اصطفاء الأنبياء في معارف الإمام الحسين وسيرته
تمهيد
قال الإمام الحسين (ع): «إنَّ الله َ اصطَفى مُحَمَّداً (ص) عَلى خَلقِهِ، وَأكرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، واختارَهُ لِرِسالَتِهِ»[١]. وقرأ (ع) قوله تعالى - حينما برز على الأكبر إلى الميدان[٢] -: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[٣].
التعريف اللغوي
قال الفراهيدي: «الصفو نقيض الكدر، وصفوه كل شيء خالصه وخيرته... والاصطفاء: الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى، والأنبياء المصطفون»[٤].
وقال الراغب في المفردات: «الاصطفاء: تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار: تناول خيرته... واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافيا عن الشوب الموجود في غيره... قال تعالى: ﴿اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾[٥]، والصفي والصفية: ما يصطفيه الرئيس لنفسه»[٦].
فالمعنى اللغوي للاصطفاء يتضمن المعاني الآتية:
- خلوص وصفاء المصطفين من كل شائبة وكدر، فيكون المصطفى في أعلى رتبة من النزاهة والكمال ذهنيا وسلوكيا.
- إن الاصطفاء قريب من معنى الاختيار، والفرق بينهما هو أن الاختيار:
أخذ الشيء من بين الأشياء، بما أن ذلك الشيء هو خيرها. أما الاصطفاء: فهو أخذ الشيء من بين الأشياء، بما أنه صفوته وخالصته.
- إن الاصطفاء ملازم لمعنى الامتياز والتقدم على الآخرين؛ ليكون المصطفى أُنموذجاً وقدوةً يُقتفى ويُهتدى به في طريق الخير والصلاح.
التعريف الاصطلاحي
الاصطفاء في الاصطلاح: هو عين المعنى اللغوي، وهو اختيار الأفضل، وقد حظي مفهوم الاصطفاء بعناية فائقة في النصوص القرآنية في موارد عديدة، لتسجل حقيقة قرآنية مهمة، وهي أن الله تعالى قد اصطفى واختار أفراداً من خلقه وعباده، وهذه الحقيقة القرآنية يعكس مضمونها عدة من الآيات القرآنية، منها: الآية التي ذكرناها في بداية البحث والتي قرأها الإمام الحسين (ع)، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[٧]،﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[٨]
فالإمام (ع) حينما قرأ هذه الآية يريد أن يشير إلى حقيقة، وهي أن الله تعالى قد اصطفى بعضاً من ذرية إبراهيم (ع) لا جميع ذريته، ولا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك، وإن كان الله عز وجل قد فضل بني إسرائيل على العالمين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[٩]، لكنَّ تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم عليهم من جهات أخرى. فإن الله تعالى يصطفي أنبياءه وأولياءه، ويوفر لهم ما يحتاجونه في كل مواقع المسؤولية في الحياة، سواء في النبوة أم في الإمامة، وهذا ما يمكن استيحاؤه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً...﴾[١٠].[١١]
فلسفة الاصطفاء
قال الإمام الحسين (ع): «إنَّ الله َ اصطَفى مُحَمَّداً صَلّى الله ُعليهِ وَآلهِ عَلى خَلقِهِ، وأكرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، واختارَهُ لِرِسالَتِهِ»[١٢].
انطلاقاً من قول الإمام الحسين (ع) المتقدم، يتضح أن الاصطفاء الإلهي ليس غاية في ذاته، بل يُنبئ عن إرادة ربانية في اختيار الأمثل من البشر؛ لأجل حمل مسؤولية الرسالات الإلهية، وهذا ما يشير إليه قوله (ع) آنف الذكر، فيختار الله عز وجل أنبياءه ورسله، لما يجده فيهم من مقومات عظيمة ومؤهلات عالية، ولما يراه مناسباً لقومهم، وملائماً لعصرهم وزمانهم، فهو تعالى الذي يختار ويجتبي صفوته من خلقه، فيستخلصهم لنفسه، ويولي عنايته الخاصة بهم وينقيهم من كل شوب ودنس وكدرة؛ كل ذلك لأجل النهوض بأعباء ومسؤوليات النبوة والإمامة.
ثم إن هناك أسباباً ومناشئ لهذا النحو من الاصطفاء، أصولها العلم، والعدل، والحكمة، فإن الله تعالى لو علم باستعداد إنسان لكمالات معينة، فإنه تعالى بمقتضى حكمته وعدله سوف يهيئ له ما يوصله إلى ما استعد له.
وعلى هذا الضوء؛ لما علم[١٣] الله تعالى منذ الأزل باستعداد هذه المجموعة من البشر _ وهم الأنبياء والأوصياء _ لتحمل مقامات الرسالة والولاية، فإن الله تعالى قد اصطفاهم واختارهم، وهيأ لهم ما يمكنهم من وصولهم إلى ما استعدوا له.[١٤]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك: ج٣، ص٢٨.
- ↑ انظر: ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج٥، ص١٣٠.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٣٣-٣٤.
- ↑ الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين: ج٧، ص١٦٢.
- ↑ سورة الحج، الآية ٧٥.
- ↑ الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن: ص٤٨٧-٤٨٨.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٣٣.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٣٤.
- ↑ سورة الجاثية، الآية ١٦.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٣٣.
- ↑ علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٤٣-٢٤٤.
- ↑ الطبراني، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك: ج٣، ص٢٨.
- ↑ قد يقال: إن علم الله بالأشياء قبل خلقها ينافي اختيارية الإنسان. والجواب: لا تنافي بين علم الله تعالى بما يؤول إليه الإنسان وبين الاختيار؛ وذلك لأن العلم الإلهي تعلق بكيفية صدور الفعل عن الإنسان على النحو الاختياري بقيد الاختيار؛ لأنه لو كان صدور الفعل من الإنسان جبراً لتخلف علمه عن الواقع، فالله تعالى شاءت إرادته أن لا يوجد الفعل إلا بعد تحقق شرطه، وهو اختيار الإنسان.
- ↑ علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٤٥.