الجبر والاختيار
تمهيد
هذه المسألة من المسائل القديمة جدّاً التي شغلت ذهن الإنسان. والسؤال الأساسي في هذا البحث هو أنّه هل للإنسان الاختيار في بعض أعماله على الأقلّ، أو أنّه لا اختيار له في أيّ أعماله مطلقاً، وكلّ ما يقوم به هو مجبور عليه؟
المقصود من الاختيار هو أنّ الإنسان - على أساس علمه، قدرته، وإرادته - تصدر منه بعض الأعمال والسلوكيات؛ حيث إنّه يُمكنه أن يترك لو أراد، بعبارة أخرى: الفعل الاختياري هو ذلك الفعل الذي يقع على أساس اختيار الفاعل وعزمه وتصميمه وبالطبع لا يعني كون العمل اختياريّاً أن يحصل بميل ورغبة دائماً، حيث إنّ الإنسان قد يقوم بعمل خلاف ما يميل إليه لكن لعلمه بمنفعة ذلك العمل يقوم به بإرادته، كأن يُبادر المريض بإرادته لشرب الدواء المُرّ.
على كلّ تقدير، في الجواب عن السؤال المذكور هناك رأيان على وجه كلّي، جماعة اختارت الجبر وتعتقد بأنّ الإنسان غير مختار في أيّ عمل يقوم به.[١]، وجماعة اختارت الاختيار الإنساني وتعتقد بأنّ الإنسان مختار في بعض أفعاله - ليس جميعها - .[٢]
أهمية هذا البحث
إنَّ مسألة حرية الإرادة الإنسانية من المسائل التي كثر حولها الجدل والنزاع، والأخذ والرد، حتى أنَّ بعضهم اعتبر الوصول إلى سر الطبيعة الإنسانية كامناً في حَلِّ مسألة الجبر والاختيار.
يقول (جان جاك روسو) في (العقد الاجتماعي): ليس المائز الأساسي بين الإنسان والحيوان هو الفهم والتفكير، بل الإرادة والاختيار.
وإنَّ هذه المعضلة تقع ضمن دائرتين: الطبيعة وماوراء الطبيعة.
والذي ينسجم مع بحثنا هو الجانب الفلسفي (ماوراء الطبيعي)، وإلا فإن بحث جميع الجوانب والمجالات التي رُجَّت فيها نظرية الجبر من الفيزياء والاجتماع والأخلاق وعلم النفس والتأريخ يتطلب وقتاً طويلاً.
إذن فإننا عندما نطرح مسألة الجبر والاختيار في دراستنا هذه، نعني بها الإجابة على السؤال التالي: هل الأفعال الصادرة من الإنسان منسوبة إلى إرادته واختياره، أم إنها معلولة لقدرة الله ولا أثر للإرادة الإنسانية فيها؟
فمَنْ يميلُ إلى الرأي الأول ينسب إلى (المفوضة) ومَنْ يميلُ إلى الرأي الثاني ينسب إلى (المجبرة)[٣].
الأقوال في المسألة
لقد تشعبت الأقوال في هذا الموضوع كثيراً حتى أنَّ بعضهم أوصلها إلى سبعة عشر قولاً[٤]، لكني أرى اختصار أهم الأقوال إلى عشرة:
۱. الجبر المطلق: ويرى أصحاب هذا المذهب إنَّ إسناد الفعل إلى الإنسان كإسناده إلى الجمادات والنباتات، وحيث إنَّ الأشياء المذكورة لا تملك أية إرادة في تصرفاتها وحركاتها فكذلك الإنسان، فهو من حيث لا يشعر آلة - لا أكثر - لإرادة عليا تسير الكون وما فيه.
٢. الكسب الأشعري: وينسب هذا الراي إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة ٣٣٠ هجرية يرى أصحاب هذا المذهب إنَّ الإنسان بالرغم من امتلاكه القدرة والإرادة وتعلقهما بفعله، فإنه لا أثر لقدرته وإرادته في أفعاله، لأنَّ العلة الحقيقية للفعل هو الله والإنسان يكتسب ذلك فقط.
ويفسر (البلاقلاني) الكسب بأنَّ الفعل الصادر من الإنسان يأخذ لوناً معيناً حسب قصده، وعلى هذا اللون المكتسب يدور مدار الحسن والقبح.. أما أصل الفعل فهو من الله، غاية ما هناك إنَّ الإنسان يستطيع أنْ يقصد التأديب عندما يضرب يتيماً فيكون مثاباً، أو يقصد الظلم فيكون عاصياً.
وحيث إنَّ (الكسب الأشعري) يكتنفه الغموض فقد اختلفت الآراء في تفسيره، حتى إنَّ أتباع هذا المذهب لم يستطيعوا تقديم صورة دقيقة كاملة عنه، ولذا فقد عرف إنَّ المحالات ثلاثة:
نعم حاول الأشعري الفرار من مشكلة الجبر بهذا الأسلوب، ولكنه لم ينته في كلامه إلا إلى ما فر منه.
۳. مذهب وحدة الوجود: لا يرى هذا المذهب تمايزاً بين الله والموجودات، بل الله في نظرهم هو الصورة الإجمالية للموجودات والموجودات هي الصورة التفصيلية لله، على هذا فلا معنى لبحث مسألة الجبر والاختيار، لأنَّ الله والإنسان متحدان فلا يبقى مجال للبحث في إنَّ الأفعال هي أفعاله أو أفعال الله.
۴. المعتزلة: يصدر الفعل من الإنسان منسوباً لقدرته واختياره، ولا أثر للقدرة الإلهية في الأفعال الإنسانية مطلقاً، ولا حاجة إلى الداعي في تحريك الإرادة. غير إنَّ أبا الحسين البصري (ت ۴٣۶ ه) اشترط الداعي.
ه. نظرية الزمخشري: يرى جار الله الزمخشري رأي المعتزلة ولكنه يقول: إنَّ الداعي للإرادة لا يجعل الفعل ضروري الصدور.
۶. الفخر الرازي: صحيح إنَّ الفعل الإنساني مستند إلى قدرته وإرادته وداعيه، لكن هذه العوامل ومعلولها (و هو الفعل الصادر) إنما توجد بقدرة الله ومشيئته.
۷. الفلاسفة المشاؤون (المسلمون): عندما تتهيأ جميع عوامل الفعل من القدرة والإرادة وسائر الدوافع، فإنه يستعد للدخول إلى عرصة الوجود، أما أصل الإفاضة الذي يوصل هذا الاستعداد إلى مرحلة الفعلية فهو منوط بإرادة الله.
۸. بعض الفلاسفة الإشراقيين والمشائين: الفياض المطلق لجميع الحوادث هو الله، وجميع العوامل والعلل المؤدية للفعل إنما هي معدات فقط.
٩. ويرى بعض المتصوفة: إنَّ للفعل الاختياري نسبتين نسبة ذاتية، ونسبة اعتبارية. فالفعل له نسبة ذاتية إلى الله، أما نسبته إلى الإنسان فهي اعتبارية.
۱۰. مذهب الإمامية: القدرة وجميع العوامل الطبيعية المؤدية إلى الفعل من الله، غير إنَّ استغلال تلك العوامل والاستفادة منها منوط بالإنسان، وهذا هو مذهب (الأمر بين الأمرين) الذي أخذوه من أئمة أهل البيت (ع).
و نستطيع اختصار الاتجاهات الاساسية في هذا الموضوع إلى ثلاث:
- الجبر: ومؤداه أنه لا أثر لإرادة الإنسان واختياره في أفعاله.
- التفويض: ومؤداه أنه لا أثر للقدرة الإلهية في أفعال الإنسان الاختيارية.
- الأمر بين الأمرين: ومؤداه أنَّ القدرة على الفعل وسائر المقدمات من الله، أما الاختيار فإنه من الإنسان[٥].
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ يُستفاد من بعض آيات القرآن وجود عقيدة الجبر بين مشركي العرب، مثلاً: سورة الأنعام: ۱۴۸.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الإسلامي: ٣٤١.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ١١٧.
- ↑ انظر جبر واختيار، الشيخ محمد تقي الجعفري ص۱۹۰.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ١١٧ - ١٢٠.