الأنس
التعريف
الأُنس لغةً
«الأُنس» في اللغة ضدّ النُفور، وبمعنى «الاطمئنان إلى الشيء» و«الانسجام معه» و«التعلّق به». يقول الراغب الأصفهاني في بيان معنى «الأُنس»: الأُنسُ خِلافُ النُّفورِ.[١]
كما يبيّن ابن فارس أصل هذه الكلمة كالتالي: الهَمزَةُ وَالنّونُ وَالسّينُ أصلٌ واحِدٌ، وَهُوَ ظُهورُ الشَّيءِ، وَكُلُّ شَيءٍ خالَفَ طَريقَةَ التَّوَحُّشِ... وَالأُنسُ: أُنسُ الإِنسانِ بِالشَّيءِ إذا لَم يَستَوحِشْ مِنهُ.[٢]
وعلى هذا الأساس، لمّا كانت الاُلفة بالشيء والتعلّق به والانسجام معه مؤدّية إلى قربه وظهوره، سمّيت بـ «الأُنس».[٣]
الأُنس في الكتاب والسنة
لم تستخدم كلمة «الأُنس» في الكتاب العزيز، وإنّما استُعملت مشتقّاتها، مثل «آنستُم» في الآية ٦ من سورة النساء: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾[٤]، بمعنى أن يكون الشيء محسوسا ومعلوما، والمراد أنّ آثار البلوغ الفكري عندما تصبح محسوسة وظاهرة لكم، فإنّ عليكم أن تضعوا أموالهم تحت تصرفهم، وكذلك ﴿تَسْتَأْنِسُوا﴾ في الآية ٢٧ من سورة النور: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾[٥]، بمعنى القيام بالعمل الذي يؤدّي إلى الأنس والتعارف، والمراد بها عدم دخول بيوت الآخرين فجأة.
وأمّا في الأحاديث الإسلامية فقد استخدمت كلمة «الأنس» ومشتقّاتها على نطاق واسع، وقدّمت فيها إرشادات قيّمة للغاية حول ما يستحقّ الأنس والتعلّق به، وما لا يستحقّ التعلّق به.[٦]
حاجة الإنسان إلى «الأنس»
الملاحظة الاُولى التي تستحقّ التأمّل أنّ عدم الحاجة إلى الأنس والأنيس خاصّ بالله تعالى ، كما روي عن الإمام الصادق (ع): «سُبحانَ مَن لا يَستَأنِسُ بِشَيءٍ أبقاهُ، ولا يَستَوحِشُ مِن شَيءٍ أفناهُ»[٧]
وكلمة الإنسان مشتقّة من مادّة «أُنس»، فهو بحاجة إلى الاُنس بالآخرين في حياته، ولذلك عُدّ «الأُنس» ـ كالاُلفة[٨] ـ من جنود العقل، ويجب على الإنسان من أجل تحقيق الحياة المطلوبة، أن يوظّف هذه الخصوصية الفطرية.
سَوقُ الاستئناس نحو ماله ثبات
لا شكّ في أنّ عاقبة الأُنس والتعلّق بالاُمور الزائلة، هي الانفصال والوحشة، وكلّما كان الأُنس أشدّ، فإنّ الانفصال سيكون أكثر وحشة أيضا، كما نقل عن النبي سليمان (ع): «آنَسُ شَيءٍ الرّوحُ تَكونُ فِي الجَسَدِ وأوحَشُ شَيءٍ الجَسَدُ تُنزَعُ مِنهُ الرّوحُ». [٩]
على هذا الأساس، فإنّ الأحاديث الإسلامية تسوق تعلّق الإنسان بالاُمور الزائلة بشكل بحيث لا يكون الانفصال عنها خطيرا، في نفس الوقت الذي تؤمّن فيه الحاجات المادّية والمؤقتة.[١٠]
أكثر أنواع «الاُنس» قيمة
إنّ أفضل صديق يمكن للإنسان أن يأنس به ويدوم أُنسه به هو الله سبحانه وتعالى، فقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: «لا يَستَوحِشُ مَن كانَ الله ُ أنيسَهُ» [١١]
وهذا الحديث يعني أنّ الأُنس الحقيقي بالله تعالى يستلزم الاطمئنان المطلق، الذي يأنس بالله حقيقة سوف لا يُبتلى في حياته بالخوف والقلق أبدا.[١٢]
إرشادات أهل البيت (ع) لتحقيق الأُنس بالله عز وجل
إذا أخذنا بنظر الاعتبار أهمّية الأُنس بالله والدور الذي يؤدّيه في بناء الإنسان وتأمين راحته، فقد قدّمت أحاديث أهل البيت (ع) ثلاثة إرشادات مهمّة للأُنس بالله والتعلّق به:
الإرشاد الأوّل، هو ذكر الله، كما روي عن الإمام علي (ع): «الذِّكرُ مِفتاحُ الاُنسِ» [١٣]
وعلى هذا، كلّما استخدم الإنسان هذا المفتاح للتعلّق بالله أكثر، كلّما زاد أُنسه بالله تعالى وحقّق اطمئنانا أكثر، كما يؤكّد القرآن ذلك قائلاً: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[١٤]
ويتمثّل الإرشاد الثاني في اجتناب صحبة أهل الغفلة، حيث تعتبر آفة الذكر والأُنس بالله. وعلى هذا، فمن أراد أن يأنس بالله، فعليه أن يتجنّب بشدّة معاشرة الغافلين؛ ذلك لأنّ الأُنس بالله ينافر الاُلفة مع الغافلين، كما روي عن الإمام علي (ع): «كَيفَ يَأنَسُ بِالله ِ مَن لا يَستَوحِشُ مِنَ الخَلقِ» [١٥]
ولاشكّ في أنّ المراد من «الخلق» في هذا الحديث والأحاديث المشابهة ليس هو الذاكرين؛ لأنّ معاشرة أهل الذكر هي بحدّ ذاتها، عامل مستقلّ لذكره والأُنس به؛ بل المقصود، اجتناب معاشرة الغافلين.
الإرشاد الثالث: الاستمداد من الله تعالى ، حيث إنّ أهل البيت أنفسهم كانوا يطلبون ذلك من الله كرارا: «اللهمّ اجعلنا... آنسين بك».[١٦] أو «آنسني بك ياكريم». [١٧] أو «واجعل أُنسي بك»[١٨]، كما نرى في الدعاء الذي نقلته الصحيفة السجّادية عن الإمام زين العابدين (ع)، أنّه يطلب من الله تعالى الوحشة من الأشخاص السيئين والغافلين والاُنس بالله وأوليائه: «وألبِس قَلبِيَ الوَحشَةَ مِن شِرارِ خَلقِكَ، وهَب لِيَ الاُنسَ بِكَ وبِأَولِيائِكَ وأهلِ طاعَتِكَ» [١٩].[٢٠]
الأُنس بالصالحين
أكّدت الأحاديث الإسلامية على الأُنس بالصالحين، لدوره في البناء المادّي والمعنوي للمجتمع، وقدّمت «أولياء الله» و«المطيعين له»و «أهل الإيمان» و«العقلاء» و«الأصدقاء ذوو السيرة الحسنة» و«أهل الوفاق والمداراة» باعتبارهم من مصاديق المستحقّين للأنس.[٢١]
عوامل «الأُنس» وآفاته
اعتبرت الأحاديث الإسلامية أنّ من عوامل الأُنس «حسن الخلق»و «حسن المعاشرة» و«اللين»و «الإحسان» و«طلب العون من الله تعالى»، كما ذكرت في المقابل «سوء الخلق» باعتباره آفة الأُنس.
جدير ذكره أنّ أسباب الأُنس وآفاته لا تقتصر على ما سبقت الإشارة إليه، بل إنّ جميع ما طرح في الأحاديث الإسلامية باعتباره عامل الأُنس والمحبّة، اعتبرت من عوامل الأُنس أيضا، وكل ما اعتبر آفة المحبّة والألفة، اعتبر آفة الأنس أيضا.[٢٢]
أنواع الأُنس الحميد والمذموم
بالإضافة إلى الحثّ على الأُنس بالصالحين، في الأحاديث الإسلامية، فإنّها أكّدت أيضا على الاُنس بالقيم الأخلاقية والعملية جميعا، كالاُنس بالقرآن، والكتاب، والعلم، والحقّ، والتقوى، وذكر النعم الإلهية، وذكر الآخرة، وكذلك الأُنس بما يخاف منه الجهال.
وفي المقابل، فإنّ ممّا يذمّه الإسلام، الأُنس بالجهال وغير الصالحين، والتعلّق بما ينافي القيم الأخلاقية والعملية، مثل التعلّق بالأهواء والشهوات غير المشروعة، والتعلّق بالدنيا.[٢٣]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ مفردات ألفاظ القرآن: ص ٩٤.
- ↑ معجم مقاييس اللغة: ج ١ ص ١٤٥.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ٦.
- ↑ سورة النور، الآية ٢٧.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٥.
- ↑ الدعوات: ص ٢٤٠ ح ٦٧٢، بحار الأنوار: ج ٨٢ ص ١٧٢ ح ٦.
- ↑ روي عن الإمام الصادق (ع) في بيان جنود العقل والجهل: «والاُلفة وضدّها الفرقة» (موسوعة العقائد الإسلامية (المعرفة): ج ١ ص ٣٤٠ ).
- ↑ الزهد لابن حنبل: ص ٥٢، الدرّ المنثور: ج ٥ ص ٦٤٩.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٦.
- ↑ مشكاة الأنوار: ص ٢٢٣ ح ٦١٨ عن الإمام عليّ (ع).
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٧.
- ↑ غرر الحكم: ج ٤ ص ١٤٥ ح ٥٤١، عيون الحكم والمواعظ: ص ٤٠ ح ٨٨٦.
- ↑ سورة الرعد، الآية ٢٨.
- ↑ غرر الحكم: ج ٤ ص ٥٦٦ ح ٧٠٠٣، عيون الحكم والمواعظ: ص ٣٨٣ ح ٦٤٧٥.
- ↑ جامع الأخبار: ص ٣٦٤ ح ١٠١٣، بحار الأنوار: ج ٩٥ ص ٣٦٠ ح ١٦.
- ↑ الكافي: ج ٣ ص ٣٢٧ ح ٢١، فقه الرضا: ص ١٤١، المصباح للكفعمي: ص ٨٠، البلدالأمين: ص ٢٩٤ وفيه «العالم» بدل «الناس»،بحار الأنوار: ج ٨٦ ص ٢٢٩ ح ٥١ وراجع: تهذيب الأحكام: ج ٥ ص ٢٧٧ ح ٩٤٦ ومصباح المتهجّد: ص ٧٠٦.
- ↑ مهج الدعوات: ص ١٨١، بحار الأنوار: ج ٩٥ ص ٤٠٨ ح ٤٠.
- ↑ الصحيفة السجّاديّة: ص ٩١ الدعاء ٢١، مهج الدعوات: ص ٤٠ عن الإمام الكاظم (ع) نحوه وليس فيه ذيله من «بل اجعل»، بحار الأنوار: ج ٩٤ ص ٣٣٤ح٥.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٧.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٨.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٩.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٥، ص ٣٨٩.