إثبات ضرورة النبوة
تمهيد
ضرورة البعثة أمر جلي حيث أننا نحتاج إلى نبي مرشد يبينن لنا الطريق الصحيح حتى لو كان العقل متكاملاً، بل حتى لو كان التقدم العلمي موجود على الصعيد العام.
وإنَّ المسلمين لهم كلام في صورة هذا الوجوب فهناك طائفة من المسلمين قالوا بالوجوب عقلاً، وطائفة قالوا بالجواز عقلاً.
فالمعتزلة والإمامية ذهبوا إلى وجوب البعثة عقلاً ويعني يجب إرسال الأنبياء عقلاً.
وأما الأشاعرة فإنهم قالوا بأنه لا يوجد مثل هذا الوجوب العقلي، بل الرسالة قالت بذلك الوجوب.
وإن النقاش في هذه المسألة على الصعيد الإسلامي مرة نتحدث بأسلوب كلامي ومرة نتحدث بأسلوب حديث مثل ما تحدثنا في الأدلة على إثبات الخالق مرة على الأسلوب القديم أسلوب الوجوب والإمكان وأسلوب القديم والحدوث والانتقال من كون العالم حادث إلى ضرورة محدث أو الانتقال من نماذج الوجود الممكن إلى الوجود الواجب لذاته الذي يتجرد عن الماهيات والإمكانية لكن في مقابل الأسلوب القديم في إثبات الخالق انتقلنا إلى الأسلوب الحديث وذكرنا ثلاثة أمثلة ونماذج مختلفة مثل برهان النظام والاحتمالات الأربعة وما شاكل ذلك حتى نصل إلى النتيجة الواحدة وهي إثبات الخالق. كذلك هنا في مجال النبوة ففي الأسلوب الكلامي القديم قد اختلف المتكلمون المسلمون في حكم النبوة أو في بعث الأنبياء من قبل الله تبارك وتعالى على قولين الوجوب عقلاً. وهو مذهب المعتزلة والإمامية وخلاصة كلامهم أنَّ التكاليف الشرعية هي ألطاف في التكاليف العقلية بمعنى أنَّ الإنسان المكلف متى ما واضب على الامتثالات الشرعية كان أقرب الى التكاليف العقلية، والمقصود بذلك هو قاعدة اللطف تلك القاعدة الكلامية الجارية في كثير من الموارد حيث أنها تجري في مسألة النبوة والتكليف والإمامة والعصمة.. يعني بعبارة أخرى أننا نحن نحتاج الى بيان قاعدة اللطف على منهج الكلاميين في نطاقات وإطارات مختلفة.
وقاعدة اللطف هي قاعدة عقلية كما هو معروف فإننا نعرف أنَّ الله تبارك وتعالى يريد من الناس أن يطيعوه وإنَّ هذه الطاعة تحتاج إلى مقدمات، ومن مقدماتها إرسال الرسل الذين يهدونهم الى الطريق الصحيح ويعرفوهم كيف يعبدوا الله تبارك وتعالى، فلو لو لميكن هناك مرشد يرشدنا إلى الطريق الصحيح للعبادة ونحن نعرف أنَّ الله تبارك وتعالى يريد منا العبادة وليس لديه مرشد يرشد إلى الطريق، فعند ذلك نرى كل واحد يسلك طريقاً يختلف عن الآخر، إذا فالله تبارك وتعالى يريد لنا الهداية ويريد لنا الطاعة ويريد منا أن نسلك طريق الهداية والطاعة والعبادة ويعرف إنَّ هذا الهدف لا يتحقق إلا إذا أرسل لنا أنبياء يرشدون إلى الطريق الصحيح، ولهذا نجد تعبيراً جيداً لعلماء الكلام يقولون انّ المكلفين لا يطيعوا الله إلا باللطف، أي بالشيء الذي يمهده للطاعة فلا يكلفه بدونه لأنه لو كلفه بدون اللطف لكان ناقضاً لغرضه، والله تبارك وتعالى حكيم لا يكون ناقضاً لغرضه.
فقاعدة اللطف تسري في النبوة وفي الإمامة والعصمة ولها مجال واسع ولذا المعتزلة قالوا يجب إرسال الرسل لأنَّ قاعدة اللطف واجبة عقلاً وأنها تتوقف على الهداية وما تتوقف عليه الطاعة أمور يمهدها الله تبارك وتعالى والعقل يحكم بذلك وإلا لكان الله تبارك وتعالى ناقضاً لغرضه وهو مستحيل لأنَّ الإنسان العادي لا يفعل هذا فكيف بالله تبارك وتعالى الحكيم وهو خالق الحكمة ..
وينبغي التأكيد على أنَّ قاعدة اللطف تتوقف على مسألة الحسن والقبح العقليين فإذن يمكننا الحديث عن أمور مهمة لها علاقة بقاعدة اللطف منها:
الأمر الأول: الحسن والقبح العقليان
فهل يحكم العقل بحسن بعض الأشياء وقبح بعضها أم لا؟
فالمسلمون قد اختلفوا في ذلك حيث ذهب الإمامية والمعتزلة إلى أنَّ الحسن والقبح عقليان، فالعقل يحكم بأنَّ هذا الشيء حسن وأنَّ هذا الشيء قبيح حتى ولو لمتكن هناك نظرة للشرع فيها، وبطبيعة الحال نظرة العقل ونظرة الشرع متطابقة دائماً، يعني بعبارة أخرى الصدق بحد ذاته يحسنه العقل سواء كان الإنسان مسلماً أم غير مسلم وسواء كان ملتزماً بالدين أو غير ملتزم، فهناك حكم عقلي وهناك استنباط عقلي بأنَّ الصدق جيدٌ حسنٌ وبعكسه الكذب قبيح، إذا الصدق حسن والكذب قبيح عقلاً سواء جاء الشارع ليؤكد ذلك أم لا، فالشرع يطابق العقل في ذلك العدل والحسن وكذا في الظلم والقبح وهذا في كل الشرائع وكل المذاهب، بل في كل الثقافات وفي كل الأمم المتحضرة وغير المتحضرة كلها على حد سواء تتفق على أنَّ العدل حسن والظلم قبيح، وهذا يكشف على تأصل عقلي وقناعة مقبولة لدى العقلاء كلهم، وينطلقون من حكم عقلي متتفق عليه بأنَّ العدل حسن والظلم قبيح.
أما الأشاعرة فإنَّ لهم موقفاً مغايراً حيث يقولون إنَّ الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه الشارع وليس العقل، وعلى ذلك فلا مانع عند الأشاعرة من أن يُدخل الله تبارك وتعالى كل الأنبياء في النار ويعذبهم، ويُدخل كل العصاة في الجنة وينعم عليهم ويغدق عليهم بالنعم ولا يوجد أي إشكال في الأمر. فإذا قيل لهم بأنَّ هذا ظلم. قالوا لا مجال للظلم فإنَّ كل شيء يفعله الله تبارك وتعالى هو جيد، لأنَّ الشيء الصادر من الله تبارك وتعالى الحكيم لا يكون إلا جميلاً وحكيماً، ولكن هل يمكن الله الحكيم الذي يأمر عباده بالعدل والإحسان والعاقبة الحسنة بالجنة وبعدها ينقض هذا كله من أساسه! فهذا غير معقول ولا يمكن القول به.
الأمر الثاني: الحكيم لا ينقض غرضه
أنما إنَّ الله تبارك وتعالى حكيم وقد خلق العباد لحكمة ﴿أَفَحَسبتم انما خَلَقْناكُمْ عَبَثا وَأَنكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْحَمُونَ﴾ فهناك هدف ونظام وحكمة وراء كل صغيرة في التشريع، فالله تبارك وتعالى خلق العالم وخلق الكون وخلق الإنسان لحكمة ولغرض، والحكيم لا ينقض غرضه وتصرفه، بل كل أوامره ونواهيه تتماشى مع الهدف والغرض.
فالإنسان العادي الذي يملك شيئاً بسيطاً من الشعور والعقل والفهم لا يقوم بنقض غرضه الذي يريد أن يقوم به بعد أن أحكم أمره فكيف بالله تبارك وتعالى وهو الحكيم فهل يمكن أن ينقض غرضه.
الأمر الثالث: إرادة الله تعالى الطاعة من العباد.
إنَّ الله عزوجل أراد من عباده أن يطيعوه وهو يعلم إنَّ هذه الطاعة تتوقف على إرسال الأنبياء ليعرفوا العباد كيفية الطاعة، إذا فهذا أمر لا يمكن أن يتحقق من غير اللطف بعباده بإرسال من يعرفهم ذلك.
فهذا الشيء الذي يريده يتوقف على بيان هذه المقدمة وهي عبارة عن إرسال الأنبياء والمرسلين لعباده، فالمسألة تدور مدار إنَّ الله تبارك وتعالى حكيم يريد لغرضه أن لا يُنقض ويريد من عباده الطاعة وكل ذلك يوجب بعث الأنبياء ...
فعدم إرسال الأنبياء يعني إما أنَّ الله تبارك وتعالى ناقض لغرضه وليس حكيماً أو أنه لا يريد الطاعة من الناس، أو لا يهمه الناس أطاعوا أو لم يطيعوا، وكل ذلك غير معقول لأنَّ الله تبارك وتعالى حكيم عليم ولا يمكن أن ينقض غرضه، فلما كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً بعث كل أولئك الأنبياء ليعرفوا العباد بخالقهم لأنه لا يمكن مشاهدته فيباشرهم ويباشرونه ويحاجهم ويحاجونه فهذه مسألة أساسية يجب معرفتها بوضع صلة بين العباد وربه وبما أنّ الصلة ليست مباشرة إذا ثبت أنَّ له سفراء من جنس البشر في خلقه يقوموا بمسؤوليتهم.
فإذن لأجل تحقيق النظام المتكامل في الدنيا لابد من وجود نظام مستقيم يحقق العدل في العلاقات الاجتماعية وفي جميع السلوك الإنساني الذي يحدد الوظائف والواجبات الحقوق والحريات، ومن الواضح إنَّ هذا النظام لو وضع من قبل الإنسان فإنه لا يكون مستقيماً محققاً للعدل لأنَّ الإنسان ناقص، والناقص مستحيل أن يوجد الكمال وذلك للقاعدة العقلية المعروفة والمتفق عليها بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلابد أن يكون وضع النظام من قبل المتصف بالكمال المطلق وهو الله تبارك وتعالى.
من خلال ذلك نرى كيف يرتبط بحث التوحيد والعدل والنبوة بجملة واحدة وهي الكمال المطلق، وإنَّ هذا الكمال المطلق ينحصر بالله تعالى، فالعدل كذلك يقتضي الكمال المطلق والكمال المطلق يقتضي العدل، فالكمال المطلق يقتضي إرسال الأنبياء لأنَّ القانون المتكامل لا يمكن أن يتحقق من قبل عوام الناس لأنهم نقص والكمال لا يحتقق من قبلهم بل من الله. بعد ما تقدم من الاستدلال ننتقل إلى صياغة جديدة في إثبات بعثة الأنبياء، فهناك برهان يتوقف على الخطوات الأربع الآتية:
الخطوة الأولى: إنَّ الإنسان اجتماعي بطبعه.
الخطوة الثانية: إنَّ الإنسان يسعى وراء اللامحدود.
الخطوة الثالثة: إنَّ القانون ضرورة أساسية للمجتمع.
الخطوة الرابعة: يجب أن نبحث عن مواصفات واضع القانون أو المشرع.
فهذه المقدمات الأربع إذا أثبتناها وانتهينا منها فالنتيجة الطبيعية ستكون إننا نحتاج إلى مقنن سماوي ينظم لنا ذلك.
نقول إنَّ الإنسان اجتماعي بطبعه ولاتوجد حاجة لمناقشة هذا الموضوع بشكل مفصل لأنَّ هذه مسألة بديهية وواضحة ابتداء من أول مقولة فلسفية قيلت في ذلك على لسان سقراط: إنَّ الإنسان حيوانٌ مدنيٌّ بالطبع. حيث نسبته إلى المدن باعتبار أنه يسكن المدينة بدل العراء وبدل الصحراء، فالإنسان حيوانٌ مدنيٌّ بالطبعِ، فالإنسان اجتماعي بطبعه لا يرغب أبداً أن يعيش لوحده ومنعزل عن الآخرين، فبمجرد أن وجد يحتاج إلى زوج ويحتاج إلى عائلة وأسرة ويحتاج إلى جيران وشريك وهذا التفاعل الاجتماعي موجود، وعلى هذا الصعيد نستطيع أن نفهم إنَّ روح الإنسان إنما هي منسجمة مع التفاعل الاجتماعي بشكل طبيعي وتلقائي.
إضافة إلى أنه يسعى وراء كماله والتعرف على المجهول واللامحدود الذي يريد أن يحصل عليه، ولكن كل ذلك لابد من قانون ينظم أمرهم فلو أراد الإنسان أن يضع نظاماً لذلك مع مطابقته للمصلحة العامة من دون أن يكون على حساب الطبقات الأخرى، فالحقيقة إنَّ البشر إذا ترك لهم الأمر وضع القانون فإنهم سيضعون القانون وفقاً لمصالحهم مع مصالح الطبقة التي يمثلوها، لكن الله تبارك وتعالى هو الكامل المطلق لا يعوده شيء من الفائدة والنتيجة من طاعة الناس ومن الأحكام التي يشرعها، فبطبيعة الحال هو غني خبير بحالات الناس وخبير بعباده وفي نفس الوقت مطلع على حقائقهم وليست له حاجة إلى ما يترتب على القانون من طاعة أو معصية، إذاً فالمواصفات التي يجب أن تكون لواضع القانون أو المشرع هو كونه الكامل الطلق الذي لا تصله فائدة من الناس، فإذا عرفنا تلك المقدمات الأربع إذا فالنتيجة تكون إننا بحاجة إلى مقنن سماوي ينظم لنا ذلك، وهذا لا يكون إلا عن طريق بعث الأنبياء، وبالتالي نصل إلى النتيجة بضرورة بعث الأنبياء للبشر من قبل الله تعالى.
إنَّ الأنبياء لهم دور كبير جداً في تهذيب النفوس وفي رفع مستوى الفهم العام للناس، فقد يتصور البعض إنَّ حاجة الناس للأنبياء إنما كانت منحصرة في الأزمنة القديمة حيث التقدم العلمي كان معدوم آنذاك، حيث لم تكن هناك جامعات ومعاهد علمية ومؤسسات كما هو الموجود في عصرنا الحاضر، فإذن زمان الجهل وأيامه التي كان البشر يعيشون فيه حالة التخلف والجهل كانت تحتاج إلى الأنبياء، لكن الآن مع هذا التقدم العلمي وما نشاهده من آثار ونتائج في كل مكان لا توجد أي ضرورة إلى الأنبياء، ولكن الحقيقة إِنَّ البشرية رغم التقدم العلمي الذي تعيشه فهي تحتاج الأنبياء حتى يهذبوهم ويوصلوهم إلى كماله الإنساني، فهل وصلت الشعوب المتقدمة في الصناعات التكنولوجية والعلمية إلى كمالها الإنساني المنشود لها من قبل خالقها أم ظلت عاكفة على الكفر أو الشرك بعبادة غيره من المخلوقات التي لا تغني ولا تسمن، فلا نستطيع أن نقول بأنَّ التقدم العلمي يغنينا عن الأنبياء فإننا لا نزال نحتاج إلى الأنبياء وتعاليمهم التي توصلنا إلى الكمال الإنساني والهداية وعبادة الخالق الحقيقي لهذه النعم والمنعم علينا بنعمة الوجود.[١]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ١٦٣-١٦٩.