الخير والشر
تمهيد
السؤال عن وجود الشر مع أنّ الله خير مطلق
يسأل الناس أحياناً: ما معنى وجود الشرور في العالم مثل الأمراض والزلازل وغيرها، مع أنّ الله خير مطلق؟ ولماذا نرى في الطبيعة أشياءاً ناقصة وأموراً تجعل البعض يظنّ أنّ هناك نقصاً في نظام الكون؟ هذه التساؤلات قد تأتي من أشخاص لا يفهمون حقيقة العقيدة، ولا يدركون أنّ ما نراه شرّاً في العالم قد يكون في حقيقته خيراً وكمالاً.
الاحتمالات الممكنة في خلق الله
ولكن لنجيب على هذه الشبهات بطريقة منطقية سليمة، علينا أن نحلّلّ كل الاحتمالات الممكنة في خلق الله للكون. هذه الاحتمالات أربعة:
- الاحتمال الأوّل: أن لا يخلق الله شيئاً.
- الاحتمال الثاني: أن يخلق الخير والكمال المطلقين فقط.
- الاحتمال الثالث: أن يخلق الشر المطلق فقط.
- الاحتمال الرابع: أن يخلق مخلوقات متفاوتة في الخير والكمال، كلّ مخلوق حسب قدرته وقابليّته.
مناقشة الاحتمال الأوّل
دعونا نناقش الاحتمال الأوّل، وهو عدم خلق أيّ شيء: هذا الاحتمال غير مقبول؛ لأنّه يتعارض مع قدرة الله المطلقة. فالله قادر على كلّ شيء، ولابدّ أن تظهر آثار قدرته وإبداعه في الكون لتكون دليلاً على عظمته. ولتوضيح ذلك، لنتصوّر شخصاً يدّعي أنّه شاعر ماهر، يستطيع وصف كلّ المشاهد الجميلة والمعاني الدقيقة في شعر جميل. فإذا طلبنا منه أن ينشد قصيدة أو حتّى بيتاً واحداً كدليل على مهارته، فعجز عن ذلك، فهذا غير معقول؛ لأنّ كلّ من يملك مهارة في شيء لابدّ أن تظهر آثار مهارته. وهكذا فالله سبحانه، وهو الخالق القادر على كلّ شيء، لا يمكن أن لا يخلق شيئاً. فقدرته مطلقة لا حدود لها، ولابدّ أن يصدر عنه ما يدلّ على قدرته. لذلك لا يمكن قبول هذا الاحتمال الأوّل مطلقاً.
مناقشة الاحتمال الثاني
أمّا في الاحتمال الثاني وهو أن يخلق الله عزّ وجلّ الخير والكمال المطلقين، فهذا يعني أنّ كلّ ما يخلقه الله هو خير وكمال مطلق ولا يوجد أيّ شيء آخر غيره. ولكنّ هذا الاحتمال يتعارض مع كمال الله المطلق؛ لأنّ كلّ ما هو مطلق لا يكون إلّا الله سبحانه وتعالى فهو وحده الكمال المطلق. فلو خلق الله الكمال والخير المطلقين، لكانت مخلوقاته على نفس مستوى كماله المطلق، ولانتفى الشر والنقصان من الوجود تماماً. وهذا في حدّ ذاته ممكن إذا تعلّقت قدرة الله به، لكنّه يؤدّي إلى أن تكون مخلوقاته كاملة مثله - والعياذ بالله - وهذا لا يجوز؛ لأنّه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[١]، فلو حدث ذلك لارتقت المخلوقات إلى مستوى الخالق وأصبحت مشابهة له، ولم يكن هناك فرق بين الخالق والمخلوق. وهذا غير معقول. فمثلاً لو أراد الإنسان أن يكون صحيحاً سليماً غنيّاً هادئ البال مرتاح الضمير سعيداً دائماً لا يحتاج أحداً ولا يتعب في سبيل أهدافه، بل ينالها بمجرّد إرادته لها، وأن يحترمه الجميع ويخافه الكلّ ولا يخالفون أمره أو رأيه، وألّا يموت أو يهرم أو يعجز، فهذا يعني أن تنتفي عنه كلّ الصفات الإمكانية وكلّ جوانب النقص والضعف والمحدودية والمعلولية. وبذلك يريد هذا الإنسان أن يرتقي عن منزلة إنسان إلى منزلة إله، وهو الكفر والإلحاد. لذلك فهذا الاحتمال أيضاً غير منطقيّ؛ لأنّه يعني أن ينقلب الممكن إلى واجب، والمخلوق إلى خالق، وأن ترتفع المخلوقات كلّها من مستوى المخلوقات إلى مستوى الكمال المطلق الذي هو لله وحده.
مناقشة الاحتمال الثالث
وكذلك الحال بالنسبة للاحتمال الثالث وهو أن يخلق الله تعالى الشر المطلق، بحيث لا نرى في الحياة جمالاً ولا خيراً ولا سعادة، وإنّما كلّ ما نراه هو نماذج للشرّ والحقد والنقص والضعف والعجز وما شابه. فهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ الله أعزّ وأجلّ من ذلك، فهو الرحيم ومصدر الخيرات وواهب النعم ورازق العباد وربّ العالمين الذي لا تفوته حاجات عباده. فهو يفيض الخير والكمال والجمال، فكيف يليق به أن يخلق الشر الشامل؟ إذن فهذا الاحتمال الثالث مرفوض أيضاً.
الحلّ والجواب الصحيح على السؤال
فالجواب على هذا السؤال، بعد محاسبة الاحتمالات العقلية واستبعاد غير المقبول منها، هو أنّ الله تعالى يخلق الخلق متفاوتين حسب درجاتهم وقابليّاتهم. والحلّ الأمثل لذلك هو وجود التكافل والانسجام بين أجزاء الوجود، بحيث يكون الشر جزءاً متمّماً للخير ومكمّلاً له. فالوجود ليس أجزاءاً مفكّكة في هذا العالم، بل كلّها مترابطة فيما بينها ارتباطاً عضويّاً وأقوى من العضوي، دليلاً على وحدانية الله تعالى. وقد ذكرنا البراهين المختلفة على الوحدة والارتباط اللذين يحكمان هذا العالم، فأجزاؤه كأعضاء جسد واحد مترابطة، ممّا يدلّ على وجود روح واحدة مسيطرة على هذا الوجود والكون. إذا أردنا أن نفهم الموضوع بشكل أسهل، فلنقل إنّ كلّ شيء في هذا الكون يتكامل مع بعضه البعض. فما نظنّه شرّاً ونقول إنّ الله خلقه، هو في الحقيقة ليس شرّاً، بل هو نتيجة لجهلنا وبُعدنا عن الأشياء التي لا تتناسب مع رغباتنا. والخلاصة هي أنّ ما يُعتبر شرّاً لا يتعارض مع الخير في جوهره، بل هو جزء مكمّل له أو شرط ضروري لتحقيقه. فمثلاً، لا معنى للشجاعة بدون وجود خطر حقيقي، سواء في البيت أو العمل أو أيّ مكان آخر. ولا معنى للكرم بدون وجود فقر وحاجة. فلو كنّا نعيش في مدينة لا يحتاج فيها أحد إلى شيء، فكيف يمكن أن تظهر صفة الكرم؟ ولا معنى للصبر بدون وجود الشدائد والصعوبات. وهكذا في أمثلة كثيرة. فلا يمكن أن نفهم معنى الشبع بدون الشعور بألم الجوع، ولا يمكن أن نفهم معنى الارتواء بدون العطش. وبناءاً على ذلك، يمكننا أن نقول إنّ الشر جزء مكمّل للخير، والنقص من لوازم الكمال. فالتناقض الذي نتصوّره بين الشر والخير مرفوض من الأساس؛ لأنّ كلّ منهما يكمّل الآخر. وكلّ هذه الأمور تؤكّد حكمة الله تعالى، وأنّه لا يفعل شيئاً عبثاً. فلا معنى للقول بأنّ هذا شر وذاك نقص قد خلقه الله. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم حكمة كثير من الأمور التي نظنّها شراً، حتّى الموت نفسه. فلو تأمّلنا في حقيقة الحياة الآخرة وما أعدّه الله لعباده المؤمنين، لأدركنا أنّ الموت نعمة للبشرية وليس شرّاً. وقد أكّد القرآن الكريم على هذا المعنى في وصف حال الشهداء بعد القتل: ﴿وَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[٢]، وكذلك الأمر بالنسبة للعواصف والزلازل التي تحدث في بعض الأماكن. فلا عجب أن يصاب مكان فيه الكثير من الانحراف والفساد بكارثة أو بلاء من السماء يهلك أهله. فهذا من باب إزالة الفاسد لإبقاء الصالح، ودفع الشر الكثير بالشر القليل. وعندها لا يمكننا القول بأنّ الزلازل أو العواصف أو الفيضانات هي شرور، فكيف تصدر من الله وهو واهب الخيرات؟ إنَّ فهم فلسفة الابتلاء والاختبار في هذه الدنيا يساعدنا على إدراك حقيقة مهمّة، وهي أنّ الهدف من الابتلاءات هو أن يتذكّر الإنسان ويفكّر ليستيقظ من غفلته. وكلّ أجزاء هذا الكون، من أصغر ذرّة إلى أكبر مجرة، تسير وفق قوانين وسنن لا تتغيّر إلّا بمشيئة الله. وهذه القوانين ضرورية لاكتمال النظام الكوني، فكلّ جزء من الكون يقوم بوظيفته المحدّدة دون إخلال. والحقيقة أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق العالم كلّه على أحسن نظام وأكمل صورة. لكنّ الإنسان قد يشكّ أو تراوده شبهات بسبب الأنانية الموجودة لديه. فمعظم البشر تحكمهم الأنانية في حبّ أنفسهم فقط. ومعنى الأنانية أنّ الإنسان يريد كلّ شيء لنفسه، ويعتبر ما ينفعه خيراً وما لا ينفعه شرّاً. فالخير والكمال والصفات الطيّبة لا تتحقّق في نظره إلّا إذا وافقت مزاجه ورغباته. وهذا المنطق غير صحيح ولا يقبله الضمير الإنساني ولا الشرع الإسلامي.
لماذا خُلق الشيطان؟
وبعد أن اتّضحت لنا كيفية التعامل مع الخير والشر وفهمهما، قد يتساءل البعض: لماذا خلق الله الشيطان الذي يمنع الإنسان من السير في طريق الهداية والصلاح؟ أليس هذا يعني أنّ الله لا يريد لنا الهداية؟ في الواقع، هذا السؤال ينبع من عدم فهم رحمة الله وحكمته. فالله تعالى رحيم ومتفضّل على عباده، وقد وعد بإرشادهم إلى طريق الخير وإزالة العوائق من طريقهم. أمّا الشيطان فوظيفته أن يقف عقبة في طريق تكامل الإنسان. ولفهم هذه المسألة، يجب أن نتذكّر أنّ الإنسان خُلق ليعيش على الأرض، وليس في عالم الكمال والسموّ المعنوي منذ البداية. فهو يعيش في عالم مادّي له شهوات وأهواء وميول تجذبه إليها. لذا قرّر الله أن يخلق توازناً بين عوامل الطاعة وعوامل الابتعاد عنها، حتّى تصقل شخصية الإنسان. فلا فخر للأخرس أنّه لا يكذب؛ لأنّه عاجز عن الكلام. بل الفخر لمن يستطيع الكذب لكنّه يقاومه بمجاهدة نفسه الأمارة بالسوء. فلا يستوي من يصل لهدفه بسهولة ومن يصل إليه بعد التغلب على الصعاب. لو لم يكن للإنسان شهوة أو شيطان يغويه، ولو كانت طرق الطاعة سهلة، فلا فضل له في إيمانه وتقواه؛ لأنّه كان مجبراً عليها. لكنّ الله منح الإنسان المواهب والحرّية، وأراه الطريق الصحيح وأمره باتّباعه، والطريق الفاسد ونهاه عنه. ورزقه العقل الذي يرشده للحقّ، كما قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ ومَا سَوَّئهَا * فَأَلهْمَهَا فُجُورَهَا وتَقُوئها * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَهَا * وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾[٣]، وقال أيضاً: ﴿إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وإِمَّا كَفُورًا﴾[٤]. وخلق له الشهوة بجانب العقل، فإن اتبع عقله استحقّ المدح، وإن اتبع شهوته استحقّ الذم. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمنَ اللَّهِ ومَا أَصَابَكَ مِن سیّئةٍ فمن نَفْسِكَ﴾[٥]. فالشر ليس من الله، بل من الإنسان نفسه، بسبب أنانيته وشهواته التي تحجب عنه التمييز بين النافع والضار. إذن، فالخير والهداية من رحمة الله، والفساد والضلال من الشيطان. ولابدّ من التقائهما حتّى تصقل شخصية الإنسان وتكتمل. فما نراه شرّاً كالموت والمرض والشيطان، إنّما يدعونا لليقظة من الغفلة والتنبّه لحكمة الخالق الذي هو الخير المحض[٦].
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة الشورى، الآية 11.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٦٩ - ۱۷۱
- ↑ سورة الشمس، الآية ۷ - ۱۰
- ↑ الإنسان، الآية ۳
- ↑ سورة النساء، الآية ۷۹
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ١٥١ - ١٥٨.