البركة
التعريف
البركة لغةً
كلمة «بركة» مشتقّة من مادّة «ب ر ك» وتعني الثبات والدوام، ولذلك يسمّى الخير والنماء الدائمان، بركة. وأورد ابن فارس في هذا الخصوص: الباءُ وَالرّاءُ وَالكافُ أصلٌ واحِدٌ، وهُوَ ثَباتُ الشَّيءِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ فُروعا يُقارِبُ بَعضُها بَعضا.[١]
ويقول ابن منظور: البَرَكَةُ: النَّماءُ وَالزِّيادَةُ. وَالتَّبريكُ: الدُّعاءُ لِلإِنسانِ أو غَيرِهِ بِالبَرَكَةِ... وبارِك عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ، أي أثبِت لَهُ وأدِم ما أعطَيتَهُ مِنَ التَّشريفِ وَالكَرامَةِ... وقالَ الزَّجاجُ: تَبارَكَ تَفاعُلٌ مِنَ البَرَكَةِ، كَذلِكَ يَقولُ أهلُ اللُّغَةِ... ورَوَى ابنُ عَبّاسٍ: ومَعنَى البَرَكَةِ الكَثرَةُ في كُلِّ خَيرٍ.[٢]
وذكر الراغب في مفردات ألفاظ القرآن قائلاً: أصلُ البَرْكِ صَدرُ البَعيرِ وإنِ استُعمِلَ في غَيرِهِ، ويُقالُ لَهُ: بِرْكَةٌ، وبَرَكَ البَعيرُ: ألقى بَرْكَهُ، وَاعتُبِرَ مِنهُ مَعنَى اللُّزومِ... وَالبَرَكَةُ ثُبوتُ الخَيرِ الإِلهِيِّ فِي الشَّيءِ.[٣]
وبناء على ذلك، يسمّى الخير والزيادة بركة إن اقترنا بخصوصيّتين؛ إحداهما الكثرة والزيادة، والاُخرى الثبات والدوام، وعلى سبيل المثال فإنّ الذرّيّة المباركة تعني الكثرة ودوام الأولاد الصالحين، والعمر المبارك هو الحياة المقترنة بالخير الوفير الذي تبقى آثاره.[٤]
البركة من وجهة نظر الكتاب والسنّة
استعملت كلمة «البركة» في الكتاب والسنّة في نفس المعنى اللغويّ تماماً. وقد استخدمت هذه الكلمة ومشتقّاتها في القرآن ٣٣ مرّة فيما يتعلّق بخالق العالم، القرآن، الملائكة، الأنبياء، الإنسان، السماء، الأرض، الكعبة، المطر وغير ذلك.
كما استخدمت كلمة البركة على نطاق واسع في الأحاديث اتّباعاً للقرآن.[٥]
المبارك المطلق
الملاحظة الاُولى التي وردت الإشارة إليها في القرآن والروايات الإسلاميّة هي أنّ الذات المقدّسة للحقّ تعالى هي مبدأ جميع بركات العالم، فهو الذي خلق كلّ البركات وأنزلها وشملت رحمته وبركته كلّ شيء ولذلك، فإنّ اللّه هو المبارك المطلق، والمبارك من صفات البارئ تعالى وجميع المخلوقات تتمتّع بالبركات الإلهيّة على قدر استعدادها ولياقتها، سواء علمت أم لم تعلم، أرادت أم لم ترد.[٦].
العلاقات بين العوامل الماديّة والمعنويّة للبركة
إنّ النقطة الاُولى التي تلفت النظر فيما يتعلق بدراسة عوامل البركة من منظور الرؤية القرآنيّة والحديثيّة؛ هي التجاور الذي يبرز في النصوص الإسلاميّة بين العوامل المعنويّة للبركة، والأسبابِ والعلل المادّية لها. فمن جهة تتحدّث هذه النصوص عن التقوى، والعبادة، والطهارة، والدعاء، والصلاة، والحج، والاستغفار، وأمثال ذلك بوصفها مبادئ للبركة والنموّ في الحياة، ومن جهة اُخرى تراها تُعلن عن الرعي وتربية الحيوانات، والزراعة، والتجارة، والعمل باعتبارها رصيدا للبركة، وعناصر في تحقّق الخير ونموّه وازدهاره. والمعنى الذي يبرز من ثنايا هذا التجاور والجمع بين المعنوي والمادّي في إطار مركّب واحد؛ أنّ الإيمان بتأثير المعنويّات في الخير والبركة والازدهار المادّي لا يعني في الرؤية الكونية الإسلاميّة نفي الأسباب والعلل المادّية أو التقليل من أهمّيتها في تحقيق التنمية، بل يعني أنّ الإسلام يؤمن ـ بالإضافة إلى الأسباب والشروط والعناصر المادّية المعروفة في التنمية ـ بعوامل اُخرى غير مرئية يعتقد أنّ لها أثرها في هذا المسار. فالإسلام يؤمن بأنّ للمعتقدات الدينيّة الصحيحة والأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة دورها أيضا في تحقيق الازدهار والنموّ الاقتصادي للمجتمع.
فالقرآن الكريم يسجّل صراحةً: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[٧]
كما يسجّل في آية اُخرى أيضا: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[٨].
علاوة على ما مرّ، فإنّ عملية الازدهار والتنمية المستديمة للمجتمع الإنساني تقترن بدورها بالقيم الاعتقادية والأخلاقية والعملية، ومن دون هذا الاقتران لن تدوم البركات المادّية أيضاً[٩]
انبثاق البركات المعنويّة من صلب البركات المادّية
من النقاط الاُخرى التي تتّسم بأهميّة فائقة أنّ الرؤية الإسلاميّة لا تكتفي بما للقيم المعنويّة من تأثير في البركات المادّية وما لها من أثر تتركه في التنمية الاقتصادية المستديمة وحسب، بل ترى أنّ عكس هذه القضية صادق أيضا؛ بمعنى أنّ البركات المادّية حين تتفتّح في نطاق التعاليم الإسلاميّة تقود إلى تقوية القيم المعنويّة وازدهارها.
على أنّ المنهاج الذي وضعه الإسلام لتكامل الإنسان والمجتمع الإنساني ليس فيه انفصال أساسا بين التكامل المعنوي والتنمية المادّية. من هذا المنطلق، أخذت البركات المادّية موقعها إلى جوار البركات المعنويّة في الفصول الكثيرة من هذا القسم؛ وإنّما تتفجّر البركات المادّية من صلب البركات المعنويّة، وتنبثق البركات المعنويّة من صميم البركات المادّية، وهكذا.
إنّ القرآن الكريم يؤكّد من جهة بأنّه لو شاع الإيمان في أكناف المجتمع وعمّت التقوى أركانه، لفاضت على الناس البركات الإلهية وتوالت عليهم من السماء والأرض، ولأخذتهم من بين أيديهم وأحاطتهم من كلّ جانب؛ بحيث يشهد المجتمع الإنساني من اطّراد البركات المادّية ومن النموّ والازدهار الاقتصادي ما يفوق تصوّره. على هذا جاءت النصوص الإسلاميّة تسجّل صراحة بأنّ لممارسات مثل الصلاة والحجّ والدعاء دورها الذي تنهض به في البركات المادّية والازدهار الاقتصادي. من جهة اُخرى، ينظر الإسلام إلى العمل ـ الذي يعدّ واحدا من أهمّ مبادئ التنمية الاقتصادية والبركات المادّية ـ من أجل تأمين متطلّبات الحياة الكريمة على أنه من أفضل العبادات والقيم المعنويّة؛ حتّى جاء عن النبيّ (ص) قوله: «اَلْعِبَادَةُ سَبْعُونَ جُزْءاً أَفْضَلُهَا جُزْءاً طَلَبُ اَلْحَلاَلِ». [١٠]
على هذا الضوء، يتعامل الإسلام مع جميع الجهود التي تُبذل على طريق تحقيق البركات المادّية بوصفها عبادة إذا انطلقت من دوافع صحيحة وسارت باتجاه بناء الإنسان، وأنّها تساهم في ظهور البركات المادّية والمعنوية بعضا إلى جوار بعض.[١١]
دور نظام التكوين في تكامل الإنسان
إنّ التأمّل في ما جاء في الفصل الثاني إلى الفصل الخامس عشر من هذه المجموعة يشير إلى أنّ خالق الوجود قد أودع في نظام التكوين جميع إمكانات التكامل المادّي والمعنوي ومتطلّباتهما من الداخل والخارج؛ من أجل تكامل الإنسان، وأنّه قد أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
على أنّ ما يتداعى من الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[١٢]، أنّ الإنسان وُهب من الداخل (الباطن) العقل والفطرة والقُوى الباطنية، وزُوّد من الخارج بالوحي الذي جاء مُعينا للعقل والفطرة، وأنّ نظام التكوين سخّر للإنسان ما في السماء والأرض لكي يقطع المسار الذي حدّدته «الفطرة» و«العقل» و«الوحي» له، وليستفيد من بركات ذلك كلّه، ويوظّفه لتحقيق تكامله وبلوغ مقصد الإنسانية والكمال المطلق ولقاء اللّه جلّ جلاله.
يتّضح ممّا مرّ أنّ جميع القيم الاعتقادية والأخلاقية والعملية، وكل ما هو مسخّر للإنسان في الأرض والسماء، ينطوي على «الخير» و«البركة». وإذا ما جاء في النصوص الإسلامية ما يصف عددا من ضروب الأخلاق والأعمال الصالحة بأنّها خير، وإذا ما سجّلت تلك النصوص بأنّ بعض الأمكنة والأزمنة والحيوانات والنباتات والأطعمة والأشربة تتّسم بالبركة، فإنّ ذلك كلّه لا يعني نفي البركة عمّا سواها من الخصال الحسنة والأعمال الصالحة أو نزعها عن بقيّة الأمكنة والأزمنة وما إلى ذلك، بل المقصود أنّ هذه تحظى بالبركة أكثر ممّا سواها.[١٣]
القيم المضادّة وزوال البركة
أنّ منظومة القيم الاعتقادية والأخلاقية والعملية لها أثرها في إيجاد الخير وبزوغ البركة، فإنّ القيم المضادّة تستلزم زوالها أيضا. لكن ذلك لا يمنع أن يكون لبعض القيم المضادّة المناهضة للقيم الإيجابية دورٌ أكبر من غيرها في استئصال الخيرات واختفاء البركات، كما هو الحال في سوء النيّة، والخيانة، وشرب الخمر، والظلم، والزنا، وترك «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».[١٤]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ معجم مقاييس اللغة: ج ١ ص ٢٢٧.
- ↑ لسان العرب: ج ١٠ ص ٣٩٥ و ٣٩٦ «برك».
- ↑ مفردات ألفاظ القرآن: ص ١١٩ «برك».
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١١.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة (كتاب)|موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٢.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٣.
- ↑ سورة الأعراف، الآية ٩٦.
- ↑ سورة نوح، الآية ١٠-١٢.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة (كتاب)|موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٤.
- ↑ بحار الأنوار، جل ١٠٠، ص ٧.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٤.
- ↑ سورة لقمان، الآية ٢٠.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٥.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٨، ص ١٦.