الشرك
تمهيد
يوجد نوع تقابل بين مفهومي التوحيد والشرك، فإن التوحيد هو الاعتقاد بالوحدة ونفي الكثرة والمشاركة، بينما الشرك هو الاعتقاد بالتعدد والمشاركة وانكار الوحدة، من هنا فالبحث عن الشرك في علم الكلام ضروري من جهتين: الشرك، مقولة دينية وكلامية، فالبيان الدقيق للعلاقة بينه وبين المفاهيم الدينية الأخرى من وظائف علم الكلام، كما أن تقابل مفهومي التوحيد والشرك يجعل البحث في أقسام الشرك وأحكامه مؤثراً في فهم التوحيد والمسائل المتعلقة به بشكل أفضل، بل إن أحد طرق معرفة الشيء، معرفة ضده؛ بحيث إن أحكام هذين الشيئين بينهما تضاد كامل. من هنا قالوا (تعرف الأشياء بأضدادها).[١]
أقسام الشرك
ذكرنا أن هناك تقابلاً بين الشرك والتوحيد، فكما أن للتوحيد أقساماً فللشرك أيضاً أقسام، وهي:
الشرك الذاتي
بالتأمل في معنى التوحيد الذاتي فالشرك الذاتي هو أن يعتقد الإنسان بتركيب الذات الإلهية أو يعتقد بوجود إلهين أو أكثر في عرض بعض، فللشرك الذاتي معنيان: الاعتقاد بتركب الذات الإلهية، والاعتقاد بتعدد الذات الإلهية.
على أساس المعنى الأول، يستلزم الاعتقاد بتركيب الذات الإلهية الشرك، بالتأمل في معنى التركيب العقلي الدقيق الذي مر في بحث التوحيد الذاتي فإن الاعتقاد بهذا التركيب هو الأقل انتشاراً بين الناس، في المقابل الاعتقاد بتركيب الذات الإلهية من أجزاء خارجية كان أكثر شيوعاً على مرّ التاريخ. كما سنشير في بحث عوامل الشرك إلى دليل سيطرة فكر الماديين على أذهان جماعة من الناس، الذين يتصورون الله في قالب موجود جسماني ومادي له أعضاء وجوارح، وهذه العقيدة هي نوع من الشرك الذاتي. بالنسبة للمعنى الثاني، - يعني الاعتقاد بتعدد الذات الإلهية - يجب الالتفات إلى أن كل نوع اعتقاد بتعدد المعبود لا يستلزم الشرك الذاتي، فربما يعبد شخص عدة معبودين في حال أنه يعتقد أن جميعهم مخلوقين لخالق واحد ويعبدهم، لمجرد أنه يتصور أنهم يشفعون له عند الله، أو لأنهم أولاده جل شأنه أو أنهم أصحاب اختيار وتدبير قسم من العالم، هكذا شخص وإن كان مبتلياً بالشرك في الربوبية ولكن لا علاقة الاعتقاده بالشرك الذاتي. فالمعنى الثاني للشرك الذاتي يصدق فقط عندما يعتقد الإنسان بوجود مبدئين أو أكثر مستقلين وكلاهما في نفس المرتبة؛ يمتلكون صفات الله ولا يتفوق أو يتقدم أحدهما على الآخر. إذا أردنا أن نبين هذا المعنى في قالب اصطلاحات فلسفية نقول: أن الاعتقاد بوجود عدد من واجبي الوجود أو عدة موجودات غنية بالذات بحيث أن كل منهم ليس هو معلول أو مخلوق للآخر. بالتوجه إلى التوضيح السابق فإن هذا المعنى للشرك الذاتي لم يكن شائعاً بين الملل والشعوب وأغلب العقائد والمذاهب المشركة سقطت في حُفر شركية أخرى.
الشرك الصفاتي
وهو عبارة عن الاعتقاد بأن الصفات الإلهية لها وجود مستقل يُغاير وجود الذات الإلهية وبالتدقيق في العلاقة بين الذات والصفات فإن حال الشرك الصفاتي كحال بعض صور الشرك الذاتي لم يكن منتشراً بين عموم الناس، بل إن هذا البحث هو بحث تخصصي مطروح بين الفلاسفة والمتكلمين فقط، مع هذا، كما مر في التوحيد الصفاتي أن الأشاعرة ترى تمايُز الذات عن الصفات وأن لله صفات مستقلة سبع عن الذات ومستقلة عن بعضها البعض ولها وجود أزلي، فيمكن أن يقال: إن الأشاعرة ابتلوا بالشرك الصفاتي، وسوف نذكر فيما بعد أن هكذا شرك إذا لم يلازمه الشرك الذاتي فلا يوجب خروج الفرد من دائرة الإسلام.
الشرك الأفعالي
لكونه يقع مقابل التوحيد الأفعالي ومناظراً له فيقسم إلى فروع متعددة مثل الشرك في الخالقية، الشرك في الربوبية، والشرك في التشريع والحاكمية.
الشرك في الخالقية: بمعنى الاعتقاد بوجود خالقين أو أكثر بحيث تكون مستقلة عن بعضها بشكل لا يكون كل منهما مقهور قدرة خالق آخر. أحد المصاديق الأساسية للشرك في الخالقية: الاعتقاد بتمايُز خالق الشرور عن خالق الخيرات، فإن الله يخلق الأمور الخيرة والحسنة وأما خالق الأمور الشريرة والسيئة هو موجود شرير (مثلاً: الشيطان أو أهريمن) الذي يخلقها بصورة مستقلة بلا تدخُّل من الله خالق الخيرات. إن المانوية الذين انتشر فكرهم بين اتباع الزردشتية يُصرّحون بأن هناك خالقاً مستقلاً آخر غير الله ومن هنا وقعوا في الشرك في الخالقية.
الشرك في الربوبية
تاريخ الأفكار المشركة تُشير إلى أن هذا النوع من الشرك كان منتشراً بين الملل والأقوام المختلفة، وبالبحث في عقائدهم المشتركة يتضح أنهم كانوا يعتقدون بربوبية آلهتهم بالاستقلال، مثلاً: لكل ظاهرة طبيعية كالمطر، الرياح، نمو النباتات و... إله مستقل، وهو المدبر لتلك الظاهرة.
الشرك في التشريع
بمعنى أن الإنسان يعتقد بأن غير الله هو مرجع مستقل للتشريع والتقنين ويعتقد بلزوم إجراء أوامره التي هي في عرض أحكام الله.
يُرى أن هذا النوع من الشرك كان له النصيب الأكبر في الانتشار وذلك الانحرافات التي كانت بين اتباع بعض الأديان التوحيدية، كبعض المسيح فانتشر هذا الفكر أن أصحاب المقام المسيحي الرفيع (البابا) هم معصومون وآراؤهم الدينية مُعتبرة بشكل مستقل وفي عرض الكتاب المقدس، ونرى أن هذه الجماعة من المسيحيين المعروفة بالكاثوليكية ابتُليت بالشرك في التشريع لاعتقادهم أن البابا مرجع مستقل للتقنين والتشريع بشكل رسمي [٢].
الشرك في الألوهية والشرك في العبادة
الشرك في الألوهية هو أن يعتقد الإنسان أن هناك أشياء متعددة تستحق العبادة، والشرك في العبادة هو أن يعبد عدة أشياء وهذان النوعان غالباً ما يكونان متصاحبين، لأن من يعتقد بوجود أكثر من موجود يستحق العبادة فقد التزم بهذا الاعتقاد في مقام العمل! فينبغي أن يعبدهم جميعاً، كما يصاحبهما في كثير من الأحيان الشرك في الربوبية وهو أحد مباني الشرك في الألوهية، فعندما يعتقد الإنسان بوجود أرباب مستقلة في العالم يرى أنهم يستحقون العبادة لربوبيتهم المستقلة.
انتشر هذان الفرعان للشرك بين المشركين الأوائل بصور مختلفة، فكان هناك من يصنع الأصنام بيده من الحجر والخشب و... ولأنهم مظهر لمعبوداتهم الغير واضحة، فإنهم يعبدونهم ويخضعون لهم ويقدمون القرابين ويقومون بمناسك العبادة، وهناك من يعبد الأجرام السماوية، كالشمس والقمر لعظمتها الظاهرية، كما أن هناك من يُقدس الظواهر الطبيعية وبعض الحيوانات ويرى استحقاقهم للعبادة لما لهم من قوى فوق طبيعية ومرموزة.[٣]
مراتب الشرك الظاهرة والخفية
مما لا ينبغي الغفلة عنه أن للشرك خاصة في مقام العمل مراتب عديدة مختلفة هي ليست في مستوى واحد من حيث الظهور والخفاء، مثلاً: مرتبة ظهور الشرك في العبادة عبارة عن عمل المناسك العبادية والأعمال الخاصة (الركوع، السجود، وتقديم القرابين) لغير الله مع الاعتقاد بأن ذلك المعبود يستحق الإلهية.
هذه أوضح مظاهر الشرك في العبادة، ولكن هناك مراتب أخرى من هذا الشرك ليست واضحة. الإسلام يرى أن كل عبادة للدنيا، عبادة الجاه، عبادة الهوى و... هي شرك في العبادة لغير الله. من يجعل نفسه عبداً للأهواء النفسية بلا بحث فقد عبد نفسه في الواقع. كما بين القرآن هذه الحقيقة بطريقة رائعة: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ[٤]، يرى القرآن أنه من يخضع أمام هوى نفسه فإنه عملياً قد اتخذه إلهاً ومعبوداً. من البديهي أن هذه المرتبة من الشرك العبادي ليست واضحة كثيراً، ولهذا تسمى بالشرك الخفي. وهذه المرتبة لا تختص بالمشركين الرسميين، بل ابتلى بها الكثير من المسلمين والمؤمنين. الشرك الخفي يجري في كل أنواع الشرك العملي. من يعتمد في بعض مقاطع حياته على الأسباب والعلل الطبيعية ويؤمن في أعماق ضميره بتأثيرها المستقل هو في الواقع توكل على غير الله، ومن هنا ابتلي بالشرك في التوكل، من يُسلّم أمام الطواغيت ويتبع أوامرهم بلا سؤال أو اعتراض فقد سقط في الشرك في الإطاعة، كما أن محبة من هم ليسوا محبوبي الله يؤدي إلى التهاوي في الشرك في المحبة. الحاصل أن لكل قسم من أقسام الشرك مراتب بعضها واضح وبعضها خفي، ومراتب الشرك الخفي سقط فيها عدد لا حصر له من الناس، حتى المؤمنين.[٥]
حد نصاب التوحيد
من الممكن أن يواجه الذهن هذا السؤال أنه كيف يجتمع إسلام الشخص مع المراتب الخفية للشرك وكيف يمكن أن يكون من ابتلى بهذا الشرك مسلماً؟ في الجواب عن السؤال عادة يُطرح بحث بعنوان (حد نصاب التوحيد)، والهدف منه هو بيان أي أقسام ومراتب التوحيد ضروري لإسلام الشخص، بحيث لو انتفى ذلك القسم فإنه ينتهي إلى خروج الشخص من دائرة الإسلام؟ من البحث السابق في الشرك الخفي، اتضح بشكل مُجمل أنه ليس كل مراتب التوحيد ضرورية لتحقق الإسلام للإنسان، والآن يجب بيان أي المراتب ضرورية وأيها غير ضرورية بشكل أدق، بالتوجه إلى مجموعة من الأدلة والشواهد، نجد أن قسم من التوحيد النظري لازم لصدق عنوان الإسلام وهو التوحيد الذاتي، التوحيد في الخالقية، التوحيد في الربوبية، التوحيد في التشريع والتوحيد في الإلهية. هذا المدعي يتضح أكثر بالتوجه إلى تلازم الأقسام المذكورة لأنه كما قيل في الأبحاث السابقة فإن الأقسام الأربعة الأخيرة متلازمة فيما بينها ومن جهة أخرى لا يُعقل الاعتقاد بهم بدون الاعتقاد بوحدانية ذات الله[٦]. فحد نصاب التوحيد النظري هو القبول بالأقسام المذكورة كلها وبالتوجه إلى التلازم المذكور بينها فقد جُمعت في الشعار التوحيدي للإسلام، أي: عبارة لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وإن كانت هذه الشعارات تتكئ على خصوص التوحيد الإلهي حسب الظاهر ولكن بالتوجه إلى التلازم بين جميع الأقسام المذكورة يتضح حد نصاب التوحيد اللازم لتشرُّف الإنسان بدين الإسلام، فحد نصاب التوحيد النظري للمسلم هو أن ذات واحدة ولا بديل لها، ولا يوجد موجود آخر غيره بعنوان واجب الوجود، خالق، مدبر العالم، ويستحق العبادة. ويعتقد أنه لا حق لأحد غير الله إصدار الأوامر وإعطاء الحكم، إلا أن يؤذن له من جانب الله. أيضاً حد النصاب اللازم لإسلام الإنسان في بعد التوحيد العملي هو التوحيد العبادي وهكذا يعتقد أن المراتب الخفية للشرك لا تُخرج الإنسان من جماعة المسلمين وما ينافي الحد الأدنى لإسلام الإنسان هو الشرك العبادي الظاهر، يعني أن يعبد الإنسان غير الله بصورة رسمية وعلنية ويقوم بأعمال عبادية خاصة. بإحراز حد نصاب التوحيد يُعد الإنسان من جماعة المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام، ثم من يسلك طريق الاستكمال والرقي المعنوي يُمكنه أن يحصل على مراتب توحيدية أخرى، كالتوحيد في الاستعانة، التوحيد في المحبة... وينقذ نفسه بالتدريج من أنواع الشرك الخفي. والأمر الآخر الذي من المناسب النظر فيه أن فقدان بعض أقسام التوحيد التي هي حد النصاب يكفي لضياع الإنسان وشقاؤه الأبدي ولا يسعد بالاعتقاد بباقي الأقسام!؛ المثال الجلي لهذا هو الشيطان (إبليس)، كما جاء في الآيات والروايات[٧] أنه كان يعتقد بالتوحيد الذاتي والتوحيد في الخالقية والربوبية والإلهية وانشغل بعبادة الله سنوات طويلة، ولكن مخالفة أمر الله في السجود لآدم(ع) أصبح مستحقاً للعن الإلهي، وبدليل نقض التوحيد التشريعي سقط من مقامه وأصبح زعيم أهل النار[٨]
التوحيد والشرك في التاريخ
من الأسئلة المهمة في باب التوحيد والشرك هو أنه هل الإنسان من أول تاريخه كان موحداً، ثم أشرك بالتدريج أو أن التاريخ يُشير إلى مسير آخر، أي: أن الإنسان كان مشركاً ومع القرون المتمادية وبسبب رشده وتكامله الفطري (أو بأي دليل آخر) أصبح موحداً؟
للإجابة عن هذا السؤال نواجه آراء مختلفة، فيعتقد البعض أن أفكار الشرك لها تاريخ أكثر قدماً من الأفكار التوحيدية.
يُمكن الإجابة عن السؤال السابق بطريقين مختلفين:
- الطريق التاريخي، وبالاتكاء على الأسناد والمدارك.
- الطريق الكلامي، وبالاتكاء على الأدلة الدينية.
و البحث التاريخي خارج محدودية هذا الكتاب وينبغي لمن يطلبه الرجوع إلى التحقيقات المتعلقة بتاريخ الأديان أما في البحث الكلامي لهذه المسأله فينبغي أن يقال: إن الإسلام يؤيد الرأي الأول، فيرى أن التوحيد هو مقدم تاريخياً على الشرك.
فيبدأ تاريخ البشرية بالتوحيد وينتشر الشرك بالتدريج، كانحراف فكري وعملي في المجتمعات الإنسانية، من أهم الأدلة على هذا المدعى أن أول موجود بشري هبط على الأرض كما جاء في التعالىم الدينية هو آدم(ع) يُعد من أنبياء الله المنادين للتوحيد! إذن: الفكر التوحيدي قد انوجد مع ظهور أول إنسان، ولكن بسبب شرك وانحراف جماعة من الناس أدى إلى تأثير بعض العوامل النفسية والاجتماعية ومن ذلك الزمان وحتى اليوم استمر بقاء التوحيد والشرك إلى جانب بعضهما في طول التاريخ. كذلك قد ينتخب نبي من طرف الله حتى يواجه الشرك ويطلع المشركين على انحرافاتهم حتى - وفي الختام - جاء دين الإسلام! الدين الخاتم الذي حمل أعمق تعالىم التوحيد التي يحتاجها البشر سواء في البُعد العلمي أو في البُعد العملي ووضعها بين يدي الإنسان، هذا تصوير إجمالي لتاريخ التوحيد والشرك في نظر الإسلام والأدلة الدينية - القرآن والسنة –
من جهة أخرى إن أصل كون التوحيد فطري - الذي أشرنا له سابقاً - يؤيد نظرية التقدم التاريخي للتوحيد على الشرك. وبالتوجه إلى هذا الأصل فلا مجال إلى وجود هذا الادعاء أن الناس الأوائل كانوا مشركين وبعد مرور فترات زمنية وبسبب عوامل خارجية - مثل التعامل الفكري - اتسع الفكر التوحيدي بالتدريج بين الناس، ولكن لم يكن هناك أي ظهور وعلامة التوحيد ولو في بعض الأفراد بين الناس، على هذا الأساس فطرية التوحيد تقتضي عدم اختصاص الإعتقادات الدينية بالفترات الزمنية المتقدمة للتاريخ البشري وعدم مسبوقيتها بالشرك من الجهة التاريخية.
سؤال آخر قد يُطرح أحياناً في البحث التاريخي للتوحيد والشرك وهو اكتشافات علماء الآثار قبل أن يكون حاكياً عن رواج العقائد التوحيدية بين الأقوام القديمة والمجتمعات الإنسانية الأولى، فإنه يرفع الستار عن عقائد وآداب ورسوم الشرك، كشف بقايا عبدة الأصنام القديمة، يُبين بوضوح وجود عقائد الشرك بين الأقوام السابقة، ولكن في المقابل عدد الاكتشافات التي تحكي عن رواج العقائد التوحيدية قليل جداً ولا يُعدّ شيء! على هذا ألا يُمكن أن نستنتج أن الأقوام الأولى عموماً كانوا مشركين وأن وجود العقائد التوحيدية بينهم هي حالة استثنائية؟ في الجواب عن هذا السؤال يجب أن لا نغفل عن واقعية خارجية لا تقبل الإنكار، وهي أحد الفروق الواضحة بين حياة الشرك والتوحيد في الآثار والمظاهر المادية الملموسة لهما، فالشرك من جهة أنه غالباً يصاحبه عبادة آلهة مادية ومحسوسة وقابلة للتجسيم لذلك تبقى منه آثار مثل الرسوم التي تصور الآلهة والأصنام المصنوعة من الحجر والخشب و... معابد الأصنام الصغيرة والكبيرة، ولكن الحياة التوحيدية فمظاهرها المادية أقل بكثير، يستطيع الإنسان أن يعبد الله الواحد اللا محسوس بدون أن يترك علامة أو أداة مادية، على هذا الأساس لا يُمكن استنتاج عدم شيوع الاعتقادات التوحيدية بين الأقوام التاريخية الأولى فقط بسبب كثرة البقايا الدالة على حياة الشرك؛ بل قد يستفاد من بعض الأدلة الدينية وبالأخذ بعين الاعتبار كل تاريخ البشرية أن عدد المشركين أكثر من عدد الموحدين فإن ردة الفعل الظالمة لأكثر الأقوام التي يبعث لهم أنبياء إلهيين يحكي عن أن تعالىم الأنبياء لم تحض بقبول أكثر الناس حيث يرجحون الشرك على التوحيد لأعذار واهية إثر عوامل مختلفة.
القرآن من جهة يُبيّن أن كل الأنبياء منادون بالتوحيد، كما في الآية ۳۶ من سورة النحل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ[٩] ومن جهة أخرى يحكي أن كل الأنبياء بدون استثناء كانوا موضع سخرية واستهزاء أممهم وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[١٠] وعلى كل تقدير فإنه بالإستفادة من بعض الآيات يمكن أن يُقال: إنه في المجموع كان عدد المشركين أكثر من الموحدين، لكن من الواضح أن هذا الأمر لا يلزم تقدم الشرك تاريخياً على التوحيد، كما أنه يتناسب مع أصل فطرية التوحيد كذلك.[١١]
علل وعوامل ميل الإنسان إلى الشرك
ذكرنا أن الرؤية التوحيدية عُجنت مع الطبيعة الإنسانية، كما بدأ تاريخ البشرية مع التوحيد، وبناءً على ما ذُكر يُطرح السؤال التالي: ما هي العوامل التي سببت خروج الإنسان عن مسير الفطرة وسيره في طريق الشرك وتقييم تاريخه بمظاهر الشرك وعبادة الأصنام؟ في الإجابة عن هذا السؤال نشير إلى بعض أهم عوامل ميل الإنسان إلى الشرك:
- أن الإنسان موجود ذو بعدين: بالإضافة إلى الساحة المادية، له ساحة أخرى غير مادية، بل روحية، فالإنسان منذ ولادته يجد في نفسه عالم المادة والطبيعة ودائماً هو منشغل بالأشياء المحسوسة، الحضور المستمر في عالم الطبيعة يسبب أُلفة الكثير من الناس بالمظاهر المادية والغفلة عما وراء الطبيعة، وعندما يشتد هذا الأنس والألفة يميل للمعبود المحسوس. وهكذا فالميل إلى عبادة الإله الذي يُمكن أن يتعلق به حسيّاً يكون أشد. ولهذا السبب، يصنع جماعة من الناس مجسمات بعنوان مظهر من معبودهم وبالتدريج أصبح هناك أصالة لصناعة الأصنام بين الناس واتخذوها معبوداً لهم، بعبارة أخرى؛ الميل الفطري الأساسي للعبادة يصاحبه أنس بالمحسوس وميل إلى المعبود المحسوس والذي حثهم (أدى بهم) على عبادة الأشياء المادية.
- من عوامل الميل إلى الشرك التنوع في مظاهر الطبيعة الموجودة في العالم، عندما يفتح الإنسان عينيه يرى أنواع مختلفة من الموجودات حوله مثل: الجبال البخار النجوم النباتات الحيوانات، وأحياناً يشاهد نزاع بعض منها واختلافها فيما بينها، فينفعل من هذا التنوع وقد اعتقد بعض الناس أن لبعض هذه الظواهر خالقاً ومدبراً مستقلاً عن خالق الموجودات الأخرى، هذا التصور أدى إلى عقائد الشرك. مثلاً: تصور البعض أن إله المطر غير إله الرياح وكل منهما أيضاً غير إله البحار، الإعتقاد بانفصال إله الخير عن إله الشر كذلك نابع من هنا! أحياناً يعتقدون أن نفس الظواهر هي الآلهة مثلاً: في الكثير من الأديان المشتركة في التاريخ، فإن السماء والأرض والشمس والقمر و... كان كل منها إله مستقل (و ليس ظاهرة طبيعة تحت أمر الله وتدبيره).
- جهل الإنسان بماهية الموجودات الطبيعية والعلاقات القائمة بين الظواهر المادية من العوامل التي تؤدي إلى الميل للشرك، المثال البارز لهذه المسألة يُمكن أن يُلحظ في عقائد بعض الأقوام القديمة حول الأجرام السماوية في نفس الوقت الذي لم تتطور فيه العلوم التجريبية والطبيعية، كانوا يتصورون أن بعض الأجرام السماوية أثر في حياتهم ومعيشتهم، مثلاً: كانوا يرون أن نور الشمس مؤثر في نمو النبات، وأن لحرارتها أثر في إيجاد الدفء الذي يحتاجونه، ولأنهم لم يكن لديهم اطلاع عن العلاقة الطبيعية بين الظواهر وكذلك عن حقيقة الأجرام السماوية، فقد تشكل هذا الاعتقاد بالتدريج وهو أن للأجرام المذكورة نوعاً من الربوبية بالنسبة إلى الظواهر الأرضية، وأنها تتصرف في أمورها بإرادتها واختيارها، ومن هنا يجب عبادتها لجلب عنايتها والاستفادة من طاقتها وفي مواقع اللزوم وتقديم القرابين لها.
- العامل الرابع للميل إلى الشرك هو الفهم غير الصحيح لعلاقة الإنسان بالإله المُتعال، الناس من جهة إعتقادهم أنه معبودهم الحقيقي وبحكم الفطرة، فهو موجود متعالى ومقدس خارج عن محدودية الماديات، وعلى هذا الأساس يظهر هذا التصور في أذهان بعض الناس أنه لا يُمكن رؤيته ولمسه. ولا يُمكن تكوين أي علاقة خاصة معه، من جهة أخرى طلبهم الجدِّي هو تكوين هذه العلاقة مع آلهتهم، أن يحكوا له حاجاتهم... وعندما يرتكبون الخطيئة يبدِّلون غضبه بالرضا ولكن لأنهم كانوا يرون أن العلاقة المباشرة مسدودة اتخذوا موجوداتاً بعنوانها واسطة بينهم وبينه، الموجودات التي من جهة مع الإنسان ومن جهة أخرى هي متعلقة بالله ويُمكنها أن تلعب دور الشفيع والواسطة الأصل، ثم أخذ الدعاء معهم يتحول بالتدريج إلى عبادتهم وانتشرت عبادة الإله الأعلى، التي هي الدرجة الثانية التي هي واسطة الإنسان مع الله المُتعال.
- من العوامل الأخرى للشرك والتي لها جنبة إجتماعية هي أن دعم المقتدرين والجبابرة في المجتمع، يُساعد على تثبيت حاكمية القدرة غير الإلهية على الناس وتحقق أهدافهم في الاسعتلاء على غيرهم، فإذا انتشرت تعالىم التوحيد بآثارها العميقة في ساحة العمل والسلوك الفردي والإجتماعي للناس فإنه سيواجه الظالمين خطر حقيقي. الموحد الحقيقي الذي يعتقد بأن الحاكمية، الربوبية، التشريع والتقنين من شؤون الله الواحد وأولياءه الذين اصطفاهم، لا يمكن أن يستسلم للطاغوت أو يعترف بحاكميته، وقد يكون هذا هو السبب في دعوة الأنبياء الناس بالابتعاد عن الطاغوت مباشرة بعد دعوتهم للتوحيد وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ...[١٢]، فمن الطبيعي أن يسعى الحكام غير الإلهيين في نشر وإشاعة القيم غير الإلهية في المجتمع وذلك بترويج عقائد الشرك بل إنهم عندما يجدون أن الأرض مهيئة لهم يدَّعون الربوبية والألوهية كذلك وأن ما تحتهم هم عبدتهم، لذلك نجد مخالفة تاريخية طويلة للأنبياء وأتباعهم الصادقين، وذلك بسبب الضعف النفسي والشخصي لبعض الناس جعلهم لا يقبلون بدعوة الأنبياء[١٣].[١٤]
الشرك والمعصية
إننا بحاجة إلى بحث مفصل لآثار الشرك في مختلف شؤون حياة الناس. ونكتفي هنا بذكر منشأ كل الذنوب والخطايا الإنسانية، فإنها تعود للشرك في النهاية. المعصية عبارة عن إطاعة أوامر موجود غير الله، بحيث لا تكون أوامره ترضي الله سبحانه. هذا الموجود قد يكون الشيطان، هوى النفس، أو الناس الظالمين الذين يدعون الآخرين للمعصية، هذه ليست إلا ترك أمر الله، واتباع غير الله!. ومن هنا، فإن أصل كل المعاصي تعود إلى الشرك في الإطاعة. ولكن الإنسان الذي يتعلق في العمل بأصل التوحيد في الإطاعة فإنه لا يتبع أوامر أي موجود آخر غير أمر الله وأمر من في اتباعهم رضا الله. ومن البديهي أنه لن يتلوث - هكذا إنسان - بأي ذنب أو معصية أو ابتعاد عن أمر الله.
بالتأمل في سعة التوحيد يتضح أن الشرك هو أصل منبع كل الذنوب وفي المقابل التوحيد الأصيل يجعل الإنسان قادراً على ترك المعاصي ويحصنه من اتباع غير الله[١٥].[١٦]
الشرك في القرآن والروايات
بين كلاً من القرآن والروايات الشرك بإزاء بيان التوحيد وأثبتا بطلانه بتعابير مختلفة، كما أشارة إلى عوامل وآثار الشرك وخصوصيات المشركين ومصيرهم، ونظراً إلى سعة هذا البحث، نكتفي بطرح بعض النقاط:
نفي الشرك مطلقاً
يُصرح القرآن في بعض الآيات بنفي وجود أي شريك لله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[١٧]، فالنبي(ص) مأمور أن يعلن - بعد اظهار كمال الإخلاص والعبودية - بأن لا شريك مع الله. عبارة لَا شَرِيكَ لَهُ مطلقة ومن هنا ينتفي فرض الشريك الله من كل جهة، فيمكن اعتبار هذه الآية نافية للأقسام المختلفة للشرك (الشرك الذاتي، الشرك الفعلي، الشرك في العبادة و...) نعم، الله منزه من كل شريك ومثيل. جاء في آيات أخرى كذلك تأكيداً على نفي الشريك في الملك وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ[١٨].
الشرك، اعتقاد لا مبني له
يرى القرآن أن الشرك فاقد لأي مبنى معقول ومنطقي، جاء في سورة الحج: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا[١٩]، فالقرآن يؤكد على ذلك في عدة آيات[٢٠]، ولكن كيف أشرك كثير من الناس على مر التاريخ؟ سوف تأتي الإجابة عن هذا السؤال في بحث عوامل الشرك.
الشرك ذنب لا يُغفر
جاء في القرآن أن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يُغفر، مثلاً: في سورة النساء الآية ۴۸: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا[٢١]، حيث إن قبح الشرك وصل إلى حد فصله عن بقية الذنوب مهما كانت عظيمة! وإن وضعت الذنوب في كفة والشرك في الكفة الأخرى لثقلت كفة الشرك[٢٢].
نهاية الشرك
يُشير القرآن الكريم لإنذار المشركين ويُحذر من عواقب الشرك. أحد الآثار الهدامة للشرك (حبط الأعمال)، الحبط بمعنى: خسران الثواب وأجر الخيرات وبطلان آثارها ونتائجها المثبتة، فإذا صرف الإنسان كل عمره في عبادة الله والعمل الصالح وفي آخر عمره أشرك للحظة ورحل عن هذه الدنيا مشركاً تُمحى كل أعماله! وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[٢٣] والمخاطب الحقيقي في الآية هم أمم الأنبياء ولكن تأكيداً على آثار الشرك السيئة يذكر أنه حتى بفرض المُحال لو أن الأنبياء أشركوا فإن كل أعمالهم الخيرة ستمحى ولن يروا إلا الخسران والضرر.
و جاء في آية أخرى أن نهاية المشركين ليس إلا الجحيم: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[٢٤].[٢٥]
عوامل الشرك في القرآن
التوحيد ممزوج بالفطرة وبينا ذلك بالأدلة العقلية والآن نطرح السؤال: لمإذا ينحرف جماعة من الناس عن مسير التوحيد إلى الشرك؟ يعدد القرآن عوامل الشرك، والتي سوف نشير اليها باختصار:
اتباع الأهواء الباطلة
الشرك فاقد لأي مبنى معقول وميل المشركين لا لبرهان ودليل بل هو نابع من الظن والاحتمال الباطل والتصور الذي لا أساس له.
فيمكن أن يُقال: إن أحد عوامل الشرك اتباع التصورات الباطلة، ومن الآيات التي تحكي ذلك: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ[٢٦]، تؤكد هذه الآية على المالكية المطلقة لله أولاً، وأن كل الموجودات السماوية والأرضية في دائرة مالكيته وحاكميته (هذا الاعتقاد هو مورد قبول المشركين أيضاً)، ثم يخبر بأن المشركين لا يتبعون شركاء الله[٢٧]، لأنه لا شريك ولا مثيل لله، وإنما معبوداتهم هي من صنع تصوراتهم؛ بل إنهم اتبعوا الظن وتصورات أنفسهم واختاروا الشرك على أساس الحدس والتخمين.
يؤكد القرآن الكريم على أن المنبع الأصلي لانحراف الإنسان عن مسير التوحيد وميله إلى الشرك هو نفس اتباع التصور الباطل؛ لأن الشرك فاقد لأي مبنى عقلي وعلمي وجاء هذا البيان أيضاً في الآية وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ[٢٨]، بعد ذكر انحراف عبدة الأصنام في الآيات السابقة لهذه الآية، قيل: إن المقتدى الوحيد للمشركين هو ظنهم وأوهامهم الباطلة.
و يرفع القرآن الستار عن هذه الحقيقة في مكان آخر فيذكر أن اتباعهم للخيالات الباطلة ناشئ من هوى أنفسهم، فعبدة الأصنام هي عبادة للهوى وبقية الأصنام هي وليدة هذا الصنم الكبير: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ[٢٩].
الغرق في الماديات والغفلة عما وراء الطبيعة
العامل الآخر لميل الإنسان إلى الشرك وعبادة الأصنام والذي له أثر كبير هو استقرار الإنسان في عالم الحس والغرق فيه بحيث يغفل بالكامل عما وراء المادة وعالم المجردات، أو ينكر وجوده أصلاً.
القرآن يُشير إلى هذا العامل الأساسي بذكر أمنيات المشركين غير المقبولة، الأمنيات التي تحكي عن ماديتهم في باب معرفة الله، مثلاً: يذكر القرآن أن المشركين يطلبون مشاهدة الملائكة، بل أكثر من ذلك فقد طلبوا رؤية الله: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا[٣٠] من البديهي أن هكذا طلبات - ليست في محلها - نابعة من محدودية الرؤية الكونية المادية وهذا الأمر لا يختص بمشركي العرب، بل نرى اليوم بعض العلماء الحسيين يعلنون بغرور وتجبر أننا لم نجد الله في المختبرات، ولذلك لن نؤمن به!. بعض الآيات أيضاً أشارت إلى طلبات أهل الكتاب غير المعقولة من الرسول(ص) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ[٣١] وفي بيان طلب أهل الكتاب قال جماعة من المفسرين: إن المقصود هو أن ينزل عليهم كتاب من السماء بحيث يمكنهم رؤية ذلك بأعينهم ولمسه بأيديهم. وترى جماعة أنهم أرادوا النزول الدفعي للقرآن، فأجابهم القرآن بأن هذه الحجة ليست جديدة، فبنوا إسرائيل طلبوا من موسى(ع) صراحةً أن يروا الله بأعينهم المادية، ثم جاء في الآية أنهم بعد أن يئسوا من رؤية الله الحسية عبدوا العجل وابتلوا بعبادة الأصنام والشرك. كما استفاد فرعون من الروحية الحسية للناس للقضاء على دعوة النبي موسى(ع) وأمر هامان أن يبني برجاً، فربما يتمكن أن يشاهد الله أعلى البرج! وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ[٣٢]، لا شك أن منشأ هذا الكلام الصادر من فرعون ليس الاعتقاد السابق لأنه يعلم جيداً أنه ليس هو إله الناس وأن إله موسى ليس مادياً ساكناً في السماء، مع فإن إظهار هذا الأمر من فرعون حاكٍ عن سيطرة التفكر الحسي على المجتمع المشرك في مصر ذلك اليوم؛ لأنه إذا لم تكن الأرضية مناسبة لتأثير هذا الكلام على الناس لما أظهره قطعاً. بعض آيات القرآن الأخرى تكشف عن العقائد المادية لمشركي العرب بتفصيل أكثر، مثلاً: جاء في سورة الإسراء: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[٣٣] تشير الآية إلى أن المشركين بحثاً عن عذر طلبوا أمور لا أساس لها، مثل: تفجير ينبوع ماء من أرض مكة اليابسة وضمن هذه الطلبات العجيبة، طلبوا من الرسول(ص) أن يحضر الله والملائكة أمامهم حتى يشاهدوهم. الطلب الأخير يؤكد على اعتقادهم بجسمانية الله والملائكة وإمكان مشاهدتهم بالحس. فيتحصل من مجموع الآيات المذكورة أن المادية أحد الأصول الأساسية للميل إلى الشرك ومقاومة دعوة الأنبياء للتوحيد.
المنافع الخيالية
الإنسان موجود باحث عن المنفعة وكثير من فعالياته يقوم بها لكسب المنافع، ولكن كثيراً ما يتفق أنه لا يستطيع تشخيص منافعه الحقيقية ويتصور بسبب الجهل أن علل الضرر والخسران مفيدة ونافعة، يرى القرآن أن البحث عن المنافع الخيالية الموهومة هو أحد عوامل الميل إلى الشرك، ويشير إلى ذلك في آيات عديدة، ومن أهم منافعهم الخيالية:
- الشفاعة عندالله: حيث يرجون الشفاعة من آلهتهم، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[٣٤] هذه الآية تنفي أي دور وتأثير للأصنام وآلهه المشركين في نفعهم وضررهم، ثم تتحدث عن اعتقاد المشركين بشفاعة آلهتهم وبهذا البيان أنه هكذا أمر (شفاعة الآلهه) ليس له واقعية خارجية، يبين خطأ الاعتقاد المذكور.
- النصرة: الإنسان في حياته الدنيوية يواجه الكثير من المشاكل والصعوبات فيقوم جماعة بعبادة من يزعمون أنهم قادرين على نصرة باقي مخلوقات الله، فيعد القرآن الكريم أمل المشركين بالاستفادة من نصرة آلهتهم أحد العوامل المهمة للميل إلى الشرك، مثلاً جاء في سورة يس الآية ۷۴: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ[٣٥].
- العزة: أحد منافع المشركين المنتظرة من آلهتهم أنهم مصير عزتهم ويشير القرآن إلى ذلك وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا[٣٦].
هوى النفس والوساوس الشيطانية
من العوامل الأخرى للميل إلى الشرك والتي ذكرت في القرآن الكريم عبادة الهوى واتباع وسوسة الشيطان، مثلاً: عندما سأل موسى(ع) السامري عن هدفه من صناعة العجل ودعوة الناس لعبادته قال: قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي[٣٧]، فبعد أن وضح السامري عمله اعترف أنه كان تحت تأثير نفسه الأمارة ولذلك تلوث بعبادة الأصنام، من جهة أخرى يقول الهدهد بعدما أخبر سليمان(ع) عن عبادة قوم سبأ للأصنام: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ[٣٨].
تقليد الآخرين
من أهم عوامل الشرك وعبادة الأصنام تقليد الناس للقدماء من قومهم تقليداً أعمى واتباعهم عن جهل، أهمية هذا العامل وصلت إلى أن نفس المشركين يؤكدون على أنه مبنى ودليل شركهم. بين القرآن تأثير عامل التقليد في عدة آيات، في سورة الزخرف، أولاً يُبين أن مشركي العرب يوجهون عبادتهم للأصنام بالتوسل بمذهب آباءهم بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ[٣٩][٤٠] ثم يصرح القرآن بأن تقليد الآباء لا يختص بمشركي زمان الرسول(ص)، بل هي مسألة عامة وجارية في كل قوم: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[٤١]. بعض الآيات تشير إلى تقليد مشركي قوم بعينه لآبائهم، مثل قوم إبراهيم، هود، صالح، نوح، وموسى(ع)، الحاصل أنه في نظر القرآن، الأنس والألفة بعقائد المشركين التي كانت في النسل السابق وبالاتباع المتعصب لأفكارهم كان أحد العوامل المهمة في انتشار ودوام الشرك في المجتمعات البشرية.
كما أن بعض الآيات تدلنا على تأثير عوامل أخرى - غير ما ذُكر - في ظهور وتنامي عقائد الشرك، نمتنع عن ذكرها رعاية للاختصار.[٤٢]
مواجهة القرآن للشرك من كل الجهات
أكثر الطرق عقلانية لمواجهة ظاهرة من الظواهر، المواجهة بالعلل والعوامل. فالقرآن بالإضافة إلى ذكر عوامل الشرك نهض لمواجهة كل عامل منها بشكل مستقل، وهذه الحقيقة تُبين جامعية القرآن واتقانه التعالىم وهدايته، يؤكد القرآن من جهة على عدم كفاية الظن والاحتمال ويدعو الإنسان إلى اتباع العلم واليقين ومن جهة أخرى يبين للإنسان حقائق ماوراء الطبيعة ويسعى سعياً حثيثاً ليخرج الإنسان من ضيق العالم المادي والطبيعي إلى عوالم ما فوق الطبيعة، ويحذره من اتباع الرؤية الكونية الحسية. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن في عدة آيات على عجز الأصنام وآلهة المشركين وأنه لاجدوى من عبادتهم ويذكر شواهد ملموسة على أنه لا واقعية لأي منفعة من تلك المنافع التي يرجوها المشركون، كما يصر القرآن على عدم قبول التقليد الأعمى للعاصين، ويذكّر باحتمال خطأهم ويثبت أن هذا التقليد ليس له أي مبنى محكم ومعقول. بهذا الترتيب، يتضح بالمرور على آيات الكتاب الحكيم أن القرآن الكريم من جهة يعرض تحليل شامل للعوامل النفسية والاجتماعية للشرك ومن جهة أخرى يواجه عملياً مواجهة استئصالية وشاملة للعوامل المذكورة.[٤٣]
مقالات ذات صلة
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٦١.
- ↑ الآية ۳۱ من سورة التوبة، تبين عقيدة المسيحيين في علمائهم بأن لهم نوع ربوبية عليهم، وتمت الإشارة إلى هذه المسألة في بحث التوحيد في الإطاعة.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٦١-١٦٥.
- ↑ سورة الفرقان: ۴۳.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٦٥-١٦٦.
- ↑ إن التلازم بين أنواع التوحيد المذكورة لا يعني أن من يعتقد بأحدها لابد أن يعتقد بباقي الأنواع بالضرورة، لأنه كما اتضح من الأبحاث السابقة أنه قد يؤمن أحدهم بالتوحيد في الخالقية لكنه يشرك في الربوبية، بل المقصود من هذا التلازم أن من يتامل بإنصاف في أحد هذه الفروع يرى هذا التلازم فيما بينها، ولذلك نجد القرآن يدعو المشركين في بعض أنواع التوحيد إلى التأمل في لوازم عقائدهم والالتفات إلى أنه إذا كان خالق العالم واحد فإن مدبره لابد أن يكون واحداً قطعاً.
- ↑ يُمكن مراجعة: سورة الأعراف: ۱۱-۱۸؛ سورة الحجر: ۳۹؛ سورة ص: ۷۳-۸۳، وللتوضيح أكثر، يُمكن الرجوع إلى: معارف القرآن، ج۱-۳، ص۵۵-۶۶.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٦٦-١٦٨.
- ↑ سورة النحل: ۳۶.
- ↑ سورة الحجر: ۱۱؛ وسيأتي بيان كيفية مواجهة البشر إلى أنبياء الله في بحث النبوة.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٦٩-١٧٢.
- ↑ سورة النحل: ۳۶.
- ↑ ذكر القرآن في عدة آيات أن تأييد الجبابرة والطواغيت من الشرك، ومن الأمثلة البارزة قصة فرعون ومخالفته إلى النبي موسى(ع).
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٧٢-١٧٥.
- ↑ يرى العلامة الطباطبائي أن الكفر أيضاً ناشئ من الشرك ويبين ذلك ببيان بديع، ويعتقد أن الكافر والمنكر لوجود الله هو مشرك في الحقيقة، لأنه جعل مدبر العالم شيء، كالمادة أو الطبيعة ومن جهة أخرى، فهو يعترف بوجود الله بالفطرة، فالملحد أيضاً بلحاظ حكم الفطرة، في الواقع، هو مشرك في الخالقية وفي الربوبية. يمكن الرجوع: الميزان، ج۱۳، ص۷۹. تفسير آية ۳۳ من سورة الإسراء.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٧٥-١٧٦.
- ↑ سورة الانعام: ۱۶۲-۱۶۳.
- ↑ سورة الاسراء: ۱۱۱.
- ↑ سورة الحج: ۷۱.
- ↑ مثلاً: سورة المؤمنون: ۱۱۷؛ سورة يوسف: ۴۰؛ سورة النجم: ۲۳؛ سورة الأعراف: ۳۳.
- ↑ سورة النساء: ۴۸.
- ↑ بعض المفسرين بالتوجه إلى مضمون الآية ۵۳ من سورة الزمر: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فيعتقدون أن المقصود من الآية ۴۸ من سورة النساء أنه إذا لم يتب المشرك، فلا تقبل شفاعة أحد في محو هذا الذنب، بخلاف الذنوب الأخرى التي قد تغفر بالشفاعة وبدون توبة.
- ↑ سورة الزمر: ۶۵.
- ↑ سورة المائدة: ۷۲.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٧٧-١٧٩.
- ↑ سورة يونس: ۶۶.
- ↑ يبتني هذا المعنى على أن (ما) في العبارة مَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ... هو حرف نفي. ولكن يوجد هذا الاحتمال أيضاً أن (ما) للاستفهام أو موصولة، فسوف يختلف معنى هذا القسم من الآية في هذه الحالة.
- ↑ سورة يونس: ۳۶.
- ↑ سورة النجم: ۲۳.
- ↑ سورة الفرقان: ۲۱.
- ↑ سورة النساء: ۱۵۳.
- ↑ سورة القصص: ۳۸.
- ↑ سورة الإسراء: ۹۰-۹۱.
- ↑ سورة يونس: ۱۸.
- ↑ سورة يس: ۷۴.
- ↑ سورة مريم: ۸۱.
- ↑ سورة طه: ۹۶.
- ↑ سورة النمل: ۲۴.
- ↑ سورة الزخرف: ۲۲.
- ↑ و يُمكن الرجوع أيضاً إلى: سورة البقرة: ۱۶۹؛ سورة المائدة: ۱۰۴.
- ↑ سورة الزخرف: ۲۳.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٧٩-١٨٥.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ١٨٥-١٨٦.