الأئمة الاثنا‌ عشر في التاريخ الإسلامي

من إمامةبيديا

مهمة الأئمة

من غير المشكوك فيه أبداً أن الرسول القائد(ص) رحل إلى جوار ربه تعالى، وهو لمّا يستوف بعد المهمات التاريخية المناطة بالرسالة الإسلامية على المستوى النظري والعملي معا، فعلى الصعيد النظري لم يتسنّ للرسول(ص) أن يبيّن للأمة الإسلامية سوى الخطوط العريضة للتشريع الإسلامي مضافا إليها بعض التفصيلات الفقهية لعدد من المسائل الحياتية لإنسان الإسلام[١] - فرداً وجماعة - أما على المستوى العملي فإن الدعوة الإنقلابية التي كان الرسول(ص) يباشرها لتغيير الواقع الإجتماعي فكراً وعملاً، وإنشاء الإنسان الرسالي الجديد في فكره ومفاهيمه وأنماط سلوكه، هذه المهمة لم تتحقق هي الأخرى للرسول(ص) حتى على مستوى مجتمع عاصمة الدولة (المدينة المنورة) فضلاً عن أقاليم الدولة الإسلامية الأخرى كما يتضح ذلك من مجموعة الأخطاء والسلبيات المتعمّدة التي طفحت على سلوك عدد من الصحابة فضلاً عن عامة الناس «إذ لم يمض ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة والتجربة الإسلامية التي تولى جيل المهاجرين والأنصار قيادتها تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجهها أعداء الإسلام القدامى، ولكن من داخل إطار التجربة الإسلامية لا من خارجها، إذ استطاعوا أن يتسللوا إلى مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج، ويستغفلوا القيادة غير الواعية، ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة، وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيته وقيادته، وتحولت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات، ويعطل الحدود، ويجمّد الأحكام، وأصبحت الخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية»[٢].

ومن المقطوع به أن قصر الفترة التي عاشها الرسول(ص) بين ظهراني مجتمع المدينة لم تكن فيها الكفاية لتحقيق العملية التغييرية في ذلك المجتمع، ومن هنا فإن من بدائه الأمور أن يتخذ الإسلام موقفاً إيجابياً لضمان سلامة خط سير الحركة الإسلامية التاريخية، وصحة بناء الأمة الإسلامية وتعميق وعيها وانفتاحها على مطالب الرسالة الإلهية الخاتمة، وهذا لا يتأتى بطبيعة الحال إن لم تعهد القيادة الفكرية والسياسية إلى أشخاص ينهضون بالدور الذي نهض به الرسول القائد(ص) ويكون لهم من المؤهلات والصلاحيات ما يمكنهم من مواصلة الحركة التغييرية التي بدأها الرسول(ص) في الأمة على الصعيد العملي، وبيان الأحكام الإسلامية التفصيلية في الحوادث المستجدة في مسيرة الأمة على الصعيد الفكري والتشريعي، ومن خلال هذا الوعي ينبثق خط الإمامة في الإسلام ليقوم الأئمة من خلاله بدورهم الطبيعي في دفع حركة الإسلام التأريخية باتجاه تحقيق أهدافها التغييرية الكبرى في دنيا الناس.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن خط الإمامة لم نكن لنعيه من خلال الضرورة التأريخية التي تفرضه كامتداد طبيعي للرسالة لابد منه لحماية الإسلام والأمة فحسب ولكنه إلى جانب ذلك يظل خطاً تشريعياً ذا أبعاد محددة طرحته الشريعة الإسلامية من خلال موقفين للرسول(ص):

أحدهما: عملي تمثل في تبنيه للإمام علي(ع) منذ طفولته وإعداده إعدادا روحيا وفكريا ليكون أهلا لتولي مهام القيادة الفكرية والسياسية في الأمة بعد غياب الرسول(ص) - كما تجمع على ذلك كتب السيرة المعتبرة - «فقد كان النبي(ص) يخصه بكثير من مفاهيم الدعوة وحقائقها ويبدأه بالعطاء الفكري والتثقيف إذا استنفذ الإمام أسئلته، ويختلي به الساعات الطوال في الليل والنهار يفتح عينيه على مفاهيم الرسالة ومشاكل الطريق ومناهج العمل إلى آخر يوم من حياته الشريفة»[٣]

روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي إسحاق: «سألت قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله، قال: لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً».

وروى النسائي عن الإمام، أنه كان يقول: «كنت إذا سألت رسول الله أعطيت وإذا سكت ابتدأني»، ورواه الحاكم في المستدرك أيضاً.

وقال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة الشهيرة وهو يصف ارتباطه الفريد بالرسول القائد وعناية النبي باعداده وتربيته: «وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ».

وثانيهما: فكري تمثل بالبيانات الرسمية التي أطلقها الرسول(ص) في ظروف مختلفة لابراز خط الإمامة في الحياة الإسلامية، كحديث المنزلة « أَ مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي »[٤]

وخطبة الغدير التي جاء فيها: « مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاَهُ »[٥] وحديث الثقلين «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ خَلِيفَتَيْنِ كِتَابَ اَللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَ إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ »[٦].

وهكذا يفرض خط الإمامة في الحياة الإسلامية حتميته من خلال الضرورات التأريخية والشرعية ليكون متمما لخط الرسالة فيها في الجانب النظري والعملي على حدّ سواء. وقد برزت أهمية خط الإمامة - بغض النظر عما ذكرنا - في التاريخ الإسلامي عملياً بعد الحيلولة دون مباشرته لمهامه التاريخية على نطاقين:

أحدهما النطاق التشريعي: فإن مواجهة الأمة لحاجات جديدة لا عهد لها بمثلها أيام التنزيل المبارك، قد حتّم على ولاة الأمر بعد الرسول(ص) أن يضعوا حلولاً ويقترحوا تشريعات تحمل الجانب الذاتي في الأعم الأغلب. فالتجأوا إلى (الرأي) فيما لا نص فيه من خلال مفاهيم الإستحسان والقياس وغيرهما[٧]

التي قادت إلى تبني أحكام مخالفة لمفاهيم إسلامية أصلية، وقد صدرت تلك من صحابيين كبار، ثم تتابع سير العملية المذكورة فأدّى إلى تحريفات خطيرة في التشريعات الإسلامية كما في العهد الأموي، على أن هذا اللون من الاجتهاد قد تحوّل إلى مدرسة معروفة كان قوام تفكيرها «العمل بالرأي»[٨].

وقد جوبهت مدرسة الرأي برد فعل عنيف في الاوساط الفكرية مما أدى إلى ظهور مدرسة الحديث في الحجاز «و التي كانت تفضل أن تظل محافظة على المأثور من الحديث واجتهادات الصحابة والتابعين من بعدهم»[٩]. ولاعتقاد روّادها أن العودة إلى الحديث كافية وحدها لتحقيق حماية الرسالة من التمييع الذي عانته من أنصار الرأي.

وللمرء أن يقدر خطورة الموقف الذي عانت منه الشريعة وهي تعيش بين مدرستين إحداهما ذات طابع يتخذ الذاتية والرأي قاعدة له ومبرراً «دون أن تتقيّد بما يعتبره الشارع في الاجتهاد، وكان في ذلك شيء كثير من الجرأة على الشريعة، والتصرف بموازينها ومقاييسها التي تخرج عن متناول الفكر والرأي»[١٠].

وأخراهما: ذات طابع جامد لم تلق للحوادث المستجدة في حياة الإنسان بالا، وإنما تتوقف عند النصوص فحسب دون الأخذ بنظر الاعتبار ظلالها وإيحاءاتها وتطورات الحياة «والأعراض عن كل شيء ما عدا الكتاب والسنة كما يذهب إلى ذلك داوود وغيره من الظاهرية»[١١] الأمر الذي يبرز أهمية خط الإمامة في الحياة الإسلامية على الصعيد التشريعي لحماية الرسالة من مزالق الاتجاهين اتجاه «إدخال عنصر الرأي في مصادره التشريعية حيث يفقد التشريع صلابته وقوته وأصالته الإسلامية التي هي من خصائص التشريع الإسلامي، واتّجاه (مدرسة الحديث) التي ذهبت إلى تجميد الشريعة والأخذ بظاهر النصوص، حيث أفقدت التشريع خاصيته على المرونة وقابليته لمسايرة الظروف الاجتماعية المختلفة»[١٢].

ثانيهما النطاق العملي: فما كاد خط الإمامة في الحكم يقصى عن الحياة الإسلامية ويستبدل بأطروحة جديدة تحت واجهة الشورى حتى بدأ الانحراف عن الخط الإسلامي يتسرب إلى مراكز التوجيه الفكري والإجتماعي والسياسي حتى وئدت التجربة الإسلامية الأصلية واستبدلت بحكم قبلي وراثي بدأ بتعطيل الحدود، ومصادرة روحية الشريعة وتكدير صفائها، وقد تجسّد ذلك بالحكم الأموي والعباسي وما تمخّض عنهما من مآس وويلات ومزالق خطيرة وإبعاد للأجيال عن أهداف الرسالة وطابعها السماوي الصميم...

وهكذا تبدو أهمية خط الإمامة كامتداد لخط الرسالة ينهض بالدور عينه الذي ينهض بأعبائه خط الرسالة على الصعيد النظري والعملي في الحياة الإسلامية، ومن هنا تبدو كذلك أهمية الدور الخطير الذي يمارسه الإمام في الحركة الإسلامية التأريخية.[١٣]

المراجع والمصادر

  1. عادل الأديب، الأئمة الاثنا عشر

الهوامش

  1. الإمامة في التشريع الإسلامي، محمد مهدي الآصفي النجف: ٣٣.
  2. بحث في الولاية، سماحة السيد محمد باقر الصدر.
  3. بحث في الولاية، سماحة السيد محمد باقر الصدر.
  4. المراجعات، عبد الحسين شرف الدين، ط ٦: ١٥١.
  5. المراجعات، عبد الحسين شرف الدين، ص٢١٠ وما بعدها.
  6. المراجعات، عبد الحسين شرف الدين ص٤٩ وما بعدها لمعرفة مصادر الأحاديث من أهل السنّة «و للحديث أسانيد كثيره متضافرة، وقد قامت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة بطبع رسالة جامعية لأسانيده». راجع نفس الحديث في صحيح الترمذي ٣٠٨/٢ وأسد الغابة ١٢/٢ باختلاف بسيط.
  7. و في ذلك يقول الشهرستاني: انا (نعلم قطعا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا نتصور ذلك أيضاً. والنصوص إذا كانت متناهية، وما لا يتناهى لا يضبط ما يتناهى، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجبه الاعتبار حتى يكون بصدر كل حادثة اجتهاد) راجع سلم الوصول إلى علم الأصول ص٢٩٥ عمر عبد الله.
  8. مجلة النجف، إصدار كلية الفقه عدد ٨ و٩ س ١ ص٨٢ وما بعدها.
  9. محمد مهدي الآصفي، في مقدمة كتاب الاجتهاد والتقليد تأليف ميرزا غلام رضا ص٨.
  10. محمد مهدي الآصفي، في مقدمة كتاب الاجتهاد والتقليد تأليف ميرزا غلام رضا ص١٩.
  11. محمد مهدي الآصفي، في مقدمة كتاب الاجتهاد والتقليد تأليف ميرزا غلام رضا ص١٩.
  12. محمد مهدي الآصفي، في مقدمة كتاب الاجتهاد والتقليد تأليف ميرزا غلام رضا ص٢٠: ١٩.
  13. عادل الأديب، الأئمة الاثنا عشر، ص 7-12.