الجهل
تحقيق في معنى الجهل
يُستخلص ممّا طرحه الإسلام في شتّى أبواب نظريّة المعرفة أنّ هذا الدين الإلهيّ قد أعار ـ قبل كلّ شيء وفوق كلّ شيء ـ أهمّيّة قصوى للفكر والوعي والمعرفة من أجل بناء المجتمع الفاضل الذي يصبو إليه، وحذّر من مغبّة الجهل وتعطيل الفكر.
فالإسلام يرى في الجهل آفة تهدّد ازدهار الإنسانيّة، ومصدرا لكلّ المفاسد الفرديّة والاجتماعيّة، وما لم تستأصل هذه الآفة لا يتسنّى للفضيلة أن تسود، ولا يتحقّق المجتمع الإنسانيالمنشود. فهذا الدين يعتبر الجهل سبب كلّ شرّ، وأنّه أكبر وبال، وأفتك الأمراض، وأعدى الأعداء، وأنّ الجاهل شرّ الدوابّ، بل هو ميّتٌ بين الأحياء.
ومن أجل الاستيعاب الصحيح لمعاني الآيات والأحاديث الواردة في ذمّ الجهل والجاهل وصفاته وأحكامه وضرورة القضاء على الجهل، لابدّ ـ ابتداءً ـ من معرفة المعنى المراد منه.
وهل كلّ جهل ـ في رأي الإسلام ـ مذموم وخطير، أم الجهل بمعناه الخاصّ ؟ وإذا كان الشقّ الثاني من السؤال هو الصحيح، فلابدّ من تحديد طبيعة ذلك الجهل.
فأيّ جهل يعتبر مصدرا لكلّ الشرور؟
وأيّ جهل يعدّ الوبال الأكبر؟
وأيّ جهل ذاك الذي يحتسب كأفتك الأمراض وأعتاها؟
وأيّ جهل هو الفقر الأكبر؟
وأيّ جهل هو أعدى الأعداء؟
وأيّ جاهل ذاك الذي نعته القرآن الكريم ب «شرّ الدوابّ» ووصفه الإمام عليّ (ع) ب «الميّت بين الأحياء».[١]
مفاهيم الجهل
هنالك أربعة معانٍ للجهل المذموم، هي:
- مطلق الجهل.
- الجهل بعموم العلوم والمعارف المفيدة البنّاءة.
- الجهل بأهمّ المعارف الضروريّة للإنسان.
- الجهل كقوّة مقابلة للعقل.
وإليك في ما يلي توضيحاً لهذه المعاني:
مطلق الجهل
على الرغم ممّا يتبادر إلى الذهن في الوهلة الاُولى من أنّ مطلق الجهل ضارّ ومذموم، لكن يتّضح من خلال التأمّل أنّه ليس كلّ جهلٍ مذموما ولا كلّ علم محمودا، بل إنّ العلم شطر منه نافع بنّاء، وشطر منه ضارّ مهلك، ولهذا السبب حرّم الإسلام السعي لإدراك كنه بعض الاُمور والخفايا.
وقد ورد مزيد من الإيضاحات لهذا الموضوع في الأحاديث المنقولة في باب «أحكام الجاهل» في هذا الفصل، وفي الفقرة «ما يحرم تعلّمه» من أحكام التعلّم، وكذا في الفقرة «السؤال عمّا قد يضرّ جوابه» من آداب السؤال.
الجهل بالمعارف المفيدة
لا ريب في أنّ الإسلام ينظر بعين الاحترام إلى جميع العلوم والمعارف المفيدة ويدعو إلى تعلّمها، بل ويوجب ذلك فيما إذا كان المجتمع بحاجة إليها ولم يوجد مَن به الكفاية لأدائها.
إلّا أنّ هذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ الجهل بكلّ هذه العلوم مذموم بالنسبة للجميع.
وبعبارة اُخرى، تدخل الآداب، والصرف، والنحو، والمنطق، والكلام، والفلسفة، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وسائر العلوم والفنون الاُخرى في خدمة الإنسان، وتحظى باحترام الدين الإسلاميّ، بيد أنّه لا يمكن النظر إلى الجهل بكلّ هذه العلوم كمصدر لجميع الشرور، واعتباره أشدّ المصائب، وأعضَل الأدواء، وألدّ الأعداء، وأكبر صور الإملاق، وأنّ كلّ من يجهل هذه العلوم أو بعضها هو شرّ الدواب، وميّت بين الأحياء.
الجهل بالمعارف الضروريّة للإنسان
إنّ المعارف والعلوم التي تهيّئ للإنسان معرفة بدايته وغايته وتكشف له عن سبيل بلوغ الحكمة من وجوده، تدخل في إطار أهمّ المعارف الضروريّة لحياته.
فالإنسان لابدّ له أن يعرف كيف ظهر إلى الوجود ؟ وما الغاية من خلقه ؟ وكيف له العمل حتّى يصل إلى الحكمة المرجوّة من وجوده ؟ وما مصيره ؟ وما المخاطر التي تهدّده؟
والمعارف التي تتكفّل بالإجابة عن هذه الاستفسارات هيتراث الأنبياء، هذه المعارف مبدأ لكلّ خير، وتمهّد السبيل لازدهار العقل العمليّ وجوهر العلم، والجهل بهذه المعارف يوقع المجتمع الإنساني في أشدّ المصائب والمحن، ومن الطبيعيّ أنّ تعلّم مثل هذه المعارف لا يجدي نفعا بمفرده، وإنّما هي ذات فاعليّة فيما لو كبح العقل جماح المفهوم الرابع للجهل، وهو ما نبيّنه فيما يأتي.
القوّة المقابلة للعقل
إنّ النصوص الإسلاميّة تطرح للجهل مفهوما رابعا، وهو ـ خلافا للمعاني السابقة ـ أمر وجوديّ لا عدميّ، وذلك هو الشعور الخفيّ الذي يقع في مقابل العقل، وهو بطبيعة الحال ـ شأنه كشأن العقل ـ مخلوق من قبل الباري تعالى، وله آثار ومقتضيات تُسمّى ب «جنود الجهل» تقع في مقابل «جنود العقل».أمّا سبب تسمية هذه القوّة بالجهل فلوقوعها في مقابل العقل تماما، ولهذه القوّة تسميات اُخرى أيضا مرّ بيانها في مبحث خلق العقل.
فقد اعتبرت جميع أنواع الحسن والجمال الاعتقاديّ والأخلاقيّ والعمليّ، كالخير، والعلم، والمعرفة، والحكمة، والإيمان، والعدل، والإنصاف، والاُلفة، والرحمة، والمودّة، والرأفة، والبركة، والقناعة والسخاء، والأمانة، والشهامة، والحياء، والنظافة، والرجاء، والوفاء، والصدق، والحلم، والصبر، والتواضع، والغنى، والنشاط، من جنود العقل.
وفي مقابل هذا اعتبرت جميع القبائح الاعتقاديّة والأخلاقيّة والعمليّة، كالشرّ والجهل[٢]، والحمق، والكفر، والجور، والفرقة، والقسوة، والقطيعة، والعداوة، والبغض، والغضب، والمحق، والحرص، والبخل، والخيانة، والبلادة، والجلع، والتهتّك، والقذر، واليأس، والغدر، والكذب، والسفه، والجزع، والتكبّر، والفقر، والكسل، من جنود الجهل.
والإنسان حرّ في اختيار أيّ واحدة من هاتين القوّتين واتّباعها وتنميتها.
فهو قادر على اتّباع قوّة العقل، ويمكنه بإحيائها إماتة الجهل والشهوة والنفس الأمّارة، وباستطاعته أن يبلغ الغاية العليا للإنسانيّة ويصبح خليفة للّه عن طريق تنمية جنود العقل ومقتضياته، كما ويتسنّى له عبر الانقياد لقوّة الجهل وتنمية جنود الجهل ومقتضياته السقوط في أسفل سافلين ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾[٣].[٤]
نقطتان تسترعيان الاهتمام
١ . أخطر الجهل
النقطة الاُولى هي أنّ الإسلام على الرغم من شدّة محاربته للجهل وخاصّة بمفهومه الثالث، إلّا أنّه يعتبر أخطر أنواعه هو نوعه الرابع ؛ أي اختيار السبيل الذي تدعو قوى الجهل الإنسانَ إليه واتّباعه ؛ لأنّ الإنسان إذا سلك النهج الذي يرسمه له العقل فسيحظى من غير شكّ بالتسديد والهداية من العلم والحكمة وسائر جنود العقل لبلوغ مبدأ الإنسانيّة وغايتها، واكتساب جميع المعارف المفيدة البنّاءة، ويصل على قدر استعداده وجهده إلى الحكمة من وراء خلقه.
أمّا إذا اختار الإنسان طريقا من الطرق التي يقتضيها الجهل، وأغلق جنودُ الجهل أمام وجهه سبيلَ إدراك المعارف البنّاءة والحقائق السامية التي تبصّره بالغاية العليا للإنسانيّة، فإنّه في مثل هذه الحالة سيهلك بمرض الجهل حتّى لو كان أعلم العلماء على وجه الأرض، ولن ينفعه علمه في هدايته ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾[٥]
وعلى هذا الأساس، حينما يطرح موضوع «الجهل» على بساط البحث، يتركّز محور الحديث عادة حول مفهومه الرابع، ثمّ تتدرّج من بعده سائر مفاهيم الجهل الاُخرى وفقا لأهمّيّة كلّ منها.
٢ . المواجهة بين العقل والجهل
إنّ القضيّة المهمّة الاُخرى هي إيضاح السرّ الكامن وراء المجابهة بين العقل والجهل في النصوص الإسلاميّة.
والسؤال الذي يثار في هذا الصدد يستهدف معرفة السبب الذي جعل النصوص الإسلاميّة ـ ومن جملتها كتب الحديث ـ تضع الجهل في مقابل العقل، خلافا للنهج المتعارف الذي يضع الجهل كعنصر مقابل للعلم. فأنت حينما تراجع كتب الحديث لا تجد فيها عنوان «العلم والجهل»، خلافا لعنوان «العقل والجهل» الذيتجده عادة في معظم الكتابات التفصيليّة أو كلِّها، والسرّ الكامن وراء ذلك هو أنّ الإسلام يعتبر الجهل بمفهومه الرابع ـ وهو أمر وجوديّ ويقف في مقابل العقل ـ أخطر من الجهل بمفهومَيه الثاني والثالث، وهو أمر عدميّ ويقف في مقابل العلم.
وبعبارة اُخرى: تدلل المواجهة بين العقل والجهل في النصوص الإسلاميّة على أنّ الجهل الذي هو في مواجهة العقل أخطر من الجهل الذي هو في مواجهة العلم، وما لم تُستأصل جذور هذا الجهل من المجتمع لا يغنيه شيئا اقتلاع جذور الجهل المقابل للعلم، وهذه نقطة في غاية الظرافة والدقّة، فافهم واغتنم.[٦]
توضيح حول أنواع الجهل
إنّ للإنسان في معرفة الحقائق أربع حالات، لكلّ واحدة منها أحكامها وتكاليفها الخاصّة على الفرد والمجتمع. وهذه الحالات هي:
- العلم: إنّ الحالة الاُولى هي العلم ؛ فمن يعلم ويعلم أنّه يعلم يقال له: عالم. وجدير بمثل هذا الشخص أن يكون معلّما لغيره، وواجبه أن يكون معلّما، وعلى الآخرين أن يتعلّموا منه ويسألوه، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[٧]
- الغفلة: وهي الحالة الثانية، والغافل هو من يعلم ولا يعلم أنّه يعلم، وهنا يجب على الواعين إيقاظه من نومة الغفلة، «فَذاكَ نائِمٌ فَأَنبِهوهُ»، ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[٨]
- الجهل البسيط: وهو الحالة الثالثة، والجاهل هو من لا يعلم شيئا ؛ سواء كان يعلم أنّه لا يعلم أو لا يعلم أنّه لا يعلم، وعلى كلّ الأحوال فإنّ على العالم تعليمه، وعليه التعلّم، وتشمله الآية الكريمة ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[٩].
- الجهل المركّب: إنّ الحالة الرابعة هيالجهل المركّب الذي يتألّف من جهلين هما: عدم العلم، وتوهّم العلم، والجاهل المصاب بهذا الجهل لا يعلم ويتوهّم أنّه يعلم، ويبدو أنّه المقصود بالجملة القائلة: «لا يَعلَمُ، ولا يَعلَمُ أنَّهُ لا يَعلَمُ»، وكذلك «لا يَدري، ولا يَدري أنَّهُ لا يَدري» الواردة في روايتي هذا الفصل، ولهذا صرّح الإمام عليّ (ع) أنّ واجب الآخرين إزاء مثل هذا الجاهل هو الرفض «فَذاكَ جاهِلٌ فَارفُضوهُ»، وأمر الإمام الصادق (ع) الناس باجتنابه بقوله: «فَذاكَ أحمَقُ فَاجتَنِبوهُ».[١٠]
داء بلا دواء
إنّ السؤال الذي يُثار هنا يرمي إلى تقصّي السبب الذي جعل الأحاديث ـ الواردة في هذا الباب بشأن التعامل مع أصناف الجهّال ـ توجب على الواعين من أبناء المجتمع تنبيه الغافل والجاهل البسيط، في حين لا توجب عليهم شيئا إزاء المصاب بالجهل المركّب، بل وتحثّهم على رفضه واجتنابه ؟ وجواب ذلك: هو أنّ الجهل المركّب أخطر أنواع الجهل،وهو في الحقيقة داء لا دواء له، فالشخص الذي لا يعلم ويتصوّر أنّه يعلم مُصاب ببلاء خطير هو الشعور بأنّه يعلم، ومثل هذا المرض إذا اتّخذ طابع المرض المزمن يتعذّر علاجه. قال الإمام الصادق (ع) في هذا المضمار: «مَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ هَلَكَ وَ مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَ إِنَّ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ دَاوَيْتُ اَلْمَرْضَى فَشَفَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ أَبْرَأْتُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَالَجْتُ اَلْمَوْتَى فَأَحْيَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَالَجْتُ اَلْأَحْمَقَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى إِصْلاَحِهِ فَقِيلَ يَا رُوحَ اَللَّهِ وَ مَا اَلْأَحْمَقُ قَالَ اَلْمُعْجَبُ بِرَأْيِهِ وَ نَفْسِهِ اَلَّذِي يَرَى اَلْفَضْلَ كُلَّهُ لَهُ لاَ عَلَيْهِ وَ يُوجِبُ اَلْحَقَّ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ وَ لاَ يُوجِبُ عَلَيْهَا حَقّاً فَذَاكَ اَلْأَحْمَقُ اَلَّذِي لاَ حِيلَةَ فِي مُدَاوَاتِهِ»[١١]
يتّضح في ضوء هذا التفسير أنّ الأحمق الحقيقيّ ليس المصاب بعاهة في دِماغه ويعجز عن إدراك الاُمور بسبب مرض جسديّ ؛ لأنّ مثل هذا المريض حتّى وإن استعصى علاجه بالطرق الطبيعيّة للمداواة، يمكن معالجته بطرق الإعجاز.وإنّما الأحمق الحقيقيّ هو من يتمتّع بدماغ سالم، إلّا أنّ مرض العجب والإحساس بأنّه يعلم هو الذي يفسد عليه عقله، ويحلّ موته العقليّ نتيجة عدم استجابته لدعوة العقل العمليّ، وميّتٌ كهذا يستحيل علاجه، وحتّى النبيّ عيسى (ع) بإعجازه عيي عن مداواته. كان (ع) يعالج أنواع الأمراض البدنيّة بإذن اللّه وبدون أدوات ومواد طبّيّة، وفوق ذلك كان يعالج الميّتة أجسامهم بالإحياء، لكنّه عجز عن إحياء العقل الميّت، وما من نبيّ له مثل هذه المقدرة. وقد خاطب القرآن الكريم خاتم الأنبياء(ع) بقوله: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾[١٢] فالفكر عندما يموت لا يعود المرء يدرك شيئا من الدنيا إلّا ظاهرها، ويتوهّم أنّ ما يفهمه منها هو الصحيح لا غير: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[١٣] وهنا لا جدوى لتعليم الميّت، ومن يصاب بموت الفكر يستحيل إلى أخطر كائن حيّ، أو كما وصفه القرآن الكريم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾[١٤]. ليس هذا فحسب بل سيكون الاقتراب منه أيضا مؤدّيا إلى حالة تنطوي على خطورة ؛ وذلك لأنّ مرض الفكر سريع العدوى ويحتمل أن يسري إلى الآخرين، ومعنى هذا أنّ الناس يصبحون ملزمين باجتناب مثل هؤلاء الأشخاص والإعراض عنهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾[١٥].[١٦]
كلام حول الجاهليّة
القرآن يسمّي عهد العرب المتّصل بظهور الإسلام بالجاهليّة، وليس إلّا إشارة منه إلى أنّ الحاكم فيهم يومئذٍ الجهل دون العلم، والمسيطر عليهم في كلّ شيء الباطل، وسفر الرأي دون الحقّ، وكذلك كانوا على ما يقصّه القرآن من شؤونهم.
قال تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[١٧]، وقال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾[١٨]، وقال: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[١٩]، وقال: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[٢٠].
كانت العرب يومئذٍ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانيّة، وفي مغربها إمبراطوريّة الروم وهي نصرانيّة، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيّتان وفي أرضهم طوائف من اليهود، وهم ـ أعني العرب ـ مع ذلك وثنيّون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، وهذا كلّه هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيًّا بدويًّا فيه أخلاط من رسوم اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة، وهم سكارى جهالتهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾[٢١]
وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات، وشنّ الغارات، واختطاف كلّ ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض، فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا سلم ولا سلامة، والأمر إلى من غلب، والملك لمن وضع عليه يده.
أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء، والحميّة الجاهليّة، والكبر، والغرور، واتّباع الظالمين، وهضم حقوق المظلومين، والتعادي، والتنافس، والقمار، وشرب الخمر، والزنا، وأكل الميتة والدم وحشف [٢٢] التمر.
وأمّا النساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنسانيّ، لا يملكن من أنفسهنّ إرادة، ولا من أعمالهنّ عملًا ولا يملكن ميراثا، ويتزوّج بهنّ الرجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود وبعض الوثنيّة، ومع ذلك فقد كنّ يتبرّجن بالزينة، ويدعون من أحببن إلى أنفسهنّ، وفشا فيهنّ الزنا والسفاح حتّى في المحصنات المزوّجات منهنّ، ومن عجيب بروزهنّ أنّهنّ ربّما كنّ يأتين بالحجّ عاريات.
وأمّا الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنّهم لا يورثون صغارا، ويذهب الكبار بالميراث، ومن الميراث زوجة المتوفّى، ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء، غير أنّ المتوفّى لو ترك صغيرا ورثه، لكنّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم ويأكلون ماله، ولو كان اليتيم بنتا تزوّجوها وأكلوا مالها ثمّ طلّقوها وخلّوا سبيلها، فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها، والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات، فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.
وكان من شقاء أولادهم أنّ بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها، فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق[٢٣]، وكانوا يئدون البنات[٢٤]، وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشَّر بالاُنثى[٢٥].
وأمّا وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربّما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران وأقربها، كإيران لنواحي الشمال، والروم لنواحي الغرب، والحبشة لنواحي الجنوب، إلّا أنّ قرى الأوساط كمكّة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهوريّة وليس بها، والعشائر في البدو بل حتّى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربّما تبدّل الوضع بالسلطنة.
فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كلّ عدّة معدودة منهم بلَونٍ، ويظهر في كلّ ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافيّة الدائرة بينهم، وأضف إلى ذلك بلاء الاُمّيّة وفقدان التعليم والتعلّم في بلادهم فضلًا عن العشائر والقبائل.
وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم ممّا يستفاد من سياق الآيات القرآنيّة والخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبّر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكّة أوّلاً، ثمّ بعد ظهور الإسلام وقوّته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التي تصفهم بها، والاُمور التي تذمّها منهم وتلومهم عليها، والنواهي المتوجّهة إليهم في شدّتها وضعفها.
إذا تأمّلت كلّ ذلك تجد صحّة ما تلوناه عليك، على أنّ التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرّض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه.
وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمّى القرآن هذا العهد بعهد الجاهليّة فقد اُجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم. [٢٦].[٢٧]
تعليق
كان الجهل المُطبِق الذي خيّم على العرب قبل الإسلام قد مهّد الأجواء لشيوخهم ورؤسائهم لاستغلال تلك الظروف ؛ فانتهزوا تلك الفترة من الرسل وسخّروا عواطف الناس الصادقة ومشاعرهم وسنّوا أحكاما وعادات اجتماعيّة تعود عليهم بالمنفعة، وابتدعوا الكثير من البدع، وكان من جملة هؤلاء شخص اسمه عمر بن لحي، وكان هذا الشخص قد استحوذ حينذاك على واحدة من أهمّ ثروات العرب، ألا وهي الإبل، وابتدع لها سننا وأضفى عليها طابعا قدسيًّا قيّد بموجبه سبل الاستفادة والانتفاع من أربعة أنواع من الإبل كانت تُسمّى: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وكانت لها دلالات متباينة ولكنّها على نحو متقارب.[٢٨] وتشترك جميعها في نقطة واحدة هي إضفاء نوع من الحرمة على هذه الإبل وتحريم لبنها ولحمها ووبرها وظهرها على الكثير من الناس، فيما أباحها للبعض الآخر كسدنة بيوت الأصنام وخدّامها.
لقد اقترنت هذه البدعة بنظرة الاستخفاف التي كان العرب يعاملون بها المرأة، فنجم عن ذلك تشديد هذا الحكم على النساء، فكان لا يحقّ لهنّ أكل لحم هذه الإبل إلّا بعد موتها.
وكان من نتيجة هذا التقليد أنّ السدنة وخدمة الأصنام اُبيحت لهم الاستفادة من المراعي والعيون والآبار على ندرتها في الجزيرة العربيّة، ونجم عن ذلك أيضا أنّهم صاروا ينذرون الإبل للأصنام وسدنتها من باب الشكر أو لقضاء حاجة معيّنة، إلّا أنّ القرآن انبرى لمحاربة هذه البدعة الجاهليّة بأربع آيات بيّنات، واعتبر ـ في سياق مكافحته لعبادة الأصنام والسنن البالية المرتبطة بها ـ هذه الادّعاءات افتراءات محضة، وفَضَحَ حقيقة سدنة الآلهة والأصنام وعبدتها، وأعلن أنّ تحريم الإبل وتحليلها منوط بحكم اللّه سبحانه وتعالى الذي لم يحرّم هذه الأنواع الأربعة من الإبل، وإنّما حرّم ـ وخلافا لمعتقدات العرب في الجاهليّة ـ الميتة وما اُهلّ لغير اللّه به.
إنّ المعتقدات الجاهليّة التي كانت تسود أوساط المجتمع العربي الجاهلي دفعت العرب ـ باعتبارهم يؤمنون بوجود شركاء للّه (الأصنام) ـ إلى بناء بيوت للآلهة والأصنام وتوفير المعاش لسدنتها وإشراكهم في حياتهم وأرزاقهم وممتلكاتهم من الزرع والماشية وتعيين سهم لهم إلى جانب سهم اللّه، وجعلوا سهم اللّه، للنفقات العامّة كإطعام الضيف وابن السبيل، في حين جعلوا سهم الأصنام تحت تصرّف السدنة.
وكان السدنة الطمّاعون كلّما أصابت الزرع آفة أو أعطى محصولًا أقلّ أو اختلط سهمهم بسهم اللّه، يتذرّعون بخدعة مفادها «إنّ اللّه غنيّ»، فيستوفون سهمهم كاملًا غير منقوص، ويعوّضون نقص أسهمهم من سهم اللّه، ولا يعوّضون بأيّ حال من الأحوال سهم اللّه من سهم الأصنام.
ربّما كانت الزيادة والنقصان في المحصول تقع أحيانا نتيجة لأساليب التحايل التي سبقت الإشارة إليها، وهي أنّ الماء كان إذا انساب عند السقي من الأرض التي زرع فيها سهم اللّه إلى الأرض التي فيها سهم الأصنام لم يكونوا يحولون دونه، وإذا حصل العكس كانوا يمنعونه.[٢٩]
تحقيق حول عقائد أهل الجاهليّة
لقد عاش العرب في زمن الجاهليّة فترة طالت فيها مدّة انقطاع الأنبياء ونزول الوحي من السماء ؛ فكان ذلك سببا لتيههم في وادي الضلالة، وبقوا حيارى يتخبّطون في غياهب الجهالة والضياع الفكريّ والعقائديّ. نقدّم للقارئ فيما يلي لَمحة مختصرة عمّا كانوا عليه من نِحَلٍ ومذاهب:
- لم يكونوا يعتقدون باللّه واليوم الآخر، وكانوا يرون أنّ الحياة محدودة في هذه الدنيا، ويقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾[٣٠]
- لم يكونوا يؤمنون بالمعاد، كما يفهم من الآية الشريفة: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾[٣١]، وتنبئ الآية الشريفة: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾[٣٢]، ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[٣٣] أنّهم كانوا يؤمنون بالنشأة الاُولى، أو ـ حسب التعبير الحديث ـ كانوا يعترفون بوجود اللّه، ولكنّهم لا يرجون من اللّه ثوابا ولا يخافون منه عقابا. [٣٤]
- كانوا يؤمنون بوجود شركاء للّه من الملائكة والجنّ تارة، ومن الأصنام والشياطين تارة اُخرى، وهؤلاء الشركاء قد يكون لهم دور في أصل الخلقة حينا، أو يكون لهم مثل هذا الدور في تدبير الاُمور حينا آخر، أو أنّهم كانوا يشبّهونه بموجودات مادّيّة، أو يعبدون أحد هذه الموجودات المادّيّة بصفتها ربًّا لهذا العالم، من كواكب أو حيوانات أو أشجار أو...، وأصحاب هذه العقيدة ـ الذين يشتركون في بعض الأوجه مع أصحاب العقيدة الآنف ذكرها ـ أكثر ما كانوا يقطنون الجزيرة العربيّة ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[٣٥]
- كانت في بعض بقاع جزيرة العرب طائفتان من أهل الكتاب هم اليهودوالنصارى. ومن جملة المؤشّرات التاريخيّة الدالّة على وجود علماء وناس مسيحيّين في نجران (إلى الجنوب من المدينة) آية المباهلة ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[٣٦]، وكذلك المعارك الكبرى التي وقعت في صدر الإسلام وكان لليهود فيها دور أساسيّ ؛ كغزوة الأحزاب (الخندق)، وما أعقبها من صراعات مع بني قينقاع وبني قريظة حتّى معركة خيبر.
- كان هناك أيضا أشخاص مجوس وصابئة، إلّا أنّ عددهم لم يكن ممّا يُعتدّ به.
- كانت هناك إلى جانب هذه الفئات مجموعة تدين بدين إبراهيم الحنيف، وكان عددهم قليلًا، ونورد فيما يلي مسردا بأسمائهم:
- أبو طالب (عمّ الرسول(ص)). ـ عامر بن الضرب العدوانيّ.
- أبو قيس صرمة بن أبي أنس. عبدالطانجة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة.
- أرباب بن رئاب ـ عبداللّه القضاعيّ.
- أسعد أبو كرب الحميريّ ـ عبداللّه (والد الرسول (ص) ).
- اُميّة بن أبي الصلت ـ عبدالمطلب (جدّالرسول (ص) ).
- بحيرا الراهب ـ عبيد بن الأبرص الأسديّ .
- خالد بن سِنان العبسيّ ـ علاف بن شِهاب التميميّ.
- زهير بن أبي سلمى ـ عمير بن جندب الجهنيّ.
- زيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعُزّى ـ كعب بن لُؤَيّ بن غالب .
- سويد بن عامر المصطلقى ـ ملتمس بن اُميّة الكنانيّ .
- سيف بن ذي يزن ـ وكيع بن زهير الأياديّ.[٣٧].[٣٨]
تحقيق فيما يوجب الرجعة إلى الجاهليّة
يصرّح القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أنّ عهد بعثة الرسول(ص) هو عهد سيادة العقل والعلم، وما سبقه جاهليّة. أمّا الحكمة من هذه التسمية فهي أنّ الفترة التي سبقت نبوّتَه حصل فيها تحريف للأديان السماويّة أو صدّت على الناس أبواب إدراك حقائق الوجود، وحرمتهم من وجود نهج صحيح للحياة، وكلّ ما عرض على الناس آنذاك باسم الدين كان مزيجا بالأوهام والخرافات، وكانت الأديان المحرّفة أدوات بيد الحكومات ولصالح النفعيّين والانتهازيين والمرفّهين الذين لا يستشعرون آلام الناس. كانت بعثة الرسول (ص) بداية لعصر العلم ؛ فكانت أكبر مسؤوليّة اضطلع بحملها تبيان الحقائق للناس، وتعليمهم النهج الصحيح في الحياة، ومحاربة ما لحق بالأديان السابقة من تحريف وما اُلصق بها من أوهام كانت تقدّم للمجتمع باسم الدين.
كان صلوات اللّه عليه يرى في نفسه أبا عطوفا للناس ومعلّما حريصا عليهم، فكان يقول لهم: «أنَا لَكُم مِثلُ الوالِدِ ؛ اُعَلِّمُكُم». [٣٩]
كانت نبوّته والتعاليم التي جاء بها من قبل اللّه تعالى لتنظيم شؤون الحياة تطابق الموازين العقليّة والمعايير العلميّة، وحتّى إنّ العلماء لو عَنَّ لهم تقصّي حقائقها لثبت لهم بكلّ جلاء صدق ارتباطه بمبدأ الوجود: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[٤٠]
وانطلاقاً من هذه الرؤية، كان يحذّر الناس بشدّة من اتّباع ما لا علم لهم به ويتلو عليهم الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[٤١].[٤٢]
تحذير قرآنيّ
كثيراً ما يؤكّد القرآن ضرورة استمرار نهضة الإسلام العلميّة والثقافيّة ويحذّر المسلمين لئلّا يعودوا بعد الرسول إلى ما كانوا عليه في عهد الجاهليّة، بقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾[٤٣]
وتعني هذه الآية، وكذلك الآية ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[٤٤] وفقاً لتفسير الإمام الباقر (ع): «أَيْ سَيَكُونُ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى» إشارة إلى عودة الجهل في تاريخ الإسلام، حتّى إنّه صلوات اللّه عليه قال في هذا الصدد: «بُعِثتُ بَينَ جاهِلِيَّتَينِ ، لَاُخراهُما شَرٌّ مِن اُولاهُما».[٤٥].[٤٦]
أسباب النكوص
هناك ثمّة قضيّة ذات أهمّيّة لابدّ من تسليط الأضواء عليها، تلك هي معرفة أسباب النكوص إلى عهد الجاهليّة، وهو ما عبّر عنه القرآن بالانقلاب على الأعقاب، ويمكن إجمالًا تقسيم عوامل النكوص إلى مجموعتين: فرديّة، واجتماعيّة.
الأسباب الفرديّة للنكوص
إنّ كلّ ما سيذكر تحت عنوان «حجب العلم والحكمة» و «آفات العقل» يُعدّ من أسباب انقلاب أفراد المجتمع على أعقابهم إلى الجاهليّة الاُولى التي وضع الرسول(ص) حدًّا لها عبر محاربته لهذه العوامل، وهذه الآفات العقليّة إذا ما وجدت لدى شخص ما بأيّ نسبة كانت فهيتقوده نحو الجاهليّة بنفس تلك النسبة.
وثمّة روايات اُخرى أكّدت دخول شرب الخمر وتناول المسكر في عداد العوامل الفرديّة لمثل هذا الانقلاب، وعلّلت الروايات اللاحقة هذه الظاهرة معتبرة الخمر اُمّ الفواحش ومفتاح كلّ شرّ ؛ فالإدمان على المسكرات والمخدّرات يمهّد الأجواء لاجتماع كلّ حجب المعرفة ويجعل الإنسان عرضة للوقوع في مهاوي المعتقدات والأخلاق والأعمال الجاهليّة.
العوامل الاجتماعيّة للنكوص
أمّا العوامل الاجتماعيّة لمثل هذا الرجوع القهقرى، فهي نفس الأمراض التيتهدّد أساس النظام الإسلاميّ، ومن أبرزها الاختلاف الذي قال فيه رسول اللّه (ص): «مَا اِخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلاَّ ظَهَرَ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا».[٤٧]
ومن العوامل الاُخرى للعودة إلى الجاهليّة ـ وهو أخطرها طبعا ـ زعامة أئمّة الضلال، وهو ما قال فيه الرسول(ص): «إنّ أخْوَفَ ما أخافُ على اُمّتي الأئمّةُ المُضِلّونَ».[٤٨]
وقد ورد أيضا أنّ عمر بن الخطّاب سأل كعب: إنّي أسألك عن أمر فلا تكتمني، قال: لا واللّه، لا أكتمك شيئا أعلمه، قال: ما أخوف شيء تخافه على اُمّة محمّد (ص) ؟ قال: أئمّة مضلّين، قال عمر: صدقت، قد اُسِرَّ إليّ ذلك وأعلمنيه رسول اللّه (ص).[٤٩]
إنّ لأئمّة الضلال خطرا على الإسلام ودورا في إعادة المسلمين إلى عصر الجاهليّة إلى الحدّ الذي جعل رسول اللّه (ص) يؤكّد في حديث معتبر ومتّفق عليه بين المسلمين أنّه: «مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إِمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». ومعنى هذا أنّ في وجود أئمّة العدل والحقّ ضمانا لاستمرار عصر العلم ؛ أي عصر الإسلام الحقيقيّ، وبانعدام تلك الزعامة ينقلب المجتمع الإسلاميّ إلى ما كان عليه في الجاهليّة الاُولى.
لقد تحقّقت هذه الواقعة المريرة في تاريخ الإسلام، وأضحت المجتمعات الإسلاميّة، بل مجتمعات العالم بأسرها، تتخبّط في مستنقع الجاهليّة الحديثة على الرغم ممّا أحرزته من تقدّم باهر في مجال العلوم التجربيّة.
كان رسول اللّه (ص) قد قدّم البشرى لبني الإنسان في أنّ لهذا العهد نهاية أيضا، إذ ستنمحي كلّ مخلّفات الجاهليّة من العالم بأسره عند قيام إمام من آل محمّد (ص)، وهو المهديّ الذي سيُضاء العالم كلّه بنور العلم الحقيقيّ بفضل زعامته وهدايته، ويُطوى بساط الفساد من وجه المعمورة، وتسود العدالة كلّ الكون. وقد خصّصنا الفصل السابع من هذا القسم لبيان هذه البشائر.
نأمل أن يكون انبعاث الإسلام من جديد في إيران من جملة إرهاصات تحقّق هذا الحُلُم.[٥٠]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٣٣٣-٣٣٤.
- ↑ المراد به الجهل المتفرّع عن الجهل الأصلي، ويدخل في عداد جنوده، ويكون في مقابل العلم، بينما الجهل الأوّل ـ أو الأصلي ـ يكون في مقابل العقل.
- ↑ سورة التين، الآية ٥.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٣٣٣-٣٣٧.
- ↑ سورة الجاثية، الآية ٢٣.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٣٣٨-٣٣٩.
- ↑ سورة النحل، الآية ٤٣.
- ↑ سورة الذاريات، الآية ٥٥.
- ↑ سورة النحل، الآية ٤٣.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٣٥١-٣٥٢.
- ↑ الاختصاص: ٢٢١.
- ↑ سورة الروم، الآية ٥٢.
- ↑ سورة الروم، الآية ٧.
- ↑ سورة الأنفال، الآية ٢٢.
- ↑ سورة النجم، الآية ٢٩.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٣٥٢-٣٥٤.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٥٤.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٥٠.
- ↑ سورة الفتح، الآية ٢٦.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٣٣.
- ↑ سورة الأنعام، الآية ١١٦.
- ↑ الحشف: اليابس الفاسد من التمر، وقيل: الضعيف الذي لا نوى له كالشيص (النهاية: ج١ ص ٣٩١).
- ↑ إشارة إلى الآية ١٥١ من سورة الأنعام.
- ↑ إشارة إلى الآية ٨ من سورة التكوير.
- ↑ إشارة إلى الآية ١٧ من سورة الزخرف.
- ↑ الميزان في تفسير القرآن: ج ٤ ص ١٥١. راجع: پژوهشهاى قرآنى (بالفارسية) العدد الثاني والثلاثون: ص ٢١٦ «تحقيق حول الجاهليّة».
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤١١-٤١٤.
- ↑ وردت بعض معاني هذه الكلمات في النصّ وفي الهوامش، وللاطّلاع على مزيد من المعاني راجع كتب التفسير، ومنها: مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٩٠ والتبيان في تفسير القرآن: ج ٤ ص ٤١ وتفسير القمّي: ج ١ ص ١٨٨ والميزان في تفسير القرآن: ج ٦ ص ١٥٦ وتفسير الطبريّ: ج ٥ الجزء ٧ ح ٨٦ والدرّ المنثور: ج ٣ ص ٢١١ وأيضا: السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٩١.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤١٩-٤٢٠.
- ↑ سورة الجاثية، الآية ٢٤.
- ↑ سورة الجاثية، الآية ٣٢.
- ↑ سورة يس، الآية ٧٨.
- ↑ سورة يس، الآية ٧٩.
- ↑ راجع: الكافي: ج ١ ص ٦١ ح ٧.
- ↑ سورة يوسف، الآية ١٠٦.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٦١.
- ↑ راجع: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: ج ٦ ص ٥٩ ـ ٦١ وص ٤٠٦ و ٤٤٩ ـ ٥١١، المحبّر: ص ١٧١، مروج الذهب: ج ٢ ص ١٢٦، الاُسطورة عندالعرب: ص ١١٤، شرح نهج البلاغة لابن أبيالحديد: ج ١ ص ١١٧، شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج ١ ص ٢٠٥، تفسير الطبري: ج ١٤ الجزء ٢٩ ص ٩٩ ؛ تفسير القمّي: ج ٢ ص ٣٨٧، الميزان في تفسير القرآن: ج ٤ ص ٤٧ و ج ١٨ ص ١٨١.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤٢٠-٤٢٧.
- ↑ مسند ابن حنبل: ج ٣ ص ٥٣ ح ٧٤١٣، سنن النسائي: ج ١ ص ٣٨، سنن ابن ماجة: ج ١ ص ١١٤ ح ٣١٣، كنز العمّال: ج ٩ ص ٣٦٢ ح ٢٦٤٦٦.
- ↑ سورة سبأ، الآية ٦.
- ↑ سورة الإسراء، الآية ٣٦.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤٥٤-٤٥٦.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٤٤.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٣٣.
- ↑ الأمالي للشجري: ج ٢ ص ٢٧٧.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤٥٦.
- ↑ كنز العمّال: ج ١ ص ١٨٣ ح ٩٢٩. ورد هذا المضمون أيضا في نهج البلاغة: الخطبة ١٩٢.
- ↑ كنز العمّال: ج ١٠ ص ١٨٨ ح ٢٨٩٨٦.
- ↑ كنز العمّال: ج ٥ ص ٧٥٦ ح ١٤٢٩٣.
- ↑ محمد الريشهري ، موسوعة العقائد الإسلامية، ج١، ص ٤٥٧-٤٥٩.