إعجاز القرآن الكريم

من إمامةبيديا

تمهيد

لا يستطيع الباحث أن يُحصر إعجاز القرآن في جانب واحد، فهو معجز من جميع نواحيه، في فصاحته وبلاغته، معجز في إشارته إلى الحقائق العلمية التي يجهلها حتى العلماء إلى عهد قريب، معجز في كشفه عن حقائق الغيب، والإشارة إلى أنَّ الخلق والعالم كله يتكون من عالم الشهود وعالم الغيب.

و في الإعجاز البلاغي لابد من إشارة إلى جهتين:

  1. جمال اللفظ.
  2. دقة المعاني.

إِنَّ جمال اللفظ في القرآن الكريم عظيم لدرجة أن بعضهم وصفه بالسحر، وبعض آخر كان يمنع أصدقاءه وأقرباءه من الاقتراب من النبي محمد(ص) أثناء تلاوته ويقولون: لا تستمعوا إلى محمد فيسحركم. وبمجرد أن يستمع الشخص إلى آية أو آيتين، يتأثر بعظمة القرآن ويعود منقلباً! لقد كان العربي يستمع إلى آيات القرآن فيتأثر بها، ويتجلى جمالها ويعيش ذلك العالم الرحب من جمال اللفظ وعالم من السمو ويأنس بذلك وكان ينبهر وينجذب بشكل لم يكن له نظير.

فالعربي بطبيعته كان يستطيع أن يفرق بين الشعر والنثر، وبسليقته الأولية كان يعرف الفرق بين الوزن والقافية وإنَّ للشعر إيقاعاً معيناً وتأثيراً خاصاً. فجمال اللفظ والأثر الخلاب الذي عجز عنه السامع العربي، ما استطاع أن يجد له تفسير أو تبرير، فأرغم أن تسميته سحراً، وسمى الرسول(ص) شاعراً مرة ساحراً أخرى – والعياذ بالله - مجنون وأمثال ذلك. هذا كله لأنَّ السامع لم يستطع أن يجد تفسيراً منطقياً متعارفاً بالشكل الذي يقبله كل أبناء اللغة. فإذن بفطرته العربية السليمة كان يجد تفوقاً وامتيازاً!

وأما عن دقة المعاني وعظمتها، فلا شك ولا ريب أن جوهر التحدي المعاني التي أتى بها القرآن الكريم من العظمة بمكان لا يدانيه أي كلام، ويمكن أن القول بأن جوهر الإعجاز إنما يتركز على هذا الجانب، أي إنَّ عظمة المعاني تصل إلى درجة بحيث أنَّ أبسط سامع يتذوق الكلام العربي يستطيع أن يقول إنَّ هذا ليس بكلام أحد من البشر وإنما هو فوق كلام الآدميين، ولا يمكن أن يجاريه أحد من البلغاء والفصحاء أبداً.[١]

الأمور التي أدت إلى انبهار العرب بالقرآن

۱. جمال اللفظ والأسلوب: لقد وجد العرب في الهيكل الظاهري للقرآن الكريم ما يميزه عن الشعر لأنه كان فاقداً للوزن والقافية، وبعبارة أخرى لا يستطيع أحد أن يقول إنَّ هذه السورة تشبه قصيدة امرؤ القيس مثلاً أو أي شاعر.

فالأمور الموجودة عند كل شاعر هو الوزن والتفعيلة. وهذا كله جارٍ بشكل دقيق من أول القصيدة إلى ختامها. لكن ليس عندنا سورة من القرآن نستطيع أن نقول أنه بعد البسملة تبدأ الآية الأولى إلى أن تنتهي السورة كلها بشكل عامود، فهو ليس شعراً وليس مشابهاً لأي قصيدة أتى بها الشعراء ولم يستطع أحد عندما يستمع للآيات أن يقول بأنها ذات وزن وقافية، ومع ذلك هو ليس شعراً ولا نثراً، لأنّ النثر له ميزات أخرى، فجمال الألفاظ ودقة المعنى والمزايا التي يمكن أن تكون محسنات بديعية، سواء كانت محسنات لفظية أو محسنات معنوية، كلها كانت في القمة وفي نفس الوقت كان هناك أسلوب خاص بالأسلوب القرآني من حيث الفواصل والإطار، فهو فوق الشعر والنثر، والتأثير الذي يكون له في النفوس أسمى من التأثير الذي يكون لكل من الشعر والنثر.

۲. لم يطرق القرآن أغراض الأدب الجاهلي مطلقاً: النقطة التي يشاهدها الأديب العربي أو الإنسان القريب من الذوق الأدبي في الجزيرة العربية، أنَّ القرآن لم يطرق أغراض الأدب الجاهلي مطلقاً، حيث كانت القصائد والخطب العربية تبدأ بالتشبيب وبالوقوف على الأطلال وآثار اللوعة وما شابه ذلك، وهذا النمط كان شائعاً بحيث إذا شذ منه شاعر كانوا يعتبرونه فاشلاً وغير ماهر والقرآن الكريم خلا من أي إشارة إلى هذه الأغراض التي تعودها القارئ العربي أو قارئ الأدب العربي، فالقرآن العظيم أرفع شأناً من المديح والإطراء أو الغزل والتشبب والهجاء ومع ذلك نجده تميز وأدى إلى انبهار العرب في الجزيرة بالبيان القرآني والإعجاز البلاغي إلى درجة أثر فيهم ذلك التأثير الذي ليس له نظير!

۳. التناسق بين اللفظ والمعنى: وجد العربي التناسق بين اللفظ والمعنى بحيث لم يكن اللفظ قد ضحي به من أجل المعنى، ولا المعنى ضحي به من أجل اللفظ! والتناسق بين اللفظ والمعنى كان أمراً مهماً يحسه السامع العربي.

٤. التكرار في القرآن لم يجعله ممجوجاً: والنقطة الأخرى هي التكرار البديع في القرآن الكريم، التكرار الذي زاد إيقاعه قوة ولم يجعل القرآن ممجوجاً. فنحن نعرف إنَّ أي أديب أو شاعر أو كاتب إذا كرر قضية أو عبارة أو أكثر من استخدام جملة معينة فإنَّ السامع لن يرتاح وتصبح عنده حالة من الاشمئزاز والأذن المتصفة بالذوق الأدبي تمج من هذا اللون من التكرار. لكن العربي كان يستمع إلى القرآن الكريم فيجد فيه تكرار القضايا والقصص وبعض الحوادث والتعابير، ومع ذلك كله يرى نفسه لا يزال مشدوداً بل ويزداد تأثراً بالقرآن. وهذه خاصة فريدة بالقرآن وحده بحيث لو كانت في العبارات الأخرى لكان يمجها السامع.

إذن فهذا التكرار الموجود في القرآن الكريم لم يؤثر على الأسلوب القرآني ولا على إعجازه البلاغي بشيء.

٥. الفريدة أو اليتيمة: فالشاعر مهما كان عظيماً فهو قد يأتي ببيت أو بيتين من مجموع قصيدة ويكون لهذا البيت أو هذين البيتين من التأثير ما لا يوجد في غيره من الأبيات، ولذلك يكون فريدة أو يتيمة بتعبير الأدباء، لأنَّ فيه المعنى السامي الذي لو قورن بغيره يكون أسمى بلا شك.

ففي بيان العرب وفي قصائدهم وأشعارهم وفي خطاباتهم نجد أنَّ العربي كان يستمع إلى كلام فيجد فيه تحليقاً في شيء معين، بينما حين ينظر للقرآن ويستمع إليه يجد أنه كله تفوق وكله من اليتيمات وهذا شيء لم يوجد في غيره قط.

٦. صب المعنى الواسع والكامل في قالب الألفاظ القليلة: إذا وصف بيان ما بالفصاحة وبالبلاغة يقال إنه ابتعد عن الإيجاز المخل والإطناب الممل. ويقصد بذلك أنَّ المعنى الكبير حينما يصب في الألفاظ الصغيرة جداً بحيث لايفهم منها الإنسان شيئاً فهذا مخل. لكن إذا كان اللفظ على محدوديته وعلى قلته يحوي عالماً كبيراً من المعاني وفي نفس الوقت وافياً بالغرض فهذا هو المقصود، كأن يأتي السامع العربي إلى قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ [٢]، وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَكُمْ تَتَّقُونَ [٣]، إنه عالم كبير من المعاني قد أودع فيه الآية الصغيرة الموجزة، يعطي المعنى الكامل جداً في هذا اللون من الإعجاز الإيجازي المفيد للمعنى، والذي لا يكون مخلاً أبداً، فيأتي السامع العربي ويستمع إلى ذلك فيستحوذ على لُبّه ويجد فيه ما يدعو إلى الانجذاب والارتياح وإلى الاعتراف بأنه فوق كلام الآدميين.

۷. التأكيد على الحياة الآخرة والتدبر: فالسامع العربي يجد أنَّ هذا الكتاب يدعو إلى التدبر في إسرار الخليقة ويرشد إلى الفضائل الخلقية ويردع عن الرذائل ويفصل في بيان الحلال والحرام ويرفع معتقدات الإنسان ويسلط الضوء على الحياة بعد الممات وكل ما يمكن أن يحدث في النشأة الأخرى بكل دقة وبكل تفصيل، بحيث مما لم يكن أصلاً في أي نموذج أدبي رائع ولا في خطاب ولا في أي قصيدة مشهورة. لذلك يقال إن البيت الوحيد الذي سمع في هذا المجال ما كان يتردد على لسان الإمام علي بن أبي طالب(ع): قالب:شعر قالب:ب قالب:پایان شعر

بينما نجد حقائق كثيرة أشار إليها القرآن الكريم ودعا إلى التدبر والتفكير فيها، وفي أسرار الخليقة وحركة تكامل الإنسان والوصول إلى الهدف النهائي، هذه القضايا كلها اجتمعت لتجعل من القارئ العربي أو السامع العربي الذي يستطيع أن يميز بين الجيد من الأثر والرديء منه، فالانبهار الذي يحصل من هذه الأمور وغيرها ليس شيئاً يمكن أن يوجد في النماذج الأدبية الأخرى، والذي أتى به يستند إلى الله عز وجل.[٤]

كلمات البلغاء في عظمة القرآن

بعد أن بيّنا الجوانب التي امتاز بها القرآن الكريم عن سواه من الكلام ننتقل إلى جانب آخر من اعترافات بلغاء وحكماء الجزيرة العربية الذين أبدو إعجابهم تجاه القرآن بعد أن لميكونوا مسلمين.

فمن هؤلاء (الوليد بن المغيرة المخزومي) حيث جاء إليه رؤساء قريش وطلبوا منه أن يُبدي رأيه في القرآن ويكون حكماً فيه، فجاء إلى رسول الله(ص) وهو جالس في حجر إسماعيل(ع) فتقدم إليه وجلس إلى جانبه، ثم قال: اقرأ لي شيئاً من أشعارك يا محمد!!

فأجابه الرسول(ص) ليس ما أتلوه عليكم بشعر، وإنما وحي من الله تبارك وتعالى، فبدأ يقرأ رسول الله(ص) له آيات من سورة فصلت، والروايات تنقل لنا أنه لما بلغ إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وثَمُودَ [٥]، بدأ الوليد يرتعش ويرتجف وتحول جسده كله إلى شجرة تهتز، لم يستطع آنذاك أن يسيطر على نفسه وكان هذا المعنى ظاهراً عليه، وكل من جلس يراقبه من بعيد ويتوقع أنه سيبدي رأياً مفصلاً في القرآن وفي الآيات التي سمعها الآن، وإذا بهم يرون هذا التأثر الشديد. نعم تأثر للحد الذي لم يستطع أن يمنع نفسه من الارتعاش!

وفي مناسبة أخرى كما يروى أن الرسول(ص) كان يقرأ سورة غافر وبذلك الصوت الملائكي، فانتبه (الوليد بن المغيرة) إلى هذه الآيات حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطول لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُركَ تَقَلُّبُهُمْ في البلاد [٦]، فهذه الآيات أثرت في ورح الوليد وفي أعماقه إلى درجة أنه لم يطق إلا أن يقول: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.

يقول العلامة السيد "هبة الدين الحسيني الشهرستاني" في كتابه "المعجزة الخالدة": هذه العبارات كانت أول تقرير صدر من جانب أستاذ من أستاذة البلاغة حول القرآن وكيف تأثر بالإعجاز البلاغي لكلام الله.

أولاً: ما هو من كلام الإنس والجن. فهذا معنى عميق جداً، فما اعتاده بلغاء العرب أن يسمعوا إما نثراً يجري على لسان البلغاء والفصحاء وهو كلام الأنس. وقد يأتي على الوزن والقافية فيكون مقفى فيشبه - على حد تصورهم - كلام الجن. وبهذا عبر الوليد عن رأيه بأنَّ هذا الكلام لا يمكن أبداً مقارنته بأي كلام آخر لما فيه من عظمة ولما فيه من إعجاز ودقة.

ثانياً: إنَّ فيه لحلاوة. ويقصد بالحلاوة ذلك الطعم الجميل الذي يغذي العقول والنفوس ويكون أثره مستساغاً لدى العقول والنفوس كما يكون أثر الحلوى على الذائقة البشرية! وهذه الحلاوة لم يجدها في غير الأسلوب القرآني.

ثالثاً: وإنَّ عليه لطلاوة. والمقصود بالطلاوة الجمال الأخاذ الذي يعتبر من المحسنات القرآنية والقرآن مليء بالمحسنات اللفظية والمعنوية بالذات.

رابعاً: إنَّ أعلاه لمثمر. وشبه القرآن بشجرة عظيمة لها فروع وأغصان كثيرة مليئة بالفاكهة.

خامساً: وإنَّ أسفله لمغدق. والمغدق عبارة عن الشيء ذي الأصول المستمرة المتواصلة، حيث يستمد من ينابيع وجذور ومصادر عميقة. كما قوله تعالى: وَالَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا [٧].

سادساً: وإنه يعلو ولا يُعلى عليه. إنَّ القرآن يعلو ويتميز على كل الأساليب التي سمعها.

إذا فالوليد بن المغيرة لما تأثر بالقرآن الكريم وببلاغته وأبدى إعجابه واعترافه بهذه العبارات ولخصها في شيء واحد وهو إنَّ القرآن لا يُجارى، وإن التحدي الذي جاء به الرسول(ص) لا يمكن أن يقابل بأي لون من ألوان المعارضة. و من البلغاء الذين تأثروا بالأسلوب القرآني أيضاً (عتبة بن ربيعة) والذي هو من كبار شخصيات قريش، حيث ذهب يوماً إلى أصدقائه وقال: سأذهب إلى محمد(ص) وأقترح عليه بعض الأمور ولابد أن يقبل بإحداها، وكان الرسول(ص) جالساً في المسجد، وتقدم إليه عتبة بمجموعة من المقترحات، وحين انتهى من كلامه قال الرسول(ص): أفرغت يا أبا وليد؟! وحينما أجاب بالإيجاب، قال(ص) استمع إلى جوابكم من آيات قرآنية. فقرأ له سبعة وثلاثين آية من سورة فصلت وحينما بلغ إلى آية السجدة وقال: هل سمعت كلام الله وما تلوته إليك ...؟ لقد كان عتبة متأثراً بالأسلوب القرآني إلى درجة أنه أشبه ما يكون بالمسمر في مكانه بحيث لم يستطع أن يتفوه بحرف! ولكن بعد أن استطاع أن يستعيد قواه، قال: والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة!

ويستفاد من هذا نقطتان:

  1. إنَّ أثر هذا في المستمع إنما كان الإعجاب والانبهار ببلاغة القرآن الكريم، جمال اللفظ ودقة المعنى والبلاغة التي لا تجارى، مما جعل القرآن متميزاً بلا حدود.
  2. إننا وجدنا هذا الاعتراف عند "عتبة" وعند "وليد": وهما يُصَرِّحان بأنَّ هذا ليس بكلام آدميين ولا يمكن قط مجاراته.

النموذج الآخر (طفيل بن عمرو) الشاعر الجاهلي الذي أسلم وكان بالنسبة لقريش من الصعب تقبُّل إسلام هذا الرجل. وسواء تقبلت قريش ذلك أم لا فطفيل تأثر ببيان الرسول(ص) إلى درجة أنه لم يملك مقاومة، وحينما عوتب من قبل أصحابه لقبوله الإسلام أفحمهم بقوله: فلا والله ما سمعت قولاً أحسن منه ولا أمراً أعدل منه. وهناك نماذج أخرى كثيرة جداً.[٨]

الإخبار عن المغيبات

إنَّ القرآن يفتتح في سورة البقرة كلامه بالإيمان بالغيب ولابد من الإشارة إلى أنَّ الرؤية الفلسفية في الإسلام تعتمد على أنَّ الخلق إنما هو في عالمين، وبعبارة أخرى: إنَّ الله تبارك وتعالى له الخلق والأمر.

فالله تبارك وتعالى في عالم التكوين له الخلق والأمر، ولكن في عالم الولاية المطلقة الإلهية له الأمر. وعالم الخلق يعتمد على الأمور التدريجية ويرتبط بالزمان والمكان ويرتبط بالمقادير والتقديرات، بعكس عالم الأمر الذي لا يكون إلا دفعياً.

فعالم الخلق يتكون من ظاهر وباطن، يتكون من شيء أمام الستار ومن شيء خلفه، فما نراه أمام الستار هو عالم الشهود ولكن القرآن والعقيدة الإسلامية تؤكد على أن وراء هذا الستار عالماً آخر هو الغيب، ولابد للمؤمن حتى يكمل إيمانه أن يؤمن بالغيب ومن ذلك قوله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَبُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَممَا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُم يُوقنون [٩].

إذا فالإيمان بالغيب إنما هو شرط أساسياً ليكون الشخص متصفاً بتقوى الله ويكون أهلاً لتقبل الهداية الإلهية والإيمان بالغيب يعني أنَّ هناك حوادث وأمور تأتي من وراء هذا الستار المادي الظاهري، والله تبارك وتعالى خالق للغيب والشهادة كما أنه عالم بالغيب والشهادة ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة. فالإيمان بالغيب من مستلزمات الإيمان والاعتقاد والاعتراف بوجود الخالق وحياة الآخرة والذي يأتي ويتحدث عن عالم الغيب هو الرسول(ص) ولكل نبي، فالإخبار عن الغيب لون آخر من الإعجاز، لأنَّ هذا الغيب لا يطلع عليه إلا الله، فالذي يخبر عن أمور غائبة يريد بيان أن له اتصالاً بمصدر الغيب وخالق الغيب وعالم الغيب.

والقرآن الكريم يروي لنا نماذج كثيرة من هذا القبيل، ومنها:

النموذج الأول: ما يتعلق بغلبة الروم: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ بضع سنين لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [١٠]، من خلال ما تقدم نجد أنَّ الآية نزلت في زمان كان مستبعداً جداً وقوع ذلك لأنَّ الكلام يرجع إلى سنة ۶٢۵، أو السنة الثانية للهجرة أيضاً كان هناك نصر عظيم للمسلمين في بدر في مقابل المشركين.

فالقرآن الكريم استعمل حرف (سين) التي تدل على المستقبل القريب: (سيغلبون في بضع سنين) فالبضع الفترة الزمنية التي تقل عن سبع سنوات، (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي في نفس الوقت الذي ينتصر فيه الروم على الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله.

النموذج الثاني: ما يتعلق بتحدي معارضة القرآن قال تعالى: قُل لَّيْنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرا [١١]، فالله يتحدى هؤلاء بالقرآن من أنهم لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وقد أخبر بشكل قاطع عن أن الجن والإنس والجماهير كلهم يعجزن عن الإتيان بمثل هذا القرآن الكريم وفي ذلك كله دلالة كافية على الإخبار عن المستقبل، وبالفعل قد عجزوا عن مجاراة القرآن.

مما تقدم نستنتج أنَّ الإعجاز البلاغي لم يكن هو الجانب الوحيد الذي امتاز به القرآن الكريم، وإنما هناك أساليب وطرق أخرى للإعجاز جاءت فيه. وكلها تؤيد أنَّ ادّعاء الرسول(ص) للرسالة ودعم هذا الادعاء بالمعجز انتهيا إلى التصديق بالرسالة وهذا هو المطلوب!

النموذج الثالث: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْمَان لَرَادُكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى ومَنْ هُوَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ [١٢]، المعاد بمعنى العودة إلى الوطن. فقد اضطر النبي(ص) تحت وطأة القسوة في مكة المكرمة إلى مغادرة وطنه كارهاً واتجه إلى المدينة المنورة.

هذا الإخبار لم يكن ما يسنده من القرائن الظاهرية في ذلك الوقت، لأنَّ رسول الله(ص) حينما خرج من مكة كان المشركون قد حاصروا المسلمين ورسول الله(ص) وقطعوا عنهم كل شيء وحاربوه حرباً قوية، ولكن بعد كل تلك المحاولات عاد الرسول(ص) إلى مكة المكرمة بعد الهجرة وحصل فتح مكة.

النموذج الرابع: قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّوْ يَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحرام إن شاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلقِينَ رُءُوسَكُمْ ومُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَل مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [١٣]، فإنَّ رسول الله(ص) كان في المدينة المنورة، فرأى ليلة في عالم الرؤيا إنه دخل المسجد الحرام ومعه المسلمون وقد دخلوا بملابس الإحرام وقد حلقوا رؤوسهم، وقد أخبر الرسول(ص) أصحابه بعد أن استيقظ وبشرهم بأننا سندخل المسجد الحرام آمنين محلقين، وبعد فترة قرر(ص) ومعه جماعة من المسلمين أن يتجهوا إلى مكة المكرمة وكأنَّ تلك الرؤيا ستحقق، ولكنهم حينما وصلوا إلى الحديبية عارضهم المشركون وحصلت مفاوضات بينهم وبعده وقعت معاهدة صلح بين المسلمين والمشركين لإعلان هدنة وعدم الحرب لعشرة سنوات بشرط أن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة المنورة ويؤجلوا زيارتهم إلى المسجد الحرام في السنة القادمة، وقع الصلح ووافق الطرفان على ذلك وصار القرار أن يرجع الرسول(ص) والمسلمون إلى المدينة المنورة، وقد اعترض بعض عليه بأنك وعدتنا بدخول المسجد الحرام محلقين ومقصرين، وقد أثر ذلك في رسول الله(ص) كثيراً كونه يعد من الصحابة وقد ورد عنه أيضاً قوله: ما شككت في نبوة محمد قط مثل يوم الحديبية، ومعناه التشكيك في صدق دعواه. ولكن النبي(ص) كان موقفه وجوابه أني لم أعدكم بحصول هذا مباشرة؟ لأنَّ الآية تبشر بتحقق ذلك أما متى فلم أعد بشأن ذلك.

وبعد هذا حصل تحقق الرؤيا في السنة القادمة، ودخل المسلمون مكة المكرمة وحبّوا وأدوا مناسكهم مقصرين ومحلقين وحينئذ تمت البشارة والخبر الذي كان يخبر به القرآن، فقد صدق الله رسوله حيث تمت البشارة والخبر الذي كان يخبر به القرآن.

وهناك بشارة أخرى في بطن هذه البشارة، أي هناك مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: خروج رسول الله(ص) ومعه جماعة من المسلمين وصد المشركين لهم وصلح الحديبية ورجوعهم.

المرحلة الثانية: ذهابهم إلى المسجد الحرام في السنة القادمة وتأدية المناسك ولم يتعرض لهم أحد من المشركين بشيء أبداً إلى أن رجعوا إلى المدينة المنورة.

المرحلة الثالثة: قوله تعالى: فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحا قريبا فكان الفتح القريب عبارة عن فتح مكة، حيث لم يمض على توقيع صلح الحديبية أكثر من عامين حتى نقض المشركون عهدهم، وكان هذا سبباً في دخول رسول الله مكة مرة أخرى فاتحاً منتصراً، وبذلك الفتح والانتصار حصلت غلبة الإسلام.

النموذج الخامس: قوله تعالى في سورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابا [١٤]، إنه ينبغي التأكيد على أنَّ البشارة كانت أمراً غير متعارف عليه مع الأوضاع التي يعيشها النبي لأنَّ المسلمين كانوا يدخلون إلى الدين الإسلامي واحداً واحداً.. أو اثنين اثنين وأحياناً مجموعات صغيرة جداً وكان بين مجموعة وأخرى فترة زمنية طويلة، ولكن القرآن يخبر ويبشر عن أفواج من الناس يدخلون في دين الله فلا شك ولا ريب أنَّ هذا إخبار عن شيء سيتحقق في المستقبل وقد تحقق ولم يكن أحد ليتنبأ بذلك.

النموذج السادس: إخبار الله تبارك وتعالى عن عدم إسلام أبي لهب، فقد بقي أبو لهب معانداً ومات على كفره، وذلك في سورة المسد (اللهب): تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ هَبِ لا وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسلم [١٥].

النموذج السابع: وعد الله تبارك وتعالى أنه سيتولى حفظ القرآن وصيانته من التلاعب، وحفظه من الزيادة والنقصان حتى بمقدار الفتحة والكسرة، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ [١٦]

وهذا أيضاً من الإخبار عن المغيبات يبينه القرآن الكريم، حيث أن الإنجيل أنزله الله تعالى على عيسى(ع) وبَشر به ولكن قد نالته أيدي التحريف فلا أثر له. والدليل على ذلك وجود خمس نسخ مختلفة من الإنجيل بين أيدينا: إنجيل متى، لوقا، يوحنا، مرقس،برنابا، وبينها اختلاف كثير. والتوراة أيضاً نالتها يد التحريف. ولكن القرآن الكريم يقول على لسان الوحي الإلهي: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ. وقد وعد الله تعالى بحفظه من التبديل والتغيير والزيادة والتحريف وقد تحقق ذلكز وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْذِرُونَ الذَّهَبَ والْفِضَةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ [١٧] حصل نزاع بين عثمان وبين أبي بن كعب حيث كان عثمان يدعي أن الآية من دون (و) والآخر يدعي أنه سمعها من الرسول «والذين..» وأخيراً حصل تهديد شديد ونزاع مفصل حول هذا الحرف وهدد أبي بن كعب قائلاً: إذا لم تضعوا (و) هناك فستكون مشكلة كبيراً وستراق الدماء وستحدث فتنة. إذا كان تغيير حرف (و) يحدث هذا اللون من النزاع والفتنة والمشاكل فبطبيعة الحال تغييرات أخرى ستكون أكبر وأشد.</ref>.[١٨]

الإعجاز العلمي في القرآن

إعجاز القرآن الكريم في بيان المعارف الحقة

المعجزات الأخرى غير القرآن الكريم

المراجع

  1. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٠٣-٢٠٤.
  2. الزلزلة: ۷ – ۸.
  3. البقرة: ۱۷۹
  4. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٠٤-٢٠٧.
  5. فصلت: ۱۳.
  6. غافر: ١ – ٤.
  7. الجن: ١٦.
  8. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٠٨-٢١١.
  9. البقرة: ١ – ٤.
  10. الروم: ۱ – ٥.
  11. الإسراء: ۸۸.
  12. القصص: ٨٥
  13. الفتح: ۲۷.
  14. النصر: ۱ – ٣.
  15. المسد: ١ – ٥.
  16. الحجر: ۹.
  17. التوبة: ٣٤.
  18. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢١١-٢١٦.