البداء
تمهيد
من العقائد التي أكد عليها القرآن الكريم وكذا السنة الشريفة ولكن هناك مَنْ يحاول أنْ لا يقول بذلك ويعتقده على الرغم من التأكيد عليه فيهما، ولذا نرى أنَّ هناك مَنْ يشنِّع على الشيعة اعتقادهم بالبداء، وقد تحامل بعض من خفيت عليه حقيقة الأمر على هذه الفرقة المحققة وراح يبحث عن تأويل مصطنع كي يصل إلى بغيته من السخرية والانتقاد. قال الفخر الرازي في تفسيره: (قالت الرافضة: البداءُ جائزٌ على اللهِ تعالى، وهو أنْ يعتقدَ شيئاً ثم يظهر له أنَّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله تعالى: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ [١]، وهذا باطلٌ لأنَّ علمَ اللهِ من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبديل فيه محالاً). [٢]
وقال أيضاً في كتابه (المحصل): إنَّ أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم:
- القول بالبداء. فإذا قالوا إنه سيكون لهم قوة وشوكة، ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا اللهِ تعالى فيه.
- التقية. فكلما أرادوا شيئاً يتكلمون به فإذا قيل لهم: هذا خطأ، وظهر بطلانه، قالوا: إنما قلناه تقية. [٣]
وإذا توخينا الحقيقة وجدنا إنَّ هذه النسبة إلى الشيعة نشأت من الخلط بين البداء الذي يقع للإنسان، والبداء الذي ينسبه القرآن الكريم إلى الله تعالى والذي يعبر عنه ب (المحو والإثبات).
فالبداء في الإنسان: أنْ يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً. [٤] وهذا هو المعنى اللغوي للكلمة.
فالبداء في اللغة: الظهور بعد الخفاء، ومنه قول الشاعر: (بَدا لي منها معصمٌ حين جمرت)
ومن الواضح إنَّ البداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى لأنه من الجهل والنقص وذلك محال على تعالى والشيعة براء من هذا القول.
وقال الشيخ الكليني: (واتفقت الأمة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلا مَنْ لا يعتد به، ومن افترى ذلك على الإمامية فقد افترى كذباً عظيماً والإمامية براء).[٥]
أما البداء الذي يصح نسبته إلى الله تعالى فهو إظهار ما كان مستوراً ومخفياً للغير، كان هناك مصلحة في إخفاء ذلك الأمر، ثم زالت المصلحة بحصول مصلحة أخرى تستوجب الكشف والإظهار. وفي هذه الصورة يكون الأمر الواقع هو لم يتغير ولم يتبدل وإنما التبدل حصل في إظهار ذلك المكتوم بعد إخفائه.
ونجد نماذج كثيرة في القرآن الكريم والروايات المعتبرة على حصول مثل هذا الأمر.
فالله قد يظهر شيئاً على لسان نبيه أو وليه لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه، ومن الواضح أنه رآه عن مكاشفةِ صدقٍ، لا مكاشفةِ كهانةٍ، أو تنجيمٍ عن تجربةٍ ناقصةٍ، ثم أخبره الله تعالى بعلمه المكنون عنده بغير ما اطلع عليه إبراهيم أولاً. وينطبق على هذا قوله تعالى: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِندَهُ أُمُّ الكتاب [٦]، وليست هذه العقيدة خاصة بالشيعة الإمامية، بل هي عقيدة يدين بها جميع المسلمين لدلالة صريح القرآن على ذلك.[٧]
مفهوم البداء
كلمة البداء مشتقّة من مادّة «بدو» بمعنى الظهور، وتستعمل بمعنيين هما الظهور بعد الخفاء وظهور الرأي الجديد، حيث ذكر الفيروز آبادي والجوهري وابن فارس على التوالي:
بدا، بدوا، وبدوّا: ظهر. وبدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة: نشأ فيه رأي.[٨]
بدا له في هذا الأمر بداء، أي نشأ له فيه رأي.[٩]
تقول: بدا لي في هذا الأمر بداء، أي تغيّر رأيي عمّا كان عليه.[١٠]
والمعنى الثاني للبداء (أي ظهور الرأي الجديد) يمكن أن يكون هو أيضا على صورتين: ظهور رأي على خلاف الرأي السابق (أو التغير في الرأي)، وظهور رأي دون أن تكون له خليفة في رأي آخر.
وهكذا يستخدم البداء في اللغة العربية في ثلاثة مواضع:
- ظهور شيء بعد خفائه.
- ظهور رأي خلافا للرأي السابق، أو تغيير الرأي.
- ظهور رأي دون أن تكون له خليفة مسبقة.
والآن علينا أن نتعرّف على المعنى الّذي استخدم فيه البداء في الكتاب والسنّة فيما يتعلّق بالله تعالى.[١١]
البداء في الكتاب والسنة
زعم الكثير من الذين أبدوا آراءهم حول البداء أو أنكروه، أنّ البداء بالمعنى الأوّل هو المستخدم فيما يتعلّق بالله، وبالتالي فقد عمدوا إلى الاستدلال على هذا المعنى أو ردّه، ولكنّ البداء استخدم في الكتاب والسنّة بالمعنيين الأخيرين فيما يتعلّق بالله ـ تعالى ـ، أمّا المعنى الثالث فلا خلاف فيه، وإنما الّذي خضع للبحث واختُلِف بشأنه هو المعنى الثاني منها.
وقد لاحظنا في بحث القضاء والقدر، أنّ الله جعل تحت اختيار البشر إمكانيّات وثروات مثل القدرة والرزق والعمر والبقاء بشكل محدود، وهذه المحدوديّة هي التقدير الإلهي، ومن جهة اُخرى فإنّ التقدير الإلهي على قسمين: محتوم (أو غير قابل للتغيير)، وغير محتوم (أو قابل للتغيير)، فقد روي عن الإمام الباقر (ع): «مِنَ الاُمُورِ اُمُورٌ مَحتُومَةٌ كائِنَةٌ لا مَحالَةَ، وَمِنَ الاُمُورِ اُمُورٌ مُوقُوفَةٌ عِندَ اللهِ، يُقَدِّمُ فِيها مَا يَشاءُ وَيَمحُو مَا يَشاءُ وَيُثبِت مِنها ما يَشاءُ» [١٢]
فعلى هذا الأساس يكون عبارة عن التغيير في التقدير غير المحتوم عن طريق تقديم التقديرات وتأخيرها، أو محو تقدير وإثبات تقدير آخر، كما جاء في القرآن الكريم: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[١٣]
وروي عن الإمام الصادق (ع) في تفسير هذا الآية الكريمة: «هَل يُمحى إلاّ ما كَانَ ثابِتا؟ وَهَل يُثبَتُ إلّا ما لَم يَكُن؟» [١٤].[١٥]
نماذج من البداء في القرآن
ذكر القرآن الكريم بعض المواضع المهمّة الّتي حدث فيها البداء، ومنها البداء في عذاب قوم يونس: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ[١٦]
وروي عن الإمام الباقر (ع) بيان كيفية البداء كالتالي: «إنَّ يونُسَ لَمّا آذاهُ قَومُهُ دَعَا اللهَ عَلَيهِم، فَأَصبَحوا أوَّلَ يَومٍ ووُجوهُهُم مُصفَرَّةٌ وأصبَحُوا اليَومَ الثّانِيَ ووُجوهُهُم سودٌ، قالَ: وكانَ اللهُ واعَدَهُم أن يَأتِيَهُمُ العَذابُ، فَأَتاهُمُ العَذابُ حَتّى نالوهُ بِرِماحِهِم؛ فَفَرَّقوا بَينَ النِّساءِ وأولادِهِنَّ، وَالبَقَرِ وأولادِها، ولَبِسُوا المُسوحَ وَالصّوفَ، ووَضَعُوا الحِبالَ في أعناقِهِم، وَالرَّمادَ عَلى رُؤوسِهِم، وضَجُّوا ضَجَّةً واحِدَةً إلى رَبِّهِم؛ وقالوا: آمَنّا بِإِلهِ يونُسَ؛ قالَ: فَصَرَفَ اللهُ عَنهُمُ العَذابَ» [١٧]
النموذج الثاني للبداء هو البداء الحاصل في مواعدة موسى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ[١٨]
وروي عن الإمام الباقر (ع) في تفسير الآية قوله: «كانَ فِي العِلمِ وَالتَّقديرِ ثَلاثينَ لَيلَةً، ثُمَّ بَدا للّهِِ فَزادَ عَشرا، فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ لِلأَوَّلِ وَالآخِرِ أربَعينَ لَيلَةً»[١٩]
ومن نماذج البداء، البداء في دخول الأرض المقدّسة: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[٢٠]
روي عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية: «كَتَبَها لَهُم ثُمَّ مَحاها، ثُمَّ كَتَبَها لِأَبنائِهِم فَدَخَلوها، وَاللهُ يَمحو ما يَشاءُ ويُثبِتُ وعِندَهُ اُمُّ الكِتابِ» [٢١]
وروي عنه أيضا: «كانَ في عِلمِهِ أنَّهُم سَيَعصونَ ويَتيهونَ أربَعينَ سَنَةً، ثُمَّ يَدخُلونَها بَعدَ تَحريمِهِ إيّاها عَلَيهِم» [٢٢]
يصرّح الإمام الصادق (ع) في الحديثين السابقين: إنّ البداء كان في كتاب التقديرات، لا في علم الله الذاتي، وذلك لأنّ كلّاً من التقدير السابق، وكذلك ذنب بني إسرائيل وكذلك التغيير في التقدير السابق وإثبات التقدير الجديد، كلّ ذلك كان في علم الله الذاتي والأزلي.
ومن جملة البداء، البداء في ذبح إسماعيل.[٢٣].[٢٤]
نماذج من البداء في روايات أهل السنّة
نشير هنا إلى نماذج من طرح مسألة البداء في الأحاديث الّتي جاءت في مصادر أهل السنّة كي يتّضح لنا أنّ هذه المسألة لا تقتصر على روايات أتباع أهل البيت (ع):
البداء في زيادة الرزق ونقصانه والأجل والمحبّة
روي في مصادر أهل السنة عن رسول الله (ص) في تفسير الآية: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ[٢٥]: يَمحُو مِنَ الرِّزقِ ويَزيدُ فيهِ، ويَمحو مِنَ الأَجَلِ ويَزيدُ فيهِ.[٢٦]
كما روي عن النبيّ (ص) أنّ صلة الرحم تؤدّي إلى زيادة الثروة والمحبّة في الأهل وتأخير الأجل: صِلَةُ القَرابَةِ مَثراةٌ فِي المالِ، مَحَبَّةٌ فِي الأَهلِ، مَنسَأَةٌ فِي الأَجَلِ. [٢٧]
البداء في الشقاء والسعادة
وروي أيضا عن النبيّ (ص) في تفسيره لتلك الآية: الصَّدَقَةُ وَاصطِناعُ المَعروفِ وصِلَةُ الرَّحِمِ وبِرُّ الوالِدَينِ، يُحَوِّلُ الشَّقاءَ سَعادَةً، ويَزيدُ مِنَ العُمُرِ، ويَقي مَصارِعَ السَّوءِ.[٢٨]
البداء في مطلق القضاء والقدر
ورد في الأحاديث الكثيرة عن رسول الله (ص) تأكيدُ دور الدعاء في تغيير العاقبة المقدّرة للإنسان، ومنها الأحاديث التالية: «الدُّعاءُ يَرُدُّ القَضاءَ، وللّهِِ في خَلقِهِ قَضاءانِ: قَضاءٌ ماضٍ، وقَضاءٌ مُحدَثٌ»[٢٩] «لا يَرُدُّ القَدَرَ إلَا الدُّعاءُ»[٣٠]«لا يَرُدُّ القَضاءَ إلَا الدُّعاءُ»[٣١] «الدُّعاءُ جُندٌ مِن أجنادِ اللهِ تَعالى مُجَنَّدٌ، يَرُدُّ القَضاءَ بَعدَ أن يُبرَمَ»[٣٢] «يا بُنَيَّ، أكثِر مِنَ الدُّعاءِ، فَإِنَّ الدُّعاءَ يَرُدُّ القَضاءَ المُبرَمَ»[٣٣] «لا يُغني حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، وَالدُّعاءُ يَنفَعُ مِمّا نَزَلَ ومِمّا لَم يَنزِل»[٣٤]. «صِلَةُ القَرابَةِ مَثراةٌ فِي المالِ، مَحَبَّةٌ فِي الأَهلِ، مَنسَأَةٌ فِي الأَجَلِ»[٣٥]
كما روي عن الإمام عليّ (ع): «إنَّ اللهَ يَدفَعُ الأَمرَ المُبرَمَ» [٣٦].
وأمثال هذه الروايات كثيرة للغاية في مصادر أهل السنّة، على هذا فإنّ منكري البداء لابدّ وأن ينكروا جميع هذه الأحاديث.[٣٧]
البداء من منظار الوجدان والعقل
يدرك كلّ إنسان من خلال الرجوع إلى ضميره أنّ وضعه الحالي من الممكن أن يكون بشكل آخر، على سبيل المثال: فإن كان فقيرا فمن الممكن أن يكون غنيّا، وإن كان سقيما فمن الممكن أن يكون سليما وهكذا، لذلك فإنّه يطلب من الله في أدعيته أن يغنيه ويعافيه، وهذا التغيير في التقدير ماهو في الحقيقة إلّا البداء.
من جهة اُخرى فإنّ العقل يثبت جميع الكمالات للّه سبحانه، ومن جملة الكمالات القدرة المطلقة، واستنادا إلى القدرة المطلقة، فإنّ الله بإمكانه أن يغيّر هذا التقدير حتّى بعد تعيين التقدير الخاص؛ كفقر زيد أو مرض عمرو مثلاً، فهو قادر على أن يغني ويعافي زيدا وعمرا، وإنّ ما نقوله من أنّ الله لا يعود بإمكانه أن يغيّر التقدير بعد إبرامه، هو تحديد لقدرة الله وسلب لكمال من كمالاته وهذا ما يخالف صريح حكم العقل.[٣٨]
عدم تعارض البداء والعلم الأزلي
الإشكال الأهمّ لمنكري البداء هو أنّه لا يتلاءم مع علم الله المطلق والذاتي، يقول الغفّاري حول استناد الشيعة إلى الآية: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[٣٩]:
كلامهم هذا باطل؛ لأنّ المحو والإثبات بعلمه وقدرته وإرادته من غير أن يكون له بداء في شيء، وكيف يتوهّم له البداء وعنده أمُّ الكتاب وله في الأزل العلم المحيط؟ وقد بيّن الله تعالى في آخر الآية إنّ كلّ ما يكون منه من محو وإثبات وتغيير واقع بمشيئة ومسطور عنده في اُمِّ الكتاب.[٤٠]
يجب أن نقول في الجواب: إنّ المقصود من البداء هو: «المحو والإثبات بعلمه وقدرته وإرادته» وإنّ ما تقولونه من أنّ: «المحو والإثبات بعلمه وقدرته وإرادته من غير أن يكون له بداء في شيء» هو جمع للنقيضين؛ لأنّ معناه أنّ «للّه البداء من غير أن يكون له بداء في شيء».
ومفروض كلام الغفاري أنّ مرجع البداء فيما يتعلّق بالله هو الجهل، لذلك يقول: «كيف يتوهّم له البداء وعنده اُمّ الكتاب وله في الأزل العلم المحيط».
في حين أنّ هذا الفرض خاطئ ومخالف لنصوص أحاديث الإماميّة الّتي نقلناها سابقا، والتي تصرّح بأنّ البداء يصدر من العلم الإلهي المكنون المخزون، وأنّ هذا العلم حاكم على جميع البداءات. وقد روي عن الإمام الصادق (ع) في هذا المجال: «إنّ للّهِِ عِلمَينِ: عِلمٌ مَكنونٌ مَخزونٌ لا يَعلَمُهُ إلّا هُوَ، مِن ذلِكَ يَكونُ البَداءُ، وعِلمٌ عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ ورُسُلَهُ وأنبِياءَهُ فَنَحنُ نَعلَمُهُ» [٤١]
ونقل في حديث آخر عنه (ع): «كُلُّ أمرٍ يُريدُهُ اللهُ فَهُوَ في عِلمِهِ قَبلَ أن يَصنَعَهُ، ولَيسَ شَيءٌ يَبدو لَهُ إلّا وقَد كانَ في عِلمِهِ، إنَّ اللهَ لا يَبدو لَهُ مِن جَهلٍ» [٤٢] ويرى الدهلوي أنّ أحد معاني البداء، هو البداء في العلم، ويسمّيه البداء في الإخبار. حيث يقول: يظهر من مجموع روايات الشيعة أنّ للبداء ثلاث معان: البداء في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم... [٤٣].
ويزعم هو وعلماء أهل السنّة الآخرون أنّه عندما يدور الحديث عن البداء في الإخبار، أو البداء في العلم، فإنّ المراد منه البداء في علم الله الذاتي والأزلي، وسبب هذا الاشتباه هو أنّهم لا يفرّقون بين العلم الذاتي والعلم الفعلي، مع أنّ علم الله الذاتي والأزلي، هو علم مطلق يشمل جميع ما حدث في العالم وسوف يحدث، ومن جملته البداءات والتغييرات الّتي سوف تحدث في التقديرات، وأمّا العلم الفعلي فهو الكتاب الّذي تثبت فيه تلك التقديرات، ويمكن أن يقال: إنّ العرش، والكرسي، واُمّ الكتاب وكتاب المحو والإثبات كلّ ذلك هو من جملة العلوم الفعليّة، أو كتب علم الله، وقد سجّل في بعض هذه الكتب، ـ مثل اُمّ الكتاب ـ كلّ شيء حتّى ما يحصل فيه البداء. وأمّا في كتاب المحو والإثبات فلم يسجّل إلّا بعض التقديرات، والبداء يقع في هذا الكتاب فعلى سبيل المثال إذا كان المقدّر لشخص ما أن يكون فقيراً ففي كتاب المحو والإثبات يسجّل له دوام الفقر، لكن بعد دعائه يغيّر الله سبحانه هذا التقدير فيثبته غنياً في لوح المحو والإثبات في حين أنّ كلا التقديرين موجودان في لوح اُمّ الكتاب وبطريق أولى هما موجودان في علم الله الذاتي الأزلي، ولم يحدث أيّ تغيير في علم الله الذاتي، سوف نذكر حكمة هذه التغييرات عند البحث عن حكمة البداء.
على هذا فإنّ من يرى أن البداء في العلم ملازم لجهل الله سبحانه، قد خلط بين العلم الذاتي والعلم الفعلي، ولم يدرك معنى العلم الفعلي.
إنّ ما يراه البعض من أنّ الجهل ملازم للبداء فيما يتعلّق بالله، له سبب آخر أيضا وهو قياس الله بالإنسان، وهو الّذي يجب اجتنابه بشدة في المباحث العقائديّة، فقد روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: «إنَّهُ مَن يَصِفُ رَبَّهُ بِالقِياسِ لا يزالُ الدَّهرَ فِي الالتِباس»[٤٤]
وعندما يحدث البداء للبشر في أمر ما ونصل إلى رأي جديد، فإنّ هذا الرأي الجديد يحصل لنا في الغالب إثر ظهور علم واطّلاع جديدين، ويرى معارضو البداء أنّ هذه الحالة نفسها تجري أيضا فيما يتعلّق بالله، قال الغفاري: جاء في القاموس: «بدا بدواً وبدّواً: ظهر. وبدا له في الأمر بدواً وبداءً وبداة: نشأ له فيه رأي». فالبداء في اللغة له معنيان:
وهذا يستلزم الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله تعالى.[٤٥]
وهذا التفسير للبداء إنما هو على أساس قياس الخالق بالمخلوق، ولكنّ اتباع أهل البيت (ع) لا يرون له قيمة، فقد روي عن الإمام الصادق (ع): «مَن زَعَمَ أنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ يَبدو لَهُ في شَيءٍ لَم يَعلَمهُ أمسِ فَابرَؤُوا مِنهُ»[٤٦]
كما روي عن منصور بن حازم قال: «سَأَلتُ أبا عَبدِ اللهِ (ع): هَل يَكونُ اليَومَ شَيءٌ لَم يَكُن في عِلمِ اللهِ بِالأَمسِ ؟ قالَ: لا، مَن قالَ هذا فَأَخزاهُ اللهُ، قُلتُ: أرَأَيتَ ما كانَ وما هُوَ كائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ، ألَيسَ في عِلمِ اللهِ ؟ قالَ: بَلى، قَبلَ أن يَخلُقَ الخَلقَ»[٤٧]
على هذا فإنّ مصدر البداء فيما يتعلق بالله سبحانه ليس هو الجهل حسب عقيدة الإماميّة، وإذا ما اعتقد أحد بمثل هذا البداء الّذي هو نفس البداء الحاصل للبشر، فإنّ هذا الاعتقاد إنكار لعلم الله المطلق، وهو اعتقاد باطل ويخالف ضروريّات العقائد الإسلاميّة، ولا يمكن أن نجد بين علماء الإماميّة من ينسب إلى الله البداء الناجم عن الجهل.[٤٨]
آثار الاعتقاد بالبداء
جدير بالذكر أنّ لمبدأ البداء آثاراً مهمّة في المجالات العقيديّة البارزة؛ وهي:
- معرفة الله،
- معرفة النبيّ،
- معرفة الإمام،
- معرفة الإنسان.
معرفة الله
يتمثّل أهمّ آثار القول بالبداء في إثبات القدرة والحريّة المطلقتين للّه، ذلك لأنّه ما لم يحدث الفعل الخاص في الخارج، فإنّ من الممكن أن يغيّر الله التقدير وأن لا يقع ذلك الفعل، حتّى إذا تعلّقت المشيئة والتقدير والقضاء الإلهي بتلك الحادثة، على هذا فإنّ أيّ شيء ـ حتّى القضاء والقدر ـ لا يمكنه أن يحدّ من قدرة الله ومالكيته ويغلّ يده، عن التغيير، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ[٤٩]
وليس مراد اليهود من قولهم: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ أنّ للّه يدا وأنّ يداه مغلولتان بحبل مثلاً، بل إنّهم كانوا يعتقدون بأنّ الله «قد فرغ من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص» فقال الله جلّ جلاله تكذيبا لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. [٥٠]
وهكذا فإنّ الاعتقاد بالبداء الّذي هو الاعتقاد ببسط يد الله في التقديرات، هو ردّ على اعتقاد اليهود بأنّ يد الله مغلولة، وإنّ الذين ينكرون البداء بمعناه الصحيح، إنّما هم في صفّ اليهود، ومن الطريف أن نعلم أنّ بعض منكري البداء يتّهمون الشيعة بتوافقهم مع اليهود في البداء، في حين أنّ معارضي البداء يتّفقون مع اليهود استنادا إلى الآية المتقدمة.
يبدو لنا أنّ أحد أسباب إنكار من قبل أهل السنّة هو وجود جملة من الأحاديث في مصادرهم المعتبرة تدلّ على أنّ الله قد فرغ من القضاء والقدر، وتنفي كلّ تغيير فيهما، سنجعل هذه الأحاديث في معرض البحث والتّقويم في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
معرفة النبيّ والإمام (علم النبوّة والإمامة)
بلغت أهمّية البداء في معرفة النبي حدّا، بحيث روي عن الإمام الرضا (ع): «ما بَعَثَ اللهُ نَبِيَّا قَطُّ إلّا بِتَحرِيمِ الخَمرِ وأن يُقِرَّ لَهُ بِالبَداءِ».[٥١]
فالإعتقاد بإمكانيّة البداء وقابلية التغيير في التقديرات يمنح النبي الاعتقاد، بقدرة الله المطلقة وبسط يده، حيث يُفهمه أنّ هذه التقديرات قابلة للتغيير رغم أنّه عالم بتقديرات العالم يفضل الله، وأنّ الله وحده هو الّذي يتمتّع بالعلم المطلق، وبالتالي فإنّ النبيّ لا يستند إلى علمه، بل يعتبر نفسه مرتبطا بالله في جميع اُموره.
وروي عن الإمام الصادق (ع) في هذا المجال: «إنّ للّهِِ عِلمَينِ: عِلمٌ مَكنونٌ مَخزونٌ لا يَعلَمُهُ إلّا هُوَ، مِن ذلِكَ يَكونُ البَداءُ، وعِلمٌ عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ ورُسُلَهُ وأنبِياءَهُ فَنَحنُ نَعلَمُهُ» [٥٢]
بناءً على ذلك، فإنّ العلم الّذي لا يقبل التغيير هو علم الله المكنون المخزون الّذي لا يعلمه إلّا الله، وإنّ علم الملائكة والأنبياء والأئمّة المعصومين بالمستقبل قابل للبداء، لذلك فإنّهم لا يعتمدون على علمهم ولا يخبرون عن المستقبل بشكل مطلق، إلّا في المواضع الّتي أخبر الله عن عدم وقوع البداء فيها كظهور المنجي الموعود وإقامة الإمام المهدي(عج) الحكومة العالمية، لذلك يروي لنا الإمام الباقر (ع) عن الإمام السجّاد (ع) قوله: «لَولا آيَةٌ في كِتابِ اللهِ لَحَدَّثتُكُم بِما يَكونُ إلى يَومِ القِيامَةِ، فَقُلتُ لَهُ: أيَّةُ آيَةٍ ؟ قالَ: قَولُ اللهِ عز وجل: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»[٥٣]
ومن بين الإتهامات الموجّهة ضدّ الشيعة هي أنّهم وضعوا حكم البداء كي يبرّروا به أخبار أئمّتهم ووعودهم الّتي لم تتحقّق، يقول الغفاري: لو سقطت عقيدة البداء لانتقض دين الاثني عشرية من أصله؛ لأنّ أخبارهم ووعودهم الّتي لم يتحقّق منها شيء تنفي عنهم صفة الإمامة [٥٤].
إنّ الإجابة على هذا الإشكال واضحة بالنظر إلى المباحث السابقة، ذلك لأنّ الأنبياء والأئمّة (ع) لا يخبرون عن التقديرات القابلة للبداء بشكل مطلق أبداً. بعبارة اُخرى: إن كانت أخبارهم عن المستقبل مطلقة ولم تقترن بأيّ قيد، فإنّ هذا الموضوع سيحدث قطعا، وإن اقترنت هذه الأخبار بقيود مثل: «وللّه فيه المشيئة» فإنّ هناك إمكانيّة البداء في هذه الاُمور. وقد ورد في الأحاديث أيضا أنّ الله لا يكذّب نبيّه، فقد روي عن الإمام الباقر (ع): «فَما عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ ورُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكونُ، لا يُكَذِّبُ نَفسَهُ ولا مَلائِكَتَهُ ولا رُسُلَهُ»[٥٥]
وخلافا لما يروّج له الغفاري من أنّه لم يتحقّق من إخبار الأئمّة (ع) شيء، بل يجب القول إنّ جميع إخباراتهم قد تحققت، وإنّه لا يوجد خبر مطلق عنهم ثبت كذبه. ولو أنّ الغفاري كان قد طالع كتب الحديث الشيعية وكان صادقا بعض الشيء، لوجد أخبارا عديدة وقعت كلّها بشكل عيني.
وقد نقل العلّامة الحلّي في كتاب كشف اليقين خمسة عشر خبرا غيبيا عن أمير المؤمنين (ع) وقعت كلّها بحذافيرها: «ومن ذلك: قوله لطلحة والزبير لمّا استأذناه في الخروج إلى العمرة: «لا وَاللهِ، ما تُريدانِ العُمرَةَ، إنَّما تُريدانِ البَصرَةَ، وإنَّ اللهَ تَعالى سَيَرُدُّ كَيدَهُما، ويُظفِرُني بِهِما».
وكان الأمر كما قال. ومن ذلك قوله (ع) وقد جلس لأخذ البيعة: «يَأتيكُم مِن قِبَلِ الكوفَةِ ألفُ رَجُلٍ، لا يَزيدونَ واحِدا ولا يَنقُصونَ واحِدا، يُبايعونّي عَلَى المَوتِ»
قال ابن عبّاس: فجزعت لذلك، وخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليهم، ولم أزل مهموما، فجعلت أحصيهم، فاستوفيت تسعمئة وتسع وتسعين رجلاً، ثمّ انقطع مجيء القوم، فبينا أنا مفكّر في ذلك، إذ رأيت شخصا قد أقبل، فإذا هو اُويس القرني تمام العدد». [٥٦]
كما نقلنا في «موسوعة الإمام عليّ (ع)» عدداً من نبوءات أمير المؤمنين (ع)، ولم يثبت خلاف شيء منها.
وكان على الغفاري أن ينقل بعض النماذج التي ثبت كذبها؛ لإثبات دعواه. نعم قد نقل خبرا قال فيه: «ففي رواية طويلة في تفسير القمّي تخبر عن نهاية دولة بني العبّاس».[٥٧]
ولكنّنا عندما نراجع تفسير القمّي نجده يقول: «قلت: جعلت فداك فمتى يكون ذلك، قال؟ أما إنّه لم يوقّت لنا فيه وقت». [٥٨]
وممّا يجدر ذكره أنّه على الرغم من أنّ التاريخ الدقيق لنهاية دولة بني العبّاس لم يتمّ تعيينه في أحاديث أهل البيت (ع)، ولكنّ الأحاديث المنقولة عن أمير المؤمنين عليّ (ع) أخبرت عن وضع هذه الحكومة والسلطان الّذي يطيح بها، على أساس هذه الأحاديث كتب والد العلّامة الحلّي رسالة إلى هولاكو قبل فتح بغدادوأنقذ بذلك أرواح أهالي الحلّة. [٥٩]
معرفة الإنسان
إذا نفينا البداء واعتقدنا بأن الله قد فرغ من القضاء والقدر فلن لا يبقى هناك دافع إلى أن يغيّر الإنسان وضعه الحالي عن طريق أفعال الخير والعبادات والصلاة؛ ذلك لأنّ كلّ ما قدّر سوف يقع بعينه ولن يحدث أيّ تغيير في القضاء والقدر.
ولا ريب في أنّ الأمل بالمستقبل وروح المثابرة والسعي هما رهن الأمل في تغيير الوضع الحالي وإمكان تحسينه. من جهة اُخرى فإن كان من المقرّر ألّا يغيّر الله التقديرات، فلماذا نطلب منه أن يصلح أوضاعنا من خلال الدعاء والتضرّع إليه، والاعتماد عليه والالتجاء لحضرته؟ على هذا فإنّ الاعتقاد بالبداء يزوّد الإنسان من جهة بروح الأمل والمثابرة، ويعزّز فيه من جهة اُخرى روح الدعاء والتوبة والتضرّع والتوكّل على الحقّ تعالى.
هكذا يتّضح دور الاعتقاد بالبداء في حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة؛ ذلك لأنّ المفاهيم، مثل: الأمل والسعي والدعاء والتوجّه والتوكّل هي التي تكوّن الحياة المعنويّة للإنسان وعلى أساسها تقوم الحياة المادية له.[٦٠]
أسباب البداء
كلّ عمل ـ سواء كان إيجابيّا أم سلبيّا ـ يمكن أن يؤدّي إلى تغيير القضاء والقدر أو البداء، وقد وردت الإشارة في الكتاب والسنّة إلى بعض الأعمال الحسنة والسيّئة الّتي تؤدّي إلى البداء، وقد ورد من بين هذه العوامل تأكيد الدّعاءِ، والصدقة، وصلة الأرحام أكثر من الأعمال الاُخرى.
وقد صرّح النبيّ الأعظم (ص) فيما روي عنه بأنّ الدعاء يرد القضاء حتّى وإن اُبرم إبراما: «الدُّعاءُ يَرُدُّ القَضاء وَقَد اُبرِمَ إبراما» [٦١]
كما روي عنه (ص) حول دور الصدقة في دفع ميتة السوء: «إنَّ الصَّدَقَةَ تَدفَعُ ميتَةَ السَّوءِ عَنِ الإِنسانِ» [٦٢]
وأكّد (ص) أنّ صلة الرحم تؤدّي إلى تأخير الأجل وزيادة الرزق: «مَن سَرَّهُ النَّساءُ في الأجَلِ، وَالزِّيادَةُ في الرِّزقِ، فَليَصِل رَحِمَهُ»[٦٣]
وتوجد في ذيل عنوان «أسباب حسن البداء» أحاديث كثيرة طرحت بالإضافة إلى العوامل الثلاث المذكورة عوامل اُخرى، مثل: طاعة الله، الاستغفار، عدل السلطان، زيارة الحسين (ع)، برّ الوالدين، واصطناع المعروف.[٦٤]
البداء والنسخ
إنَّ المسلمينَ جميعاً متفقون على وقوع النسخ في الأديان السماوية، أي نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا محمد(ص) كما يتفقون على وقوعِ النسخ في بعض الأحكام التي جاء بها نبينا(ص)، والواقع إنَّ النسخَ والبداءَ لا يختلفان في شيء سوى إنَّ البداء يكون في الأمور التكوينية، والنسخ في الأمور التشريعية.
فيا عجباً من تشنيع الفخر الرازي وأمثاله على الشيعة اعتقادهم بالبداء، وغفلتهم عن وجود نفس الملاك في النسخ. فإذا استلزم البداء نسبة الجهل إلى الله استلزمه النسخ أيضاً.
معنى المحو والإثبات:
ولا بأس بأنْ نسأل: ما هو المحو الذي أثبته القرآن الكريم لله تعالى؟
وهل يمحو الله ما كان ثابتاً؟
وهل يثبت إلا ما كان معدوماً؟
فكُلٌّ، من المحوِ والإثباتِ يقتضي وجود أمرٍ وزوال آخر.
قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٦٥]، وعليه فالتقوى تزيد في البركة من الله. ويقول تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً [٦٦]، فالاستغفار يزيد في الرزق.
ويقول تعالى: وَ مِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً [٦٧]، فنهوض العبد المتهجد في الليل يبلغه المقام المحمود.... وهكذا. فإذا تأملنا في ذلك كله وجدناه منسجماً مع البداء بمعنى إظهار ما كان خلافه ظاهراً.
فتلخص مما ذكرنا أمور:
- إِنَّ البداءَ بمعنى ظهور ما كان مخفياً مستحيلٌ على الله، ولا تقول الشيعة به.
- إِنَّ القرآنَ نصَّ على المحو والإثبات، وهو موافق للبداء.
- إِنَّ البداءَ والنسخَ لا يختلفان في الملاك، والمسلمون جميعاً متفقون على وقوع النسخ.
- إِنَّ تحاملَ البعضِ على الشيعة حول موضوع البداء خال من الدقة العلمية، وإنَّ القولَ بإنَّ البداء مما اختصت به الشيعة لا يستند إلى الوقع.[٦٨]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ الرعد: ٣٩
- ↑ التفسير الكبير للفخر الرازي، ج٥، ص٢١٠.
- ↑ نقلاً عن الإمامة الكبرى ص١٩٦.
- ↑ عقائد الإمامية، ص٤٥.
- ↑ أصول الكافي - باب البداء. ولا بأس بمطالعة تعليقة العلامة الشعراني على هذه العبارة في (شرح أصول الكافي) للمولى محمد صالح المازندراني، ج٤، ص٣١١.
- ↑ الرعد: ٣٩
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ١٤٧-١٤٩.
- ↑ القاموس المحيط: ج ٤ ص ٣٠٢.
- ↑ الصحاح: ج ٦ ص ٢٢٧٨.
- ↑ معجم مقاييس اللغة: ج ١ ص ٢١٢.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٥٧-١٥٨.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ٢١٧ ح ٦٥ عن الفضيل، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١١٩ ح ٥٨.
- ↑ سورة الرعد، الآية ٣٩.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ١٤٧ ح ٢، التوحيد: ص ٣٣٣ ح ٤ كلاهما عن هشام بن سالم وحفص بن البختري، تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ٢١٥ ح ٦٠ عن جميل بن درّاج، الخرائج والجرائح: ج ٢ ص ٦٨٧ ح ١٠ عن أبي هاشم، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١٠٨ ح ٢٢.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٥٨-١٥٩.
- ↑ سورة يونس، الآية ٩٨.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ١٣٦ ح ٤٦ عن الثمالي، بحار الأنوار: ج ١٤ ص ٣٩٩ ح ١٣.
- ↑ سورة الأعراف، الآية ١٤٢.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ١ ص ٤٤ ح ٤٦ عن محمّد بن مسلم، بحار الأنوار: ج ١٣ ص ٢٢٦ ح ٢٧.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٢١.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ١ ص ٣٠٤ ح ٧٢ عن مسعدة بن صدقة، بحار الأنوار: ج ١٣ ص ١٨١ ح ١٤.
- ↑ فسير العيّاشي: ج ١ ص ٣٠٦ ح ٧٦ عن ابن سنان، بحار الأنوار: ج ١٣ ص ١٨٢ ح ١٧.
- ↑ راجع: الصافّات: ١٠٢ ـ ١٠٧، التوحيد: ص ٣٣٦.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٥٨-١٦١.
- ↑ سورة الرعد، الآية ٣٩.
- ↑ الطبقات الكبرى: ج ٣ ص ٥٧٤، تفسير ابن كثير: ج ٤ ص ٣٩١ كلاهما عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
- ↑ المعجم الأوسط: ج ٨ ص ١٤ ح ٧٨١٠ عن عمرو بن سهل، كنز العمّال: ج ٣ ص ٣٥٨ ح ٦٩٢٥؛ قرب الإسناد: ص ٣٥٥ ح ١٢٧٢ عن الإمام الصادق (ع) نحوه، بحار الأنوار: ج ٧٤ ص ١٠٢ ح ٥٨.
- ↑ الفردوس: ج ٥ ص ٢٦٢ ح ٨١٣٠ عن الإمام عليّ (ع)، كنز العمّال: ج ٢ ص ٤٤٣ ح ٤٤٥٠ نقلاً عن ابن مردويه عن الأوزاعي عن الإمام الباقر عن آبائه (ع) عنه (ص) نحوه.
- ↑ الفردوس: ج ٢ ص ١١ ح ٢٠٩٠ عن أبي هريرة، كنز العمّال: ج ١٦ ص ٤٧٥ ح ٤٥٥٢٠.
- ↑ سنن ابن ماجة: ج ١ ص ٣٥ ح ٩٠، المستدرك على الصحيحين: ج ١ ص ٦٧٠ ح ١٨١٤ كلاهما عن ثوبان.
- ↑ مكارم الأخلاق: ج ٢ ص ٧ ح ١٩٧٨؛ مسند الشهاب: ج ٢ ص ٣٥ ح ٥٤٥، حلية الأولياء: ج ٣ ص ١٨٨.
- ↑ اُسد الغابة: ج ٥ ص ٣٣٨ الرقم ٥٢٩٧، الإصابة: ج ٦ ص ٤٠١ الرقم ٨٩٢٧، تاريخ دمشق: ج ٢٢ ص ١٥٨ ح ٤٨٩٨ كلّها عن نمير بن أوس.
- ↑ تاريخ بغداد: ج ١٣ ص ٣٦ الرقم ٦٩٩٢، الفردوس: ج ٥ ص ٣٦٤ ح ٨٤٤٨ كلاهما عن أنس، كنز العمّال: ج ٢ ص ٦٩ ح ٣١٦١.
- ↑ المستدرك على الصحيحين: ج ١ ص ٦٦٩ ح ١٨١٣، المعجم الأوسط: ج ٣ ص ٦٦ ح ٢٤٩٨، مسند الشهاب: ج ٢ ص ٤٩ ح ٨٥٩ كلّها عن عائشة، مسند ابن حنبل: ج ٨ ص ٢٤٢ ح ٢٢١٠٥، المعجم الكبير: ج ٢٠ ص١٠٤ ح ٢٠١ كلاهما عن معاذ بن جبل وفيهما «لن ينفع» بدل «لا يغني»، كنز العمّال: ج ١ ص ١٣٣ ح ٦٢٧.
- ↑ المعجم الأوسط: ج ٨ ص ١٤ ح ٧٨١٠ عن عمرو بن سهل، كنز العمّال: ج ٣ ص ٣٥٨ ح ٦٩٢٥؛ قرب الإسناد: ص ٣٥٥ ح ١٢٧٢ عن الإمام الصادق (ع) نحوه، بحار الأنوار: ج ٧٤ ص ١٠٢ ح ٥٨.
- ↑ كنز العمّال: ج ١ ص ٣٤٣ ح ١٥٥٦ نقلاً عن جعفر الفريابي في الذكر
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٦١-١٦٣.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية (كتاب)|موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٦٣.
- ↑ سورة الرعد، الآية ٣٩.
- ↑ اُصول مذهب الشيعة: ج ٢ ص ٩٤٩ ـ ٩٥٠.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ١٤٧ ح ٨ عن أبي بصير، التوحيد: ص ٤٤٣، بصائر الدرجات: ص ١٠٩ ح ٢.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ٢١٨ ح ٧١، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١٢١ ح ٦٣.
- ↑ تحفة اثنا عشرية: ص ٢٩٣.
- ↑ بحارالأنوار: ج ٣ ص ٢٩٧ ح ٢٣.
- ↑ اُصول مذهب الشيعة: ج ٢ ص ٩٣٨، بين الشيعة وأهل السنة: ص ٧٥ ـ ١٨٦.
- ↑ بحار الأنوار: ج ٤ ص ١١١ ح ٣٠.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ١٤٨ ح ١١، التوحيد: ص ٣٣٤ ح ٨، بحار الأنوار: ج ٤ ص ٨٩ ح ٢٩.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٦٤-١٦٧.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٦٤.
- ↑ التوحيد: ص ١٦٧.
- ↑ التوحيد: ص ٣٣٤.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ١٤٧ ح ٨ عن أبي بصير، التوحيد: ص ٤٤٣، بصائر الدرجات: ص ١٠٩ ح ٢.
- ↑ تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ٢١٥ ح ٥٩ عن زرارة، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١١٨ ح ٥٢.
- ↑ اُصول مذهب الشيعة: ج ٢ ص ٩٤٣.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ١٤٧ ح ٦، تفسير العيّاشي: ج ٢ ص ٢١٧ ح ٦٧ كلاهما عن الفضيل بن يسار، التوحيد: ص ٤٤٤ ح ١ عن الحسن بن محمّد النوفلي عن الإمام الرضا (ع) وفيه «إنّ عليّا (ع) كان يقول...»، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١١٣ ح ٣٦.
- ↑ كشف اليقين: ص ٩٠ ـ ١٠٤.
- ↑ اُصول مذهب الشيعة: ج ٢ ص ٩٤٢.
- ↑ تفسير القمي: ج ١ ص ٣١٠.
- ↑ كشف اليقين: ص ١٠١.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٦٧-١٧٢.
- ↑ الكافي: ج ٢ ص ٤٧٠ ح ٦، مكارم الأخلاق: ج ٢ ص ٩ ح ١٩٨٦ عن عبد الله بن سنان، عدّة الداعي: ص١٣.
- ↑ الكافي: ج ٤ ص ٥ ح ٣ عن سالم بن مكرم، بحار الأنوار: ج ٤ ص ١٢١ ح ٦٧.
- ↑ الكافي: ج ٢ ص ١٥٢ وراجع المعجم الأوسط: ج ٨ ص ١٤ ح ٧٨١٠.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج٦، ص ١٧٢.
- ↑ الأعراف: ٩٦
- ↑ نوح: ١٠-١١
- ↑ الإسراء: ٧٩
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ١٤٩-١٥٠.