الحساب والسؤال
تمهيد
مرحلة الحساب والسؤال هي من مراحل يوم القيامة أيضاً. فالإنسان يرى نتائج بعض أعماله في الدنيا ويحاسب عليها أيضاً إلا أنه لا شكّ في عدم إمكانية محاسبة الإنسان على جميع أعماله في الدنيا، لأنّ هذا الأمر يتطلب عالماً فيه قابلية إظهار حقيقة كل الأعمال، حيث تزول الحجب ليشاهد الإنسان حقيقة أعماله، وهذه الخصوصيات لا تصدق إلا على عالم الآخرة. باختصار: الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب، من هنا سمي يوم القيامة ب (يوم الحساب): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[١]، إنّ ساحة هذا الحساب واسعة جداً حيث تشمل حتى نوايا النفس الإنسانية ومكامنها الخفية: ﴿إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾[٢] بما أنّ الحساب الأخروي لا يحتاج إلى تمهيد مقدّمات – كما يحتاج الحساب الدنيوي إلى ذلك – وبسبب ظهور الحاكمية الإلهية المطلقة حيث لا يوجد أيّ حاكم آخر يعيق عملية الحساب؛ فلا معنى للتأخير في الحساب، من هنا نجد القرآن يؤكّد على سرعة المحاسبة في الآخرة: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[٣]، كما أنّ الناس ليسوا على حال واحد في هذا الحساب، بل هناك من هم من أهل السعادة والهداية فالحساب يكون سهلاً بالنسبة لهم، وهناك من هم من أهل الشقاء والضلال فيكون الحساب قاسياً بالنسبة لهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[٤]، ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[٥]، نعم!، هناك جماعة من الناس يدخلون الجنة بدون حساب وهم أولياء الله، وهناك جماعة يدخلون جهنم بدون حساب[٦].
يُستفاد من بعض الآيات سؤال جميع البشر عند الحساب: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[٧]، ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾[٨]، إنّ مساحة هذا السؤال واسعة جداً تشمل حتى طريقة تعامل الإنسان مع النعم الإلهية: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[٩]، ففي حديث عن الرسول الأكرم(ص): «أَنَا أَوَّلُ قَادِمٍ عَلَى اللَّهِ ثُمَ يَقْدَمُ عَلَيَّ كِتَابُ اللَّهِ ثُمَّ يَقْدَمُ عَلَيَّ أَهْلُ بَيْتِي ثُمَّ يَقْدَمُ عَلَيَّ أُمَّتِي فَيَقِفُونَ فَيَسْأَلُهُمْ مَا فَعَلْتُمْ فِي كِتَابِي وَ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ»[١٠].
و قد بيّنت كثير من الروايات ما هو المقصود من النعيم الذي يُسأل عنه في الآخرة، مثلاً: ورد في إحدى محاجات أميرالمؤمنين(ع) مع أحد الزنادقة: «هُمُ النَّعِيمُ الَّذِي يَسْأَلُ الْعِبَادَ عَنْهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَنْعَمَ بِهِمْ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ قَالَ السَّائِلُ مَنْ هَؤُلَاءِ الْحُجَجُ قَالَ(ع) هُمْ رَسُولُ اللَّهِ(ص) وَ مَنْ حَلَّ مَحَلَّهُ مِنْ أَصْفِيَاءِ اللَّهِ»[١١].[١٢]
حقيقة الحساب والسؤال في الآخرة
من الواضح أنّ الحساب في الآخرة مختلف عن الحساب في الدنيا لأنّ الذي يحاسب على الأعمال في الدنيا، هو يسأل بغرض تبديل المجهول إلى معلوم، أي: ليعرف ماذا عمل ذلك المسؤول، في حين أنّ الله عالم مطلق ويستحيل وقوع الخطأ في علمه سبحانه وتعالى.
بالتالي فإنه لا شكّ من أنّ غاية الحساب والسؤال يوم القيامة ليست هي كشف المجهول، بل يُمكن القول أنّ الغاية منه هو إظهار حقيقة الأعمال وباطنها وإبراز معتقدات كل إنسان أمام عينيه، وإنّ تحقّق هذه الغاية هو أمر تكويني يقع مطابقاً للمشيئة الإلهية: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[١٣]، الآية المذكورة تُشير إلى العلم المطلق، وأن الله سيُحاسب الناس يوم القيامة على أدق الأعمال التي نسوها، ويطلعهم عليها. حقيقة السؤال - الذي هو أحد فروع الحساب - عبارة عن إظهار الحقيقة عند المسؤول، يوم القيامة يقع هذا السؤال التكويني على النحو الأتم والأكمل حيث تظهر الاعتقادات والأعمال المكنونة في نفس الإنسان[١٤].[١٥]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة ص: ۲۶.
- ↑ سورة البقرة: ۲۸۴.
- ↑ سورة الرعد: ۴۱.
- ↑ سورة الحاقة: ۱۹-۲۰.
- ↑ سورة الرعد: ۱۸.
- ↑ أشارت بعض الروايات إلى ذلك، راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج۷۲، ص۳۳۷، ح۵.
- ↑ سورة الحجر: ۹۲.
- ↑ سورة الصافات: ۲۴.
- ↑ سورة التكاثر: ۸.
- ↑ بحار الأنوار، ج۷، ص۲۶۳، ح۲۲.
- ↑ ورد في تفسير هذه الرواية الشريفة أنّ النعمة تكون نعمة عندما تستعمل كل موهبة من تلك المواهب الإلهية في مسير الولاية التي هي الغاية من خلق البشر، بالتالي فإنّ الولاية هي النعمة بالذات، بناء على ذلك فإنّ السؤال عن كيفية الاستفادة من النعم الإلهية هو في الحقيقة سؤال عن الولاية، راجع: العلامة الطباطبائي، الإنسان بعد الدنيا.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٢٩-٦٣١.
- ↑ سورة المجادلة: ۶.
- ↑ ذكر العلامة تفسيراً عميقاً لحقيقة الحساب الأخروي، خلاصته أنّ حقيقة الحساب عبارة عن العلم بترتب النتائج على المقدمات، وبما أنّ علم الحق تعالى هو عين الواقع فإنّ حسابه أيضاً هو حساب الواقع، أي: أنّ حساب الأعمال ليس إلا ترتب نتائجها الواقعية، وهذا الحساب يجري حتى في الدنيا إلا أنّ يوم القيامة عندما تزول الحجب يظهر على نحو تام، فالمقصود من وقوع الحساب يوم القيامة أنّ في ذلك اليوم تظهر نتائج الأعمال ظهوراً تاماً وحقيقياً، للتوضيح أكثر، راجع: العلامة الطباطبائي، الإنسان بعد الدنيا.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٣١-٦٣٢.