب معصيته، لما كان لبعثة الأنبياء وللتحذيرات والبشارات الواردة في الشرائع أيّ فائدة. ولأصبحت الطاعات والمعاصي أموراً تافهة لا قيمة لها. فهل يمكن للحكيم المطلق أن يفعل شيئاً بلا حكمة؟ لهذا يقول المحقق الطوسي: «وجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث». ويؤكّد العلامة الحلي على دليلين لإثبات ضرورة المعاد:
- إنّ الله وعد الناس بالثواب على أعمالهم الصالحة وحذّرهم من العقاب على السيّئات. ولو لم يكن هناك معاد لكان ذلك تخلّفاً للوعد وهو محال على الله.
- إنّ الله كلّف العباد بتكاليف شاقّة، فلابدّ أن يجازيهم عليها، وإلّا لم يكن حكيماً[٤٢].
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة المؤمنون، الآية ١١٥.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٣٠.
- ↑ سورة الملك، الآية ٢.
- ↑ سورة الذاريات، الآية ٥٦.
- ↑ سورة فاطر، الآية ١٥.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة: ٢٢٦.
- ↑ نظام الدين، النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان (التفسير النيسابوري) ٣: ٥٥٨.
- ↑ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ سورة البلد، الآية 4.
- ↑ سورة ص، الآية ۲۷.
- ↑ سورة الجاثية، الآية ٢١.
- ↑ سورة المؤمنون، الآية ١١٥.
- ↑ سورة القيامة، الآية ٣٧ - ٤٠
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ٢٧٥ - ٢٧٧.
- ↑ سورة الرحمن، الآية ٥ - ٧.
- ↑ سورة الرحمن، الآية ۹.
- ↑ محمد بن زين الدين، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي ٤: ١٠٣.
- ↑ سورة الحديد، الآية ٢٥.
- ↑ سورة الإنسان، الآية ٣.
- ↑ سورة البلد، الآية ۱۰.
- ↑ سورة ص، الآية ۲۸.
- ↑ سورة غافر، الآية ۵٩.
- ↑ سورة غافر، الآية ۱۷.
- ↑ سورة النجم، الآية ٣١.
- ↑ سورة يونس، الآية ٤٤.
- ↑ سورة فصّلت، الآية ٤٦.
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ٢٧٩ و ٢٨٠.
- ↑ سورة الرحمن، الآية ٢٦.
- ↑ سورة الانشقاق، الآية ۶.
- ↑ سورة الانشقاق، الآية ۶.
- ↑ سورة المؤمنون، الآية ١٦.
- ↑ سورة يونس، الآية ٥٦.
- ↑ سورة النجم، الآية ٤٢.
- ↑ سورة البقرة، الآية ١٥٦.
- ↑ سورة مريم، الآية ٤٠.
- ↑ سورة الفجر، الآية ۲۸.
- ↑ انظر: عين اليقين: ۴٢٢.
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ٢٨٠ - ٢٨٢.
- ↑ سورة الحج، الآية ٥ - ٧.
- ↑ سورة المؤمنون، الآية ١٢ - ١٦.
- ↑ سورة القيامة، الآية ٣٦ - ٤٠.
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ٢٨٢ و ٢٨٣.
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ٢٨٣ و ٢٨٤.