الغضب

من إمامةبيديا

التمهيد

«الغضب»: وهو كيفيّةٌ نفسانيّة تورث عنده رؤية ما يُكره منه فيراد منه الانتقام، فثورانها يوجب ثوران الدم في الأعضاء لتقوى على القيام بالانتقام فيؤثّر على الأعضاء والجوارح فيتلاطم القلب، ويحمرّ الوجه ويضطرب الجسد، ويلتذّ من الانتقام ولا يسكن إلّابه، وإن لم يقدر عليه يهجم عليه الحزن ويصفرّ لونه وتضطرب أعضاؤه وجوارحه، ويستتر العقل ويخمد نوره بالغضب فلذا لا يؤثّر في الغضبان الوعظ والنّصيحة بل الزّجر والتّهديد.

قال الفيض الكاشاني: امّا بعد فانّ الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة إلّا أنّها لا تطّلع إلّاعلى الأفئدة وأنّها لمستكنّة في طىّ الفؤاد استكنان الجمر تحت الرّماد، ويستخرجها الكبر الدّفين من قلب كلّ جبّار عنيد كما يستخرج الحجر النّار من الحديد، وقد انكشف للنّاظرين بنور اليقين انّ الإنسان ينزع منه عرق إلى الشّيطان اللّعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[١]. فمن شأن الطّين السّكون والوقار وشأن النّار التّلظّى والاستعار والحركة والاضطراب والاصطهار ومنه قوله تعالى: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ[٢]. انتهى ما أردنا من كلامه [٣].

ثم اعلم انّ الغضب من المهلكات العظيمة وربّما ادّى بصاحبه إلى الشقاء الأبدي.

ولله درّ من قال: السّفينة الّتي وقعت في اللّجج الغامرة واضطربت بالرّياح العاصفة وغشيتها الأمواج الهائلة أرجى إلى الخلاص من الغضبان الملتهب.

وجعله مولانا أمير المؤمنين (ع) من الجنون وقال: «اَلْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ اَلْجُنُونِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌ» [٤]

وكيف لا يكون كذلك والحال أنّه يصدر من الغضبان انّه يصدر منه ما لا يصدر من الجاهل الأحمق كانطلاق اللّسان بالشّتم حتّى بالنّسبة إلى الحيوانات والنباتات والجمادات، وربّما ينجرّ شتمه إلى الرّدّة لانّه يشتم الله تبارك وتعالى ورسله وأوصيائه أعاذناالله عن ذلك.

وربّما ينجرّ إلى إفشاء الأسرار وهتك الاستار حتّى افشاء سرّ نفسه وهتك سترها كما ربّما يشتم نفسه وعرضه.

وكالضّرب والجرح والقتل بالنّسبة إلى نفسه أو إلى غيره من أقربائه والكبراء والعظماء وغيرهم. وكالكسر والانعدام حتّى بالنّسبة إلى أعزّ الأشياء عنده.

وأخيراً، فإذا لم يقدر على شيء من ذلك، يمزق ثوبه ويلطم وجهه ويضرب نفسه.

وبالجملة، يصدر منه مالا يصدر من الصّبيان مع كون الغضبان عند خمود ثورة الغضب من المشهورين عند النّاس بوفور العقل وقوّة السكينة ومن الموجّهين عند الخواصّ نعوذ بالله من الغضب الّذي يشتعل فيحرق كلّ شيء حتّى الدّين.

هذا وقد مرّ منا الإشارة مراراً إلى كون الرذائل كالفضائل ذات عرض عريض، لكلّ مرتبةٍ منها قبحها كما انّ لكل مرتبةٍ من الفضائل حسنها. نعم الرذيلة بما هي رذيلة قبيحة لا يتصور الحسن والخير فيها ولو كان من مراتبها الضعيفة، فكما لا يعقل تصوّر البرودة من النّار فكذلك لا يعقل تصوّر الحسن والكمال من الرّذيلة.

فالغضب مذموم وهو جمرة من نار جهنّم ووسوسة من وساوس الشّيطان فكيف يتوقّع أن يُشمّ منه رائحة نسيم الجنّة ونفس الرّحمن.

فما اشتهر بين أصحاب الأخلاق من أنّ لقوّة الغضب مراتب وهي الافراط والتفريط والاعتدال فيه، فالافراط منه مذموم وهو مورد كلام علماء الأخلاق، والتّفريط منه مذموم لا من باب الغضب بل بما انّه من باب الجبن والاعتدال منه فضيلة وهو من الشّجاعة، ليس بسديد لأنّ الغضب نار تشتعل عند الانتقام وحدّة تحصل من الجنون وتغطية العقل ورذيلة مانعة عن التسلّط على النّفس، إذ الغضبان لا يملك نفسه بخلاف الحليم الّذي يسلّط على نفسه ويملكها، فتلك الحالة مذمومة افراطاً وتفريطاً واعتدالًا.

فربّ حيوان له الحلم وجمعت فيه رذيلة الجبن وفضيلة الحلم وربّ حيوان اجتمع فيه الجبن والغضب، وقوّة الغضب فيه في مراتبها الأخيرة الشّديدة، وربّ شجاع له الحلم مع ذلك قد قلع مادة الغضب عن نفسه فهو مع تسلّطه على نفسه له قوّة القلب في المعارك والحروب وهو لا يخاف إلّاربّه.

ألا ترى أنّ أمير المؤمنين (ع) في غزوة خندق إذا هجم على عمرو بن عبدودّ فضربه وأسقطه على الأرض كيف شتمه عمروٌ وأساء بالنسبة اليه، فهو (ع) لم يقتله بل مكث ومدّة ثمّ قتله، ولمّا سأله رسول الله (ص) عن ذلك أجاب: إنّى خفت أن لا يكون عملي هذا لله تعالى بل يخالطه التّشفّى والانتقام إن قتلته حين شتمني وأساء الىَّ.

وقد روى عن رسول الله (ص): «الشّجاع من يملك نفسه عند غضبه» [٥] فعلى هذا الكلام المنير إنّ الشّجاعة لا تلائم الغضب.

وبالجملة انّ الجبن ليس من مراتب الغضب وكذلك الشّجاعة ليست من مراتبه، بل الشّجاعة من الفضائل والغضب من الّرذائل فكيف يمكن الجمع بينهما بأن تكون الشجاعة المرتبة الشديدة من الغضب كما يترائى من كلماتهم.

وأظن أنّ ما الزمهم على هذه المقالة، نسبة الغضب وشبهه إلى الله تعالى وإلى بعض الأنبياء والامر به في القرآن الكريم في موارد خاصّة.

قال الله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[٦]

وقال تعالى: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ[٧]

وقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ[٨]

وقال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[٩]

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[١٠]

ولكن من المعلوم أنّ المراد بالغضب وشبهه في هذه الآيات هو الانتقام فيما يحقّ فيه وهو موارد لا يليق فيها العفو والصّفح فلمّا يشبه الانتقام النّاشيء من الغضب يطلق عليه الغضب ويريد منه الانتقام فيما يحقّ فيه وهو العقاب العادل على مستحقّه، فنعوذ بالله من ذلك الغضب الّذي يصدر من قهر الجبّار على المستكبرين من العباد.[١١]

طريقة تهذيب النّفس عن الغضب

قد مرّ الكلام منّا في طريقة تهذيب النّفس وحسبك ما قلنا هناك إلّاأنّه لمّا اشتهر في كتب الأخلاق في بحث الغضب أن يُذكر فصلان فصلٌ يُخصّص بإثبات امكان إزالة الغضب عن النّفس وفصلٌ يُخصّص لارائة طريقٍ لها، فنحن نقتفى أثرهم اقتداءً بهم وتذكاراً لما مرّ الكلام فيه من إمكان إزالة مطلق الرّذائل، فنقول أمّا امكان الإزالة فمضافاً إلى ما يترائى من أحوال النّاس والأمم من كونهم في غاية الانحطاط فصاروا بتربية الأنبياء من أشرف السّعداء انّ القرآن جيئ لتهذيب النّفس وهو كتاب الأخلاق وقد يدلّ على أنّ الرّسل كلّهم بعثوا لتهذيب نفوس النّاس.

قال اللَّه تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ[١٢]

وتفسير القسط بالمساواة والعدالة الاجتماعية فقط كما يترائى ذلك من كثير من كتب التّفاسير، اختصاص بلا وجه بل الظّاهر من الآية الشّريفة أنّ الأنبياء كلّهم ارسلوا لقسط القلب أي جعله في نقطة الوسط بين الأميال والمشتهيات وهو تهذيبه عن‌الرّذائل كلّها وتزيينه بأضدادها ومن مصاديق ذلك هو القسط والعدالة الجماعيّة والقرآن الكريم أمر الناس بتهذيب نفوسهم بعد أن جاء متتالياً بأحد عشر قسماً تنويهاً على عظم شأن المأمور به، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[١٣].

وأنذر بعد ذلك إنذاراً شديداً حثّاً لهم عليه بقوله: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[١٤]

كما أنّ الرّوايات الواردة في تهذيب النّفس ووجوب بعث الناس إليه واهتمامهم به فوق حدّ الإحصاء.

فهل يعقل بعد ذلك أن يقال أنّ الرّذائل ومنها الغضب تُعدّ من طبع الإنسان وطبيعته وأنّه جُبّل عليها أو أنّ الخلق (بالضّمّ) كالخلق (بالفتح) وكلاهما لا يقبلان التغيير، فلا يمكن قلعها، بل الممكن كسر سورته وثورانه حتّى لا يشتدّ هيجانه .

وهذا الكلام خلط بين النّفس الامّارة والصّفات الرذيلة، وما لا يمكن ازالته هو النّفس الأمّارة لأنّها طبيعة للإنسان وخلق (بالفتح) له، وأمّا الصّفات الرذيلة فهي ليست من الذّاتيات بل هي قابلة للإزالة كما أنّها قابلة للاشتداد وقابلة للتّضعيف، حتّى أنّها قابلة للايجاد بعد أن لم تكن بموجودة، فربّ شخصٍ لم‌يكن متكبّراً ولكنّ العلم والّتمكّن والجاه جعله جبّاراً وأصبح من المتكبّرين كما انّه ربّ رجلٍ حليمٍ ولكن ضعف النّفس بالهرم والفقر والمصائب ابتلاه بأمراض روحيّة ومنها الغضب .

ألا سمعت قول رسول اللَّه (ص): يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: «اَلْحِرْصُ وَ اَلْأَمَلُ» [١٥]

أما رأيت في حيوتك غير الواسعة أفراداً في غاية الانحطاط ولكن بإقبالهم إلى اللَّه تعالى وإلى رجال الدين وإعراضهم عن شياطين الإنس والجنّ وعن الدّنيا الدّنيّة وزخرفها، كيف صاروا من المهذّبين ومن الأزكياء الّذين صدق عليهم قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[١٦]

وبالمآل صدق عليهم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[١٧].

وبالجملة إنّ القول بانّ الصّفات الرذيلة غير قابلةٍ للزوال يخالف الكتاب والسّنّة والعقل والمشاهَد من سيرة بعض الناس، وإن قلت تسويلات الشّيطان وخدع النّفس بل انّه وحى من شياطين الجن، لم تقل بخلاف، نعوذ باللَّه تعالى منها كلّها .

وأمّا كيفية تهذيب النّفس من الرذائل ومنها الغضب وإن كان في غاية الصّعوبة بحيث ليس أمر أشدّ صعوبة منه إلّاأنّه من الجهاد الأكبر فيترتّب عليه ثواب أعظم وأكبر من ثواب جهاد العدوّ ولو لم يصل بالمقصود ولم يقدر على إزالتها .

ولكن بالرّياضات الدّينيّة والتّوسّل إلى اللَّه تعالى بالدّعاء والإنابة، والتّوسّل إلى الأزكياء من العترة الطّاهرة (ع) خصوصاً، وأولادهم الجسمانيّة من السّادات الأبرار والرّوحانيّة وهم العلماء المتّقون الّذين رفعهم اللَّه تعالى في كتابه درجات بقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[١٨] يسهل خطبه وسيجعل اللَّه له مخرجاً وفرجاً ويرزقه الفضائل ويزول عنه الرّذائل قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[١٩]

وهذا وعد وبشارة من القرآن يدلّ على أنّ الرّياضات الدّينيّة توجب تسهيل الأمور وان يحصل الفرج والمخرج كما أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ[٢٠]، يدلّ على أنّ التّوسّل إلى العترة الطّاهرة وذرّيّتهم الصّالحة وخدّامهم الزّاكية له تأثيرٌ في هذا المضمار لايُنكر .

فعليك ثمّ عليك ثمّ عليك قبل القيام بتهذيب النّفس، بالتّقوى والارتباط والاتّصال مع اللَّه تعالى، والتّوسّل والقربة إلى رسوله والأئمة (ع) سيّما بقيّة اللَّه الأعظم روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ومن ينوب منه بالنيابة العامّة .

فعليك ثمّ عليك ثمّ عليك قبل تطرّق الطّريق بالتّوجّه إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ[٢١]

حتّى يحصل لك حالة الانقطاع والابتهال إلى اللَّه تعالى في الجملة، ثمّ يحصل لك العلم بل تيقّن بأنّه لا مؤثّر إلّااللَّه تعالى، فبهذا السّلاح تبارز إلى النّفس وتجاهدها لتهذّبها ولا ريب فيه أنّه لو لم تجد ذلك السّلاح لم تقدر على شيء أبداً .

وبعد ذلك فاجود الطّرق وأسهلها لتهذيب النّفس هو الدّفع لا الرّفع بمعنى أنّك تفوز على كلّ رذيلةٍ قبل طغيانها وثورانها، وامّا بعد التّحرّك والطّغيان فالغلبة عليها عسيرة جدّاً .

وهذا الدّفع تارة يكون بالاعراض عن موجبات الطّغيان والتّحرّك، وهذا وان كان لا بأس به إلّاأنّه كفاح منفىٌّ وهو إبعاد النّفس عن موجبات الذّنب .

فمن ترك معاشرة الناس بالترهّب فليس له موجب للغضب كما لا موجب له لارتكاب الذّنب وهذا الكفاح وان كان موجباً للاجتناب عن الغضب وارتكاب الذّنب إلّاأنّ هذا المكافح لا يقدر على إزالة قوّة الغضب وقلع مادّة الفساد بل له أن يمنع عن ثوران تلك القوّة فقط .

وأخرى يكون بإزالة تلك القوّة وهي الغاية من علم الأخلاق .

وهذا الدفع يقدّمه دفع كثير من الرّذائل كالحقد والحسد والكبر والحميّة الجاهليّة والغرور ونحو ذلك ممّا ينشأ الغضب منه، وإلى الإجتناب عن كثير من القبائح الخُلقية كاللّجاجة والممارات والهزل بالنّاس والتّعيير والا ستهزاء ونحو ذلك .

وثانياً يحتاج إلى كفاح القوّة الغضبيّة، وتلك المبارزة، بالمواظبة اوّلًا عن طغيانها وهي كظم الغيظ الّذي مرّ الكلام فيه وفي ترغيب العقل والكتاب والسّنّة اليه، وبقلع مادّته ثانياً بالتّذكّر والتّفكّر في تبعاته من القتل والضّرب والشّتم وهتك النّفسيّة وإفشاء الأسرار وهتك الاستار ونحو ذلك، وبالتّفكّر والتّذكّر في أنّ الغضبان يحلّ عليه سخط اللَّه تعالى حيث قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[٢٢] وأنّه موجب لخسران الدّنيا والآخرة .

فلو لم يكن للغضب شيء سوى العنف في الكلام والشّدّة في العمل والانتقام، حسبك أن تزيل عن نفسك هذه الرّذيلة الّتي ترتّب عليها كثير من القبائح الأُخر .

وقد مرّ الكلام في أنّ سيرة المؤمن وسنّته رفقٌ ومداراةٌ فبما أنّ الشدّة لاتجامع الرفق، لم توجد فيه، ولا في سيرته، هذا مضافاً إلى أنّ العنف والشدّة يوجبان توحّده وتفرّق النّاس عنه .

قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[٢٣].

هذا مع أنّهما يلازمان إهانة المؤمنين والفحش واللّعن والطّعن لهم وقد وردت في مذمّة تلك القبائح روايات كثيرة سيأتي ذكر بعضها . ونكتفي الآن برواية رُويت عن الصادق (ع): «عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ آذَى عَبْدِيَ اَلْمُؤْمِنَ وَ لْيَأْمَنْ غَضَبِي مَنْ أَكْرَمَ عَبْدِيَ اَلْمُؤْمِنَ»[٢٤].

وأمّا طلب الانتقام والاصرار عليه، فهو ضدّ العفو والصّفح وكذلك هو ضدّ كظم الغيظ وهو من آثار ثوران الغضب، بينما يكون بمنزلة الغذاء له فيشدّده ويحكمه، فمن أراد أن يهذّب نفسه ويزيل الغضب عنها فلا بدّله من ترك الانتقام حين طغيان الغضب وبعبارةٍ أخرى أنّ كظم الغيظ ثمّ العفو والصّفح عمّن جنى عليه، يوجب رفع هذه الصّفة الرّذيلة وغرس صفة الحلم في القلب .

وقد مرّ الكلام في أنّ العفو والصّفح يوجبان غفران اللَّه تعالى .

قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[٢٥].

ثمّ لا يخفى أنّ الغضب مذموم ولا يعقل أن يصير حسناً باعتبار المتعلّق ولو كان متعلّقه إحياء الدّين أو إعانة المظلوم فضلًا عمّا لا يُعد حسناً، بل يرجع إلى شخص الغضبان وهوائه .

توضيح ذلك: انّ الغضب كما مرّ في تعريفه هو قوّة توجب تلاطم الإنسان قلباً وجوارحاً فيستر العقل ويُسلب عن الغضبان التسلّط على قلبه وجوارحه ويصير الإنسان به في معرض الهلاك حيت يحرّكه كيف يشاء .

فبعد ذلك كيف يمكن أن يكون حسناً؟ .

وبالجملة انّ الغضب من الرّذائل والمهلكات ولا يعقل أن يؤثّر المتعلّق فيه فيكون حسناً باعتباره وان كان ذلك المتعلّق من الضّروريّات الاوّلية كالقوت والملبس والمسكن، فالغضب فيها مذموم، فمن اخذ منه مسكنه الضّرورىّ أو لباسه الضّرورىّ أو غذائه الّذي يحتاج إليه في حياته أو مائه المحتاج اليه، فلا يجوزله أن يغضب عليه وإن جاز بل وجب عليه أن يمنع الظالم عن ظلمه، والفرق بينهما واضح لأنّ الأوّل مذموم والثّانى ممدوح لأنّه من الشّجاعة وهي من الفضائل، فيكون حسناً وقس عليه ما لا يكون من الضّروريّات الاوّلية كالجاه والمال، فمنع الظّالم عن ظلمه عند التّجاوز جائز بل واجب وامّا الغضب عند سلب الجاه عنه أو أخذ ماله عنه فهو غير جايز .

وبالجملة لا فرق في مذمّة الغضب، عند الضّروريّات كالأكل والشّرب أو غير الضّروريّات كالجاه والّتمكّن .

فما يترائى من المحجّة من أنّ الغضب في الضّروريّات الاوّليّة جائز بل لا يمكن قمع أصله بل هو خلاف مقتضى الطّبع، فليس بسديد، لأنّ الحلم والتّأنّى في مثل هذه الأمور لازم حتّى يقدر على احقاق حقّه وعلى دفع المكروهات أو رفعها وعلى جلب المنافع أو حفظها .

فربّ غضب يمنع الإنسان عن احقاق حقّه وعن دفع المكروه أو رفعه عن نفسه، وعن جلب المنفعة وحفظها لنفسه، بل الغضب مانع عن أن يُفقَه قوله فيحلّ العقدة في لسانه فليس للغضبان احقاق حقّه فضلًا عن منع الظّالم عن ظلمه .[٢٦]

المراجع والمصادر

  1. حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية ج۲

الهوامش

  1. سورة الأعراف، الآية ١٢.
  2. سورة الحج، الآية ٢٠.
  3. المحجّة البيضاء، ج ٥، ص ٢٨٩
  4. نهج البلاغة، صبحي الصالح، فصار الكلم ٢٥٥
  5. جامع السّعادات، ج ١، ص ٣٢٥، آخر فصل ٢ من فصول الغضب
  6. سورة طه، الآية ٨١.
  7. سورة طه، الآية ٨٦.
  8. سورة الأنبياء، الآية ٨٧.
  9. سورة الفتح، الآية ٢٩.
  10. سورة التوبة، الآية ٧٣.
  11. حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج٢، ص ٢٥.
  12. سورة الحديد، الآية ٢٥.
  13. سورة الشمس، الآية ٩.
  14. سورة الشمس، الآية ١٠.
  15. تحف العقول، ص ٤٥ .
  16. سورة يونس، الآية ٦٢.
  17. سورة النساء، الآية ٦٩.
  18. سورة المجادلة، الآية ١١.
  19. سورة الطلاق، الآية ٢-٣.
  20. سورة المائدة، الآية ٣٥.
  21. سورة النور، الآية ٢١.
  22. سورة طه، الآية ٨١.
  23. سورة آل عمران، الآية ١٥٩.
  24. الكافي، ج ٢، ص ٣٥٠، باب من أذى المسلمين، ح ١
  25. سورة النور، الآية ٢٢.
  26. حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج٢، ص ٢٩.