الإمام علي في نهج البلاغة

من إمامةبيديا

شخصية الإمام علي (ع)

الدراسة الدقيقة والموضوعية لشخصية ما هي الدراسة التي تستوعب حياة تلك الشخصية في مختلف الأدوار: في فترة الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة، ففترة الطفولة والصبا لها طبيعتها من الميل إلى اللهو، وفترة الشباب تستدعي طيشاً وانطلاقاً معيناً في العواطف والغرائز والمواقف، وفترة الشيخوخة تصاحبها مؤثراتها ومتاعبها، وأمیر المؤمنین (ع) عاصر في بداية حياته وضع الجاهلية بكل انحرافاتها، ثم عاصر بداية الدعوة وواكبها حتى انتصارها وهو في مرحلة الشباب، ثم قاسى اغتصاب حقه منه مع إيمانه الراسخ به، ثم كان أن عاد الحق إليه مع ابتلائه بالأحداث الجسام من فتن وحروب وغیر ذلك وهو في ذلك السن الذي جاوز فيه الستين، ومروراً بكل تلك الأدوار نجد هذه الشخصية متماسكة فلا تجد ثغرة واحدة فيها خلال تلك الحياة الحافلة بالبلاء والأحداث الكبیرة، وإن هذه النظرة السريعة لتثبت لنا وتؤكد أن عليًّا بشر ولكن ليس كسائر البشر.

فصفات عليٍّ (ع) هي صفات ممكن الوجود ولكنها صفات في أعلى درجات الإمكان، وصفات الله تعالى صفات واجب الوجود التي لا يصل إليها ممكن الوجود بأي حال، وصدق من قال: إذا كان عليٌّ بشراً فلسنا من البشر في شيء، وإن يكن هو الله فذلك هو الكفر.[١]

الإمام علي (ع) ملتقى الكمالات

فأمیر المؤمنین (ع) هو ملتقى الكمالات والفضائل الإنسانية وأنموذج الاصطفاء والعناية الربانية، وسنلاحظ ذلك في عموم أدوار حياته وسائر نشاطه في أمر الدين بما يتعلق بأمر الحروب التي خاضها دفاعاً عن الإسلام ونصرةً للحق من بدر إلى النهروان، وبما يتعلق بمواقفه في فترات حكمه وفترات الحاكمین قبله، ومجال آخر هو عدالته ومظاهر ذلك مع أقرب الناس إليه أو مع ألد الأعداء له، وهي كذلك مع ولاته ومع سائر الناس، ومجال آخر هو إنسانيته مع أهله وخدمته لهم، وفي شؤونه الخاصة في لباسه وطعامه، وفي تواضعه وأريحيته في دعابته، وسعةأفقه وتعاليه، وجملة من شؤونه مع الناس. وقد تجلت في كل ذلك عظمته تجلياً تامًّا.

وأخیراً فإن هذه السیرة الذاتية الرائعة بل المعجزة للإمام (ع)هي مدعاة للسرور والغبطة والفخر من جانب، كما أنها مدعاة للأسى من جانب إعراض الناس عن هذا الرجل الإلهي العظيم الذي جسَّدَ القرآن وجسَّدَ الحق.[٢]

أولاً: بطل الإسلام

وإذا تحدث عليٌّ (ع) عن نفسه فهو الصادق غیر المتهم، وفوق كل ذلك فإن سیرته تصدق قوله فلا مجال للإنكار أبداً، وقد قال (ع)[٣]:

«حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وَهَا أَنَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى اَلسِّتِّينَ وَلَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ.»

فعليٌّ الذي لم يتجاوز حينها العشرين سنة كان بطلَ الإسلام الأول في ساحة الجهاد، ويوم ذاك لم يكن لأبي بكر أثر.. ولم يكن لعمر عن ولا أثر.. ولم يكن لعثمان اسم يذكر في تلك المواقف.. ففي «بدر» كان عليٌّ فارسَ الإسلام الذي جدَّلَ فرسان الكفر، وفي «أُحُد» جاء النداء من السماء قائلاً:

«لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ، وَلاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ»، وإن «أُحُد» لتشهد بذلك، وتلك الفتوة هي كما يقول ابن أبي الحديد كالتي عبر بها القرآن الكريم عن خليل الله إبراهيم(ع)[٤] فلا يرقى لمثلها إلا مثل تلك الشخصية، وفي «الخندق»: ضربة عليٍّ يوم الخندق تعدل أعمال الثقلین.

قال ابن أبي الحديد:

«فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد وَدٍّ فإنها أجل من أن يقال جليلة، وأعظم من أن يقال عظيمة، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله، عليٌّ أم أبو بكر؟ فقال: يابن أخي، واللهِ لمَبارزة عليٍّ عمْراً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتِهم كلها وتُربي عليها، فضلاً عن أبي بكر وحده»[٥].

فقد كان في تلك الضربة نصر الإسلام وعزته وقوة المسلمين وبقاؤهم، واندحار الكفر وهزيمة جيشه، وكان عليٌّ (ع) طوال تلك الفترة يمثل وحده جيشاً عظيماً لا يحتاج الإسلام إلى غیره، وإلى أن بلغ الإمام الستين وهو بعد يجاهد دفاعاً عن الحق.

وقد تحدث الإمام عن تلك المنزلة شاكراً الله تعالى الذي أكرمه بها وتفضل بها عليه، وتلك الكرامة التي خصه بها، فيقول (ع)[٦]:

«وَلَقَدْ عَلِمَ اَلْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اَللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي اَلْمَوَاطِنِ اَلَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا اَلْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ اَلْأَقْدَامُ نَجْدَةٌ أَكْرَمَنِي اَللَّهُ بِهَا»: واللهُ أعلم حيث يجعل رسالته وأمانته فإنه الحكيم الذي يضع الأمور مواضعها.[٧]

ثانياً: مظاهر عدالته

وما أكثر هذه المظاهر وأعظمها، ولكن نأخذ سطوراً معبرة منها:

١. قال (ع)[٨]:
«وَاَللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ اَلسَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي اَلْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اَللَّهَ وَرَسُولَهُ ظَالِماً لِبَعْضِ اَلْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ اَلْحُطَامِ وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى اَلْبِلَى قُفُولُهَا وَيَطُولُ فِي اَلثَّرَى حُلُولُهَا.»
ثم يتحدث عن موقف مع أخيه عقيل وهو من أقرب الناس إليه وقد كان فقیراً محتاجاً وكان في حالة شديدة يعلمها الإمام (ع) وقد وصفها بدقة، ولكن عليًّا لا يساوم على دينه كما يساوم الآخرون، والإمام يقسم باللهِ تعالى ويؤكد واقع الحالة قائلاً:
«واللهِ لقد رأيتُ عقيلاً وقد أملَقَ حتى استماحني من بِرِّكم صاعاً، ورأيتُ صبيانَهُ شعثَ الشعورِ، غُبرْ الألوانِ من فقرِهم، كأنما سُوِّدَتْ وجوهُهم بالعِظْلِمِ، وعاودني مؤكِّداً، وكرَّرَ عليَّ القولَ مردِّداً، فأصغيتُ إليهِ سمعي، فظنَّ أني أبيعُهُ ديني وأَتَّبِعُ قيادَهُ مفارقاً طريقتي، فأحميتُ له حديدةً، ثم أدنيتُها من جسمِهِ ليعتبرِ بها، فضجَّ ضجيجَ ذي دَنَفٍ من ألمِها، وكاد أن يحترقَ من مِيْسَمِها، فقلتُ له: ثكلتْكَ الثواكلُ يا عقيلُ! أتئنُّ من حديدةٍ أحماها إنسانُها لِلَعِبِه، وتجرُّني إلى نارٍ سَجَرَها جبَّارُها لغضبِه! أتئنُّ من الأذى ولا أئِنُّ من لظى.»
وموقف آخر يذكره على إثر هدية أهداها له ابن الأشعث، فيقول (ع) بعد ذلك:
«وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا كَأَنَّهَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ فَقَالَ لاَ ذَا وَلاَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ اَلْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اَللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٍ أَمْ تَهْجُرُ وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ اَلْأَقَالِيمَ اَلسَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اَللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ اَلْعَقْلِ وَقُبْحِ اَلزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ.»
وللهِ أنت يابن أبي طالب، فالذي يتنافس فيه الملوك والناس كنت تنفر منه وتبتعد عنه بهذه الصورة، فهذا المنصور العباسي «هُيِّئَتْ له عجّةٌ من مخٍّ وسكر فاستطابها فقال: أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه.»[٩].
وأما أمیر المؤمنین (ع) فيصف هذه الهدية بأنها كالتي عجنت بريق حية أو قيئها، فنفسه تنفر منها أشد النفرة، لأنها جاءت طمعاً أن يفضل الإمام (ع) جماعة على أخرى في العطاء، وهو يجيب من أتى بها بذلك الجواب الشديد ثم يقسم بأنه لو أعطي الأقاليم السبعة ما ظلم نملة فكيف يظلم العباد.
٢. وكان عنده والٍ له شأن وكان معه في حرب الجمل يجاهد، وذلك الوالي لم يرتكب جرماً عظيماً ولكن عليًّا يأبى إلا أن يربيه على آداب الله تعالى وبكل دقة، ويهديه بالهداية التي يعلمها وبكل إخلاص له، ويأبى إلا أن يكون ولاة الأمة بذلك المستوى الرفيع الذي أرشدهم إليه، فقد أرسل إليه الإمام كتاباً جاء فيه[١٠]:
«أَمَّا بَعْدُ يَا اِبْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ اَلْأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ اَلْجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا اَلْمَقْضَمِ فَمَا اِشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.»
فالإمام (ع) يريد من الوالي أن يكون ملتفتاً دائماً إلى رعيته بحيث لا يتميزعنهم، ويظل يرعاهم تمام الرعاية، ولا يرضى أن يكون الفقیر في رعيته يُبعَدُ ويجفى وأما الغني فإنه يُكرَّم ويدعا، كما يحذره الإمام من أن يُدع ويُرتَشَى بمثل هذه الدعوات وغيرها.
ثم يقرر الإمام (ع) قانوناً عاماً بقوله:
«أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ[١١]، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاِجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ.»
ومن مظاهر عدالتِهِ مع أعدائه أو المعارضین له موقفه مع طلحة والزبیر، فقد قالا له وقت البيعة:
«نُبايِعُكَ عَلى أنّا شُرَكاؤُكَ في هذَا الأَمرِ، فَقالَ لَهُما: لا، ولكِنَّكُما شَريكايَ فِي الفَيءِ، لا أستَأثِرُ عَلَيكُما ولا عَلى عَبدٍ حَبَشِيٍّ مُجَدَّعٍ بِدِرهَمٍ فَما دونَهُ، لا أنَا ولا وَلَدايَ هذانِ، فَإِن أبَيتُما إلّا لَفظَ الشِّركَةِ، فَأَنتُما عَونانِ لي عِندَ العَجزِ وَالفاقَةِ، لا عِندَ القُوَّةِ وَالاِستِقامَةِ. قالَ أبو جَعفَرٍ: فَاشتَرَطا ما لا يَجوزُ في عَقدِ الأَمانَةِ، وشَرَطَ (ع) لَهُما ما يَجِبُ فِي الدّينِ وَالشَّريعَةِ.»[١٢].
فهو يضرب المثل الأعلى في العدالة ويساوي نفسه -وهو أمیر المؤمنین- بسائر رعيته، ويأبى أن يمتاز عليهم بشيء ويأبى أن يُفضِّلَ بعضهم على بعض في العطاء.[١٣]

ثالثاً: إنسانيته الفذة

وهي تتمثل في كثیر من المظاهر، فهو ورغم كونه الحاكم في فترة معينة ورغم كونه قبل هذا أمیر المؤمنین إلا أنه (ع) كان طوال حياته عاملاً كادحاً، بل كان في حياة الرسول (صلّی اللهُ علیه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يؤجِّرُ نفسه حتى لليهودي فيسقي نخيلاتٍ له بأجرٍ ولو كان زهيداً كمقدارٍ من التمر يوفِّره لرسول الله (صلّی اللهُ علیه وَآلِهِ وَسَلَّمَ).

وأما إنسانيته في بيته فهو يشارك زوجه (علیهما السّلام) الخدمة في الطحن أو الكنس أو سائر الأمور الأخرى. وأما إنسانيته في أموره الشخصية فقد تجلت حتى في لباسه وطعامه، وهو يقتدي في ذلك برسول الله، وقد قال متحدثاً عن رسول الله (صلّی اللهُ علیه وَآلِهِ وَسَلَّمَ)[١٤]:

«خَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا خَمِيصاً وَوَرَدَ اَلْآخِرَةَ سَلِيماً لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اَللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ»: وهذا هو الوعي والإدراك لرسالة الإسلام ومنزلة الرسول في القدوة ودور الحاكم وسیرته.

؟؟؟ ثم قال (ع):

«وَ اَللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اِسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لاَ تَنْبِذُهَا فَقُلْتُ اُعْزُبْ عَنِّي فَعِنْدَ اَلصَّبَاحِ يَحْمَدُ اَلْقَوْمُ اَلسُّرَى»:

والإمام بقوله عن مدرعته: (هذه)، يشیر إلى واقع محسوس يرونه، وقد كان من يرقع مدرعته هو الإمام الحسن (ع)، ومع ذلك فقد وصل الحال بالإمام أن يستحي منه.

وفي الكتاب رقم ٤٥ شيء من شؤون الإمام الشخصية في لباسه وطعامه وسائر أموره، ولم يكن ذلك الحال منه بسبب الفقر أو الحاجة بل ليكون أسوة لأضعف رعيته وأشدهم حاجة، وهذه غاية الإنسانية من شخص كان هو الإمام الحاكم المهيمن على المقدرات والثروات، فهو (ع) يقول في هذا الكتاب[١٥]:

«وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ»: فهو إمام الخلق فأراد أن يكون أسوةً لهم جميعاً، وذلك هو همه وتلك هي نفسيته وعدالته وحبه للخلق وخوفه من الخالق.

وكان من تواضعه وإنسانيته أنه لا يحب الإطراء والثناء عليه وينهى أصحابه عن ذلك، فقد خطب بصفین «فأجابه (ع) رجلٌ من أصحابِهِ بكلامٍ طويلٍ، يكثر فيه الثناءَ عليه ويذكرُ سمعَهُ وطاعتَهُ له» فكان مما قاله (ع)[١٦]:

«فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِلَيْكُمْ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ اَلْجَبَابِرَةُ... وَلاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَلاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي... فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ.»

وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً[١٧].

فلو حكم في الأمة أمیر المؤمنین (ع) من يومها الأول فهو بهذا المستوى من التعامل مع الرعية، ولو أُعطِيَ الخلافة بعد الرسول مباشرةً لظهرت الخیرات وبانتِ البركات في أعمالهم لأنه سيهديهم ويحملهم على الصراط المستقيم فيستقيمون «على الطريقة»، وذلك بما يحمله الإمام من فكر ووعي، وبما يملك من هيمنة على النفس لا يملكها غیره.

وقد تحدث الإمام (ع) عن تقصیره في الحقوق التي كلفه الله تعالى بأدائها للرعية، وما ذاك إلا لسان العبد الكامل الذي يستشعر التقصیر دائماً.[١٨]

رابعاً: أريحيته وسعة أفقه وتعاليه

  • فأما أريحيته فقد وصفه حتى أعداؤه بالدعابة والمزاح.

قال ابن أبي الحديد:

«وأما سجاحة الأخلاق وبشرْ الوجه وطلاقة المحيا والتبسم، فهو المضروبُ به المثل فيه؛ حتى عابه بذلك أعداؤه؛ قال عمرو بن العاص لأهلِ الشام: إنه ذو دعابةٍ شديدة، وقال عليٌّ (ع) في ذاك: عجباً لابنِ النابغةِ يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس، وعمرو بن العاص إنا أخذها من عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: للهِ أبوك لولا دعابةٌ فيك! إِلَّا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمَّجها.»[١٩].

وأما واقع تلك الدعابة فهي جانب من جوانب كمال الإمام (ع) في أخلاقه وسیرته، قال ضرار بن ضمرة حينما قال له معاوية صف لي عليًّا:

«وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللهِ مع تقريبهِ إيانا وقربِهِ منا لا نكاد نكلمه هيبةً له.»[٢٠].

وقال قيس بن سعد في حديث مع معاوية أيضاً:

«أما واللهِ لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيبَ من ذي لبدتین قد مسَّهُ الطَّوى، تلك هيبةُ التقوى، لا كما يهابك أهل الشام.»[٢١]. وقد أجاب الإمام نفسه على كلام عمرو هذا[٢٢].
  • وموقف آخر مع الأسرى ومع مَصقلة بن هبیرة وذلك «لما هرب مصقلة بن هبیرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمیر المؤمنین (ع) وأعتقهم، فلا طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام» فقال(ع)[٢٣]:
«قَبَّحَ اَللَّهُ مَصْقَلَةَ! فَعَلَ فِعْلَ اَلسَّادَةِ وَفَرَّ فِرَارَ اَلْعَبِيدِ فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ وَلَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ وَاِنْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ.».

فقد مدحه الإمام على فعله الأول وكان مستعدًّا لأَنْ يعينه على هذا العمل الإنساني مع سبي من أعداء الإمام (ع)، وموضع الشاهد الذي هو فوق ذلك أنه قيل للإمام أن يعيد من أعتقهم مصقلة إلى الرق لأنه لم يقبض ثمن عتقهم كله، فرفض الإمام ذلك وقال (ع):

«لَيْسَ ذَلِكَ فِي اَلْقَضَاءِ بِحَقٍّ قَدْ أُعْتِقُوا إِذْ أَعْتَقَهُمُ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُمْ فَصَارَ مَالِي دَيْناً عَلَى اَلَّذِي اِشْتَرَاهُمْ.»[٢٤].
  • وموقف آخر مع مروان، وما أدراك ما مروان؟
«أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ اَلْجَمَلِ فَاسْتَشْفَعَ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالاَ لَهُ يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَنِي بِسَبَّتِهِ أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ اَلْكَلْبِ أَنْفَهُ وَهُوَ أَبُو اَلْأَكْبُشِ اَلْأَرْبَعَةِ وَسَتَلْقَى اَلْأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وُلْدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ»[٢٥].

فقد عامله الإمام (ع) بذلك المستوى من الإنسانية التي ليس لها نظر والتي هي ذاتية من ذاتياته لا تكلُّفَ فيها.

  • وموقف آخر مع الخريت بن راشد الذي كان مع الإمام في صفین، ثم بعد التحكيم لم يرض بما صنعه الإمام فعزم على عصيانه والاعتزال عنه فجاء إلى الإمام مع ثلاثین من أصحابه، وأخبر الإمام بذلك ولكن الإمام ناقشه وطلب منه أن يناظره وأراد له الهداية وتلك إنسانية رفيعة أن يقبل أولاً أن يفاوض معارضاً يريد الخروج عليه بدل أن يرغمه بالقوة حتى يرجع أصحابه ولا يلحق به آخرون، بل إن الإمام (ع) كان يحب وبكل إخلاص له الهداية[٢٦].
  • وموقف آخر لما مر (ع) بالأنبار في العراق خرج أهلها لاستقباله:
«قَالَ فَلَمَّا اِسْتَقْبَلُوهُ نَزَلُوا عَنْ خُيُولِهِمْ ثُمَّ جَاءُوا يَشْتَدُّونَ مَعَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمَعَهُمْ بَرَاذِينُ[٢٧] قَدْ أَوْقَفُوهَا فِي طَرِيقِهِ فَقَالَ مَا هَذِهِ اَلدَّوَابُّ اَلَّتِي مَعَكُمْ وَمَا أَرَدْتُمْ بِهَذَا اَلَّذِي صَنَعْتُمْ قَالُوا أَمَّا هَذَا اَلَّذِي صَنَعْنَا فَهُوَ خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ اَلْأُمَرَاءَ وَأَمَّا هَذِهِ اَلْبَرَاذِينُ فَهَدِيَّةٌ لَكَ وَقَدْ صَنَعْنَا لِلْمُسْلِمِينَ طَعَاماً وَهَيَّأْنَا لِدَوَابِّكُمْ عَلَفاً كَثِيراً فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَمَّا هَذَا اَلَّذِي زَعَمْتُمْ أَنَّهُ فِيكُمْ خُلُقٌ تُعَظِّمُونَ بِهِ اَلْأُمَرَاءَ فَوَ اَللَّهِ مَا يَنْفَعُ ذَلِكَ اَلْأُمَرَاءَ وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَبْدَانِكُمْ فَلاَ تَعُودُوا لَهُ وَأَمَّا دَوَابُّكُمْ هَذِهِ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ آخُذَهَا مِنْكُمْ وَأَحْسَبَهَا لَكُمْ مِنْ خَرَاجِكُمْ أَخَذْنَاهَا مِنْكُمْ وَأَمَّا طَعَامُكُمُ اَلَّذِي صَنَعْتُمْ لَنَا فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ إِلاَّ بِثَمَنٍ...»[٢٨].

وهذا لطف ورأفة بالرعية وإنسانية لا يقدر عليها إلا عليٌّ (ع) وهو يربي رعيته على ما يصلحهم ولا يريد أن يمتاز عليهم أو يرهقهم.[٢٩]

خامساً: الانضباط والملكات الشريفة

ونجد ذلك في ما قاله قبل موته لما ضربه ابن ملجم لعنه الله[٣٠]:

«إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي الْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ».

وقال (ع)[٣١]:

«يَا بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ اَلْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَلاَ لاَ يُقْتَلَنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي اُنْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ «هَذِهِ اَلضَّرْبَةِ» فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَلاَ يُمَثَّلْ بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَاَلْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ»: وقد كان بإمكانه أن يأمر أهله وشيعته أن يشعلوا الحروب مع قريش والعرب قاطبة من أجل الثأر له، ولكنه يأبى إلا الانضباط والالتزام بأحكام الشرع المقدس، كما أنه يوصيهم كيف يعاملون قاتله وأن لا يمثلوا به التزاماً بحكم الله تعالى.

وموقف عجيب كان للإمام (ع) لما أن منعه معاوية من ماء الفرات بصفین وكان مع الإمام أكثر من مائة ألف فارس، فلما أن تمكن الإمام من الماء بعد قتال شديد، قال أصحاب عليٍّ (ع) له: امنعهم الماء يا أمیر المؤمنین كما منعوك، فقال: : «اَ خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لاَ أَفْعَلُ مَا فَعَلَهُ اَلْجَاهِلُونَ فَسَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ كِتَابَ اَللَّهِ وَنَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدَى فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلاَّ فَفِي حَدِّ اَلسَّيْفِ مَا يُغْنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ.»[٣٢].

وفي مجال ملكاته الشريفة نقف على جانب عظيم ومثیر في موقف الإمام مع عمرو بن العاص:

قال ابن أبي الحديد:

«كان عمرو بن العاص عدوًّا للحارث بن نضر الخثعمي وكان من أصحاب عليٍّ (ع)، وكان عليٌّ (ع) قد تهيبتْهُ فرسان الشام، وملأ قلوبهم بشجاعته، وامتنع كل منهم من الإقدام عليه، وكان عمرو قلما جلس مجلساً إلا وذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمي وعابه، فقال الحارث:
: : : : ليسَ عمرٌو بتاركٍ ذكرَهُ الحا***رثَ بالسوءِ أو يلاقي عليّا
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمْراً فأقسم بالله ليلقنَّ عليًّا ولو مات ألف موتة، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم عليٌّ (ع) وهو مخترطٌ سيفاً معتقلٌ رمحاً، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجليه؛ كاشفاً عورته، فانصرف عنه لافتاً وجهه مستدبراً له، فعدَّ الناسُ ذلك من مكارمه وسؤدده، وضرب بها المثل[٣٣].

سواء ضرب المثل بترفع أمیر المؤمنین (ع) وإنسانيته، أو بِضعة عمرو وموقفه ذاك، ولهذا قيل:

: : : : ولا خیرَ في دفعِ الرَّدَى بمذلَّةٍ*** كما ردَّها يوماً بسوءتِهِ عَمرُو

وأما بسر بن أرطاة -وهو الرجل الطاغية الجافي- فقد كان شديداً مع غیر عليٍّ، أما مع عليٍّ فقد كان كقول القائل:

: : : : أنا في الحربِ ما جرَّبتُ نفسي*** ولكن في الهزيمةِ كالغزالِ

أو كقول القائل:

: : : : أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ*** خرقاءُ تهربُ من صفرِ الصافرِ

فقد حرضه معاوية على لقاء عليٍّ (ع) في الحرب «ولم يزلْ يشجعه ويمنيه حتى رأى عليًّا في الحرب، فقصده، والتقيا فصرعه عليٌّ (ع) وعرض له معه مثل ماعرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة.»

وللشعراء فيهما كما لحارث بن نضر أبياتاً[٣٤] من الشعر مذكورة في المصادر.

«قال معاوية يوماً بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، لا أراك إلا ويغلبني الضحك؛ قال: بماذا؟ قال: أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفین، فأزريتَ نفسك فَرَقاً من شبا سنانه، وكشفتَ سوأتَك له؛ فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكاً؛ إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك، وربا لسانك في فمك، وغصصتَ بريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا منك ما أكره ذكره لك... فقال: يا أبا عبد الله، خض بنا الهزل إلى الجد، إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عارَ على أحد فيهما.»[٣٥].[٣٦]

سادساً: السيرة الواحدة

يقول ابن أبي الحديد:

فإن سیرة رسول الله وسیرة أمیر المؤمنین صلوات والله وسلامه عليها وآلهما واحدة «وإذا تأملتَ أحواله في خلافتِهِ كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله (صلّی اللهُ علیه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في حياته كأنها نسخة منتسَخة منها، في حربه وسلمه وسیرته وأخلاقه، وكثرة شكايته من المنافقین من أصحابه والمخالفین لأمره؛ وإذا أردت أن تعلم ذلك علماً واضحاً، فاقرأ سورة «براءة» ففيها الجم الغفر من المعنى الذي أشرنا إليه.»[٣٧].

وقال (ع):

«أنا مِنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وآله كالعَضُدِ مِنَ المِنكَبِ، وَكَالذِّراعِ مِنَ العَضُدِ، وَكَالكفِّ مِنَ الذِّراعِ؛ رَبَّاني صَغيراً، وآخَاني كَبيراً، وَلَقَد عَلِمتُم أنّي كَان لي مِنه مَجْلِسُ سِرّ لا يَطَّلعُ عليَهِ غَيْري؛ وَإنَه أوْصى إلَيّ دُونَ أصْحابهِ وَأهل بَيْتِهِ، ولأقُولَنَّ مَا لَمْ أقُلْهُ لِأحَد قبلَ هَذا اليَوم، سَألتُهُ مَرَّةً أن يَدعُوَلي بالمَغفِرةِ فَقَالَ: أفْعَلُ ثُمَّ قَامَ فَصَلّى، فَلَمَا رَفَعَ يَدَهُ للدُّعَاءِ استَمعتُ عَليه، فإذا هو قائلٌ: اللهُم بِحَقِ‌ عليّ عندَك اغفر لِعَلي! فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذَا؟ فَقَال: أوَاحِدٌ أكرَمُ مِنكَ عَلَيهِ فَأسْتَشفِعُ بِهِ إليَهِ‌.»[٣٨].

وقال (ع):

«كُنتُ في أيّامِ رَسولِ الله ِ (ص) كَجُزءٍ مِن رَسولِ الله ِ (ص)، يَنظُرُ إلَيَّ النّاسُ كَما يُنظَرُ إلَى الكَواكِبِ في اُفُقِ السَّماءِ، ثُمَّ غَضَّ الدَّهرُ مِنّي، فَقُرِنَ بي فُلانٌ وفُلانٌ، ثُمَّ قُرِنتُ بِخَمسَةٍ أمثَلُهُم عُثمانُ، فَقُلتُ: وا ذَفَراه! ثُمَّ لَم يَرضَ الدَّهرُ لي بِذلِكَ حَتّى أرذَلَني، فَجَعَلَني نَظيرا لِابنِ هِندٍ وَابنِ النّابِغَةِ، لَقَدِ استَنَّتِ الفِصالُ حَتَّى القَرعى»[٣٩].

وكم هو معبرِّ هذا النص عن المرارة والحسرة التي كان يحياها أمیر المؤمنین (ع) بسبب ذهاب الحق وبعد الناس عنه، ولهذا كان مما يأسى عليه كثیراً أن يؤول أمر الحكم والإسلام إلى مثل معاوية ومن بعده، وتضيع كل الجهود التي بُذِلت من أجل الدعوة.[٤٠]

سابعاً: أمير البيان

وهنا كلمة لابن أبي الحديد بعد ذكره كلاماً قاله الإمام (ع) بعد تلاوته ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ[٤١][٤٢]، قال ابن أبي الحديد:

«وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا له، كما سجد الشعراء لقول عديٍّ بن الرقاع: * قلمٌ أصابَ من الدواةِ مِدادَها * فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر؛ كما تعرفون مواضع السجود في القرآن. وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالها من السباع الضارية، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه، إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دماً... وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني، ويوحنا المعمدان الإسرائيلي، والمسيح بن مريم الإلهي.

وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به؛ لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسین سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة، وأثَّرت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رِعدة....»[٤٣].

وبعدُ.. فهذا شيء من السیرة الذاتية للإمام (ع) وبعض من روائعه التي لا تحد. وليس المعنى بالطبع أن صفات عليٍّ هي صفات الله تعالى لأن صفات الله تعالى هي عن ذاته، وأما صفات عليٍّ فهي مُفَاضَةٌ من الله تعالى، وكما قلنا فتلك صفات واجب الوجود التي لا يصل إليها ممكن الوجود، وهذه صفات الممكن ولكنها في أرفع درجات الإمكان. فكان عليٌّ مظهراً لعلم الله تعالى ومظهراً لقدرته ولكلِّ أثرٍ من آثاره.[٤٤]

خاتمة

كان عبد الله بن عباس قبل موته يرفع يديه إلى السماء ويكرر قوله: «اللهم إني أتقرَّبُ إليك بمحمدٍ وآلِ محمد، اللهم إني أتقرَّبُ إليكَ بولايةِ الشيخِ عليِّ بنِ أبي طالب[٤٥].

وجاء في زيارة الأمير (ع)[٤٦]:

«اَلسَّلاَمُ عَلَى أَبِي اَلْأَئِمَّةِ وَخَلِيلِ اَلنُّبُوَّةِ وَاَلْمَخْصُوصِ بِالْأُخُوَّةِ، اَلسَّلاَمُ عَلَى يَعْسُوبِ اَلدِّينِ وَاَلْإِيمَانِ وَكَلِمَةِ اَلرَّحْمَنِ، اَلسَّلاَمُ عَلَى مِيزَانِ اَلْأَعْمَالِ وَمُقَلِّبِ اَلْأَحْوَالِ وَسَيْفِ ذِي اَلْجَلاَلِ وَسَاقِي اَلسَّلْسَبِيلِ اَلزُّلاَلِ، اَلسَّلاَمُ عَلَى صَالِحِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَوَارِثِ عِلْمِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلْحَاكِمِ يَوْمَ اَلدِّينِ، اَلسَّلاَمُ عَلَى شَجَرَةِ اَلتَّقْوَى وَسَامِعِ اَلسِّرِّ وَاَلنَّجْوَى، اَلسَّلاَمُ عَلَى حُجَّةِ اَللَّهِ اَلْبَالِغَةِ وَنِعْمَتِهِ اَلسَّابِغَةِ وَنِقْمَتِهِ اَلدَّامِغَةِ، اَلسَّلاَمُ عَلَى اَلصِّرَاطِ اَلْوَاضِحِ وَاَلنَّجْمِ اَللاَّئِحِ وَاَلْإِمَامِ اَلنَّاصِحِ وَاَلزِّنَادِ اَلْقَادِحِ، وَرَحْمَةُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ.»

ويستحب في تعقيبات صلاة الصبح أن يقال:

«اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي عَلَى مَا أَحْيَيْتَ عَلَيْهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَمِتْنِي عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ»[٤٧].

نسأل الله تعالى أن يحيينا على نهجه العظيم، ويحشرنا تحت ظلال لوائه لواء الحمد، ويسقينا من حوض كوثره بيده، ويجعلنا معه في أعلى عليین.[٤٨]

المراجع والمصادر

  1. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة

الهوامش

  1. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة (كتاب)|العقائد من نهج البلاغة، ص٣٧٥-٣٧٦.
  2. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٧٦.
  3. نهج البلاغة، الخطبة ٢٧.
  4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٢١٧ .
  5. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ / ٦٠ .
  6. نهج البلاغة، الخطبة ١٩٧ .
  7. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٧٧-٣٧٨.
  8. نهج البلاغة، الخطبة ٢٢٤ .
  9. مروج الذهب ٣/ ٣٠٩ . وإبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أحد الذين قاموا على المنصور.
  10. نهج البلاغة، الكتاب رقم ٤٥ .
  11. الطِّمْرُ: الثوب الَخلِقُ البالي.
  12. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧/ ٤٢ .
  13. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٧٨-٣٨٢.
  14. نهج البلاغة، الخطبة ١٦٠ .
  15. نهج البلاغة، الكتاب رقم ٤٥ .
  16. نهج البلاغة، الخطبة ٢١٦، ص ٣٣٥ .
  17. سورة الجن، الآية ١٦.
  18. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٨٢-٣٨٤.
  19. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١/ ٢٥ .
  20. الإمام علي من المهد إلى اللحد/ ٢٤٣ .
  21. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١/ ٢٥ .
  22. نهج البلاغة، الخطبة ٨٤ .
  23. نهج البلاغة، الخطبة ٤٤ .
  24. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣/ ١٤٧ .
  25. نهج البلاغة، الخطبة ٧٣ .
  26. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣/ ١٢٨ .
  27. جمع «بِرْذون»: وهو الخيل غير العربي.
  28. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣/ ٢٠٣ .
  29. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٨٤-٣٨٧.
  30. رقم ٢٣، ص ٣٧٨ .؟؟؟
  31. نهج البلاغة، الكتاب ١٣، ص ٤٢٢ .
  32. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣/ ٣٣١ .
  33. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦/ ٣١٣ .
  34. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦/ ٣١٦ - ٣١٧ .
  35. شرح النهح لابن أبي الحديد ٦/ ٣١٣ - ٣١٧ . ففيها ما يتعلق بعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة.
  36. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٨٨-٣٩١.
  37. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦/ ١٢٩ .
  38. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠ / ٣١٥ .
  39. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠ / ٣٢٦ .
  40. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩١-٣٩٢.
  41. سورة التكاثر، الآية ١-٢.
  42. نهج البلاغة، الخطبة ٢٢١، ص ٣٣٨ .
  43. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ١٥٣ .
  44. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩٣-٣٩٤.
  45. الكنى والألقاب ١/ ٣٤٧ - ٣٤٨ .
  46. مفاتيح الجنان / ٤٣٧ .
  47. مفاتيح الجنان / ٤٨ .
  48. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩٤.