الخوف من الله
التمهيد
الخوف من اللَّه تعالى من أعظم النّعم ومن اهمّ الصّفات الحسنة، وهو يوجب تقوى النّفس عن مخالفة اللَّه تعالى . وبهذا الاعتبار استعملت كلمة التّقوى ومايشتقّ منها في الخوف حتّى صار الاستعمال مجازاً مشهوراً لو لم نقل انّه صار معناها الحقيقي بغلبة الاستعمال .
واستعملت هذه الكلمة أزيد من مأة مرة في القرآن مريداً منها معنى الخوف . ولو لم يكن له شأن إلّاهذا لكفى بك ان تقول لهذه الصّفّة شأن في السير إلى جنابه تعالى . فبناء عليه كلّ ما رسم في الذكر للمتّقين من خير الدّنيا والآخرة فهو لمن يخافه تعالى، لانّ المتّقي هو الخائف من اللَّه في اصطلاح القرآن، بل عرفاً ولغة .
وملخّص القول انّ هذه الصّفة توجب سعادة الدارين، امّا الآخرة فكفاك فيه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[١] وقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾[٢]
والمراد بالجنّتان جنّة العوام وهي الّتي وصفت في القرآن في آيات كثيرة وذكر فيها نعمها من القصور والمأكولات والمشروبات والحور والملابس و. . . . ولها مراتب من الجنّة والعدن والرّضوان ولكلّ مراتب أخر . وجنّة الخواص، وهي الّتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[٣]
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[٤]
ويكفيك للدّنيا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[٥]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[٦]
ولو لم يكن في اهميّة التّقوى البالغة والخوف منه تعالى إلّاقوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[٧] لكفى بها فضلًا ونبلًا .
مراتب الخوف
وللخوف درجات ومراتب:
- خوف العوام، وهو يوجب الابتعاد عن المحرّمات، وأجود منها هو التّقوى عن الشّبهات، وأجود منها هو التّقوى عن المكروهات . قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[٨] وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[٩]
- خوف الخواصّ، وهو يوجب الابتعاد عن ترك الأولى بحسب القدرة البشريّة . وهذا الخوف يختصّ بالأنبياء سيّما المرسلين . قال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[١٠]
الا ترى انّ يوسف (ع) لمّا قال اذكرني عند ربّك لمن علم انّه ناجٍ من السّجن وذاهبالعزيز، قضى اللَّه تعالى عليه السّجن بضع سنين .
قال تعالى: «وقال للّذى ظنّ انّه ناج منهما اذكرني عند ربّك فانسيه الشيطان ذكر ربّه فلبث في السّجن بضع سنين» . «١»
قال تعالى: «في بيوت اذن اللَّه ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدّو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه» . «٢»
اقسام الخوف
الخوف على قسمين:
خوف الرّهبة
والمراد من الأوّل هو الخوف من سخط اللَّه وغضبه، وبعبارةٍ أخرى هو الخوف من عدله، وبعبارة القرآن هو الخوف من مقامه تعالى .
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[١١]
وهذا الخوف على اقسام:
- الخوف من عذابه الاخروىّ: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[١٢] وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[١٣] وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[١٤]
- الخوف من عذابه الدّنوىّ: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾[١٥]
- الخوف من سوء العاقبة . قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾[١٦]
- الخوف من سوء عاقبة أولاده وذويه: قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾[١٧]
خوف الخشية
وامّا خوف الخشية فهو الخوف من عظمتة وجبروته وابّهته . وهذا الخوف يتوقّف على المعرفة، فكلّما زادت المعرفة اشتدّ الخوف، فلذا يختصّ بالعارفين . قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[١٨]
والفرق بين الخوفين انّ خوف الرّهبة ينشأ من سخطه فعلى الحقيقة نشأ ممّا اغترف من ذنوبه، فلذا ورد في الرّوايات «وَ لاَ يَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ» [١٩]
وامّا خوف الخشية فينشأ من حبّه، فلذا قال أمير المؤمنين (ع) في دعاء الخضر المشتهر بالكميل: «يا إلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ».
فبين الخوفين كمال المباينة إلّاانّهما يجتمعان في عباداللَّه الصّالحين، فمثل أمير المؤمنين الّذي يخاف اللَّه خوف الخشية كما يخافه خوف الرّهبة، قال في نفس الدعاء: «اللهمّ لا أجد لذنوبي غافراً ولا لقبائحي ساتراً ولا لشئ من عملي القبيح بالحسن مبدّلًا غيرك» .
الخوف مقول بالتشكيك
ظهر من مطاوي ما ذكرنا انّ الخوف من باب التّشكيك سواء كان خوف الرّهبة أو خوف الخشية، فالمرتبة الضّعيفة منه حسنة مطلوبة، وكلّما زاد في شدّته زاد في حسنه، ولا يعقل فرض التّفريط والافراط فيه . فما اشتهر في كتب الأخلاق من فرض التّفريط والافراط له، وقيل: انّ افراطه - وهو حدّ القنوط واليأس من رحمته تعالى - مذموم، ليس بسديد .
ضرورة انّ الحدّ الضّعيف منه وهو خوف العوام من سخط اللَّه تعالى مطلوب، لانّه يمنع عن الالتفات إلى غير اللَّه فضلًا عن مخالفة أوامره تعالى واجبة كانت أو مستحبّة، ونواهيه محرّمة كانت أو مكروهة .
وليس معنى العصمة إلّاالخوف الشّديد من اللَّه تعالى الحاصل من العلم بأسمائه وصفاته ومن المعرفة بها على منتهى مراتبها البشريّة .
والأدعية المأثورة منهم كدعاء كميل وأبي حمزة وعرفة، تنشأ من هذا الخوف اي خوف الرّهبة تارة وخوف الخشية أخرى .
وامّا القنوط واليأس من رحمة اللَّه تعالى فلا ينشأ من الخوف الشّديد، بل من عدم الرّجاء . وسيأتي ان شاء اللَّه تعالى الكلام في انّه يجب الرّجاء مع الخوف والخوف مع الرّجاء وانّ أحدهما من دون الاخر نقص يجب رفعه فوجودهما متلازمان تلازمَ القرآن والعترة .[٢٠]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة النازعات، الآية ٤٠-٤١.
- ↑ سورة الرحمن، الآية ٤٦.
- ↑ سورة الفجر، الآية ٢٧-٣٠.
- ↑ سورة القمر، الآية ٥٤-٥٥.
- ↑ سورة الأعراف، الآية ٩٦.
- ↑ سورة الأعراف، الآية ١٢٨.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٢٧.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٠٢.
- ↑ سورة التغابن، الآية ١٦.
- ↑ سورة طه، الآية ١٢١.
- ↑ سورة النازعات، الآية ٤٠-٤١.
- ↑ سورة الحج، الآية ١-٢.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٣٠.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٤.
- ↑ سورة الأنفال، الآية ٢٥.
- ↑ سورة النمل، الآية ٦٩.
- ↑ سورة النساء، الآية ٩.
- ↑ سورة فاطر، الآية ٢٨.
- ↑ نهج البلاغة، قصار الحكم / ٨٢ .
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٣٧٣.