المعاد

من إمامةبيديا

تمهيد

لا يخفى على أحد أهمية مسائل المعاد ومعرفة أحوال الإنسان بعد الموت والخروج من عالم الطبيعة إلا أنه من المناسب الإشارة إلى بعض أبعاد هذه المسألة.[١]

إنّ لمسألة المعاد والحياة الأخروية أبعاد متعدّدة ومتشعّبة، فقد بحث المتكلمون والفلاسفة والعرفاء المسلمون المعاد من جهات متعدّدة. وبالنظر في المصادر الكلامية القديمة والجديدة يتضح أنّ المتكلّمين لم يكن لهم نظر واحد في المسألة، فلكل مذهب كلامي إسلامي رأيه الخاص المتناسب مع مبانيه، إنّ تبيين المعاد عند بعض المتكلّمين المتقدّمين يبتني على أصول هي: إمكان (أو امتناع) إعادة المعدوم، إمكان فناء العالم الحالي وخلق عالم آخر، إمكان خرق الأفلاك، عدم تناهي القوى الجسمانية. يعتقد هؤلاء أنّ إثبات المعاد - كما جاء في دين الإسلام - لا يُمكن إلا بهذه المباني. مثلاً، يرون أنّ الإنسان يفنى بالموت وإحياؤه من جديد في القيامة - هذا ما أخبرت به الآيات والروايات القطعية - هو من سنخ إعادة المعدوم يعني إيجاد مجدّد للشيء الذي قد عُدم. بالتالي إنّ أحد مباني القبول بالمعاد هو القبول بإمكان إعادة الله للمعدوم. أيضاً ما لم نؤمن بأنّ الطبيعة غير أزلية وأنها ممكنة الفناء (المصاحب لتصدع الأفلاك) وتبدلها إلى عالم آخر فإنه لا يُمكن تصور المعاد تصوراً معقولاً[٢]. لكن يظهر أن بعض الأصول المذكورة مثل (إمكان إعادة المعدوم)[٣] (ليست مقدّمة ضرورية للقول بالمعاد، وسيأتي أنّ هناك تصورات أخرى للمعاد لا تبتني على الأصل المذكور.

بعض الأصول مثل: إمكان فناء العالم الحالي واضحة، لا تحتاج إلى بحث أو استدلال وبعضها الآخر مثل: إمكانية خرق الأفلاك الذي يُعدّ من نتاجات الطبيعيات القديمة، أثبتت العلوم الطبيعية الحديثة بطلانها، لذلك فإننا لن نبحث في هذه الأصول وسننتقل إلى آراء المتكلمين المسلمين في كيفية المعاد.[٤]

الطرق التي سلكها النبي(ص) في إثبات إمكان المعاد

عموم القدرة الإلهية

قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٥]

جاء رجل وكان منكراً للمعاد فأتى بعظمٍ ميتٍ وسحقه سحقاً وذَرَّه في الفضاء وجاء ليعترض على الرسول(ص) قائلاً: إنه مَنْ ذا الذي يقدر أنْ يحيي العظام المتناثرة الموزعة؟ قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [٦]، فقال رسول الله(ص) في صدد الجواب على هذا الاستغراب والسؤال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٧].

وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [٨]، فهذه الآيات القرآنية تركز على أنَّ الله تبارك وتعالى هو القادر المطلق وقدرته المطلقة لها مصاديق من مصاديقها قدرته على إحياء الموتى.[٩]

الخلق الأول

فالله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان من دون وجود صورة سابقة ينقش عليها أو يحاكيها ألا يستطيع أنْ يقوم بمثل هذا مرة ثانية فيجري نفس العملية؟ وقد أشار تعالى إلى ذلك في كتابه المجيد.

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [١٠].

قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[١١]

قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [١٢]، إذاً إنَّ القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني والإحياء بعد الموت. ويمكننا أنْ نتطرق إلى موضوعات معينة تؤكد على هذا الأمر لنكون على بينة من المعاد وحقيقته وأهميته.[١٣]

إحياء الأرض الميتة

أشار الله تعالى إلى مسألة إحياء الأرض بعد موتها وعلاقة ذلك بموت الإنسان وبعثه بعد الموت، فيقرن الصورة المألوفة عند الناس وهي إحياء الأرض والنبات والزهور بصورة إحياء الموتى.

قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [١٤]

قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [١٥]

قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [١٦].[١٧]

الأعمال الخارقة للعادة في الأمم السالفة

وهناك قصص عدة تناول ذكرها القرن الكريم تبين القدرة الإلهية على الخلق والبعث وما في ذلك من الآثار والدلالات على المعاد، منها:

  1. قصة أصحاب الكهف.
  2. قصة البقرة لبني إسرائيل.
  3. قصة نبي الله إبراهيم(ع) والطيور الأربعة.

فإذا كان الله تبارك وتعالى يستطيع إعطاء القدرة على إحياء هذه الطيور بعد موتها لإبراهيم(ع) وهو عبد من عباده، ويستطيع أنْ يعطي ذلك لموسى وعيسى(ع) وغيرهما من الأنبياء والأولياء، فكيف إذاً بالخالق العظيم.[١٨]

السؤال الأصلي: (إلى أين؟)

الإنسان عندما يتكامل بعض التكامل العقلي ويجرّب موارد من الموت في من حوله، يدرك أنه غير أبدي في عالم الطبيعة وسوف يترك عالم الدنيا قرُب الزمن أو بعُد، عندها يواجه الإنسان عدّة أسئلة: هل الموت يمثّل نهاية وجود الإنسان أم أنه انتقال من عالم إلى عالم آخر؟ إذا لم يكن الموت بمعنى عدم فناء الإنسان فما هي خصوصيات الحياة الأخروية؟ وما العلاقة بين هاتين المرحلتين من مراحل حياة الإنسان؟ هل يُمكننا العودة بعد الموت إلى عالم الطبيعة مرة أخرى لنستمر في حياتنا ببدن آخر؟... هذه الأسئلة وعشرات الأسئلة الأخرى تبرز في ذهن الإنسان وقلما يوجد إنسان لم يبحث عن إجابة عنها طوال عمره.[١٩]

الاهتمام التاريخي في مصير البشر

إنّ تاريخ البشر هو أفضل شاهد على أهمية دور المسائل المرتبطة بالحياة الأخروية في حياة الإنسان، حيث تدلّ الشواهد التاريخية المتعددة على أنّ الإنسان منذ بدء التاريخ اهتم بهذه المسألة سواء على مستوى الأديان الإلهية أو المذاهب البشرية. ويشهد القرآن أنّ تعاليم الحياة بعد الموت ترجع إلى زمن آدم(ع) وقد دعا كل الأنبياء - من بعده - الناس إلى الإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت[٢٠]، مثلاً قوله تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ[٢١] هناك آثار تاريخية وبعض الاكتشافات الأثرية التي تُشير إلى انتشار اعتقادات خاصّة بين الأقوام الماضين حول حياة الأموات، تلك المعلومات تدلّ على اعتقادهم بالحياة بعد الموت، ففي الأقوام والحضارات القديمة – مثل حضارة مصر، بابل، سومر، اليونان، الروم، إيران، الصين - نجد أفكار متعدّدة، مثل: تحنيط أجساد الموتى، وضع الصور والمجسّمات ومواد الغذاء ومواد التزيين في القبور، دفن أهل وأصدقاء الشخص الميت معه في القبر وغيرها، هذه الأمور كانت من ضمن الآداب التي تكشف عن اعتقادات السابقين، حيث مُزجت هذه الاعتقادات بالخرافات[٢٢].[٢٣]

دور الإيمان بالمعاد في حياة الإنسان

الإنسان موجود له غاية وهدف، فوراء أعماله الاختيارية غايات وأهداف خاصة. كما أنّ نوع تفكيره في هذه الأهداف له دور أساسي في رسم الخطوط الكلية لحياته، ولاشك أنّ أعلى أهداف كل إنسان هو الوصول إلى جوهرة السعادة، إلا أنّ البشر اختلفوا في فهم السعادة، فمن يرى انحصار حياته بالحياة الدنيوية وأنّ الموت هو نهاية وجوده فإنه يجد سعادته محدودة بهذا العالم، أما من يؤمن أنّ الموت هو ولادة جديدة ويعتقد بالحياة الخالدة بعد الموت فإنّ له تصور آخر للسعادة.

نعم، إنّ من يؤمن بالآخرة فإنه يدرك أنّ سعادته الحقيقية وكماله النهائي يتعلّق بفلاحه الأخروي، من هنا يدرك أنّ عليه العيش في هذه الحياة بحيث يصل في الأخير إلى السعادة الأخروية. هكذا إنسان يرى أنّ الدنيا مزرعة الآخرة ويعتقد أنّ الثواب النهائي لكل أعماله سيحصل عليه يوم القيامة. المعتقِد بالمعاد يرى الدنيا وسيلة وليست هدفاً وأنه لا قيمة ذاتية للحياة الدنيوية، بل هي جسر يجب أن نمرّ منه بسلام حتى نضع أقدامنا في عالم الآخرة.

ينبغي القول أنّ الاعتقاد بالمعاد وعالم الآخرة، يكون له أثر في الحياة الدنيا عندما يقترن بالاعتقاد بوجود علاقة بين الدنيا والآخرة، أي: أن يدرك الإنسان آثار أفكاره ونتائج أعماله التي سيجدها في الحياة الأخرى ويدرك أنّ سعادته وشقائه الأبديين هما استمرار لنفس الطريق الذي اختاره في الدنيا. لكن إذا لم يلتفت إلى العلاقة بين سعادته الأخروية وعقائده وأعماله في الدنيا فإنه لن يكون لإيمانه بالمعاد وعالم الآخرة ذلك التأثير المهم في اختياره لطريقة حياته.

إنّ إيمان الإنسان بالمعاد والحياة بعد الموت المقترن بالاعتقاد بوجود علاقة بين الدنيا والآخرة له دور مهم جداً في سلوك الإنسان الفكري والعملي، ومن هنا نشاهد اختلاف حياة المعتقدين بالمعاد عن حياة المنكرين له، وبالالتفات إلى هذا الدور الأساسي فإنّ العقل يُلزم الإنسان بالتأمّل في كيفية الحياة الأخروية والتحقيق في هذه المسألة بالاستفادة من المصادر الموجودة.

إنّ أهمية مسألة المعاد تصل إلى حدّ أنّ من يشك فيها أيضاً لا يجد نفسه غير محتاج إلى التفحص والتحقيق فيها؛ لأنّ مجرد احتمال وقوع المعاد وإن كان ضعيفاً إلا أنه خطير، وقوة أهمية المحتمَل (وقوع المعاد) تجعل العاقل يهتم إهتماماً جاداً بالتحقيق فيه.[٢٤]

أهمية بحث المعاد والإيمان بالحياة الأخروية في القرآن والسنة

اهتم الإسلام ببحث المعاد اهتماماً بالغاً فتناولته العديد من الآيات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فبعض الآيات ذكرت الإيمان بالمعاد واليوم الآخر إلى جانب الإيمان بالله بشكل مستقل وأكدت عليه[٢٥]. وبيّن القرآن الكريم من جهة إمكان وضرورة وقوع الحياة الأخروية بطرق مختلفة وأجاب عن شبهات منكريّ المعاد، ومن جهة أخرى بيّن في عدة آيات كيفية النعيم والعذاب الأخرويين وعلاقتهما بالأعمال الحسنة والقبيحة. لهذا فإنه بالإضافة إلى إطلاع القرآن الإنسان على أحواله الأخروية نجده يدعوه إلى العمل الحسن وترك القبيح، كما نجد معارف عميقة عن المعاد وحياة الإنسان الأبدية في روايات واحاديث النبي(ص) وأهل البيتقالب:عم.[٢٦]

أهمية أصل المعاد في علم الكلام

قام علماء المسلمين - خاصّة المتكلّمون - بتحقيقات عميقة وكثيرة – بالاستلهام من القرآن والسنة - في مسألة المعاد. وتكمن أهميتها في أنهم عدّوا المعاد أصلاً من أصول الاعتقادات الإسلامية الأساسية (أصول الدين) وجعلوه في عرض التوحيد والنبوّة، وقلما نجد متكلماً لم يبحث أصل المعاد بشكل مستقل في متونه الكلامية، ويُمكن القول أنّ الأصل المعاد موقعية ممتازة سواء في المنابع الأصلية للفكر الإسلامي - يعني القرآن والسنة - أو عند علماء المسلمين.[٢٧]

مناهج التحقيق في مسألة المعاد ومنابعه

بعض أبحاث المعاد - كما سيأتي - يُمكن التحقيق فيها بالمنهج العقلي، فنذكر أدلة عقلية، ثم نأتي بمؤيدات من القرآن والسنّة. إلا أنّ القسم الأكبر من المسائل المرتبطة بعالم الآخرة خارجة عن دائرة الإدراك العقلي والبراهين العقلية، فالطريق الوحيد للتعرف عليها هو تعاليم الوحي، فبالتالي يُمكن تقسيم أبحاث المعاد إلى قسمين: قسم يُمكن التحقيق فيه بالمنهج العقلي والنقلي، وقسم آخر لا يُمكن التحقيق فيه إلا بالمنهج النقلي.[٢٨]

تعقيد مباحث المعاد

تتميّز أكثر أبحاث المعاد بالتعقيد والصعوبة مما أدّى إلى ظهور اختلافات أساسية بين الفلاسفة والمتكلمين، في حين نجد الاختلاف أقل في الأبحاث الاعتقادية الأخرى.

يقول صدر الدين الشيرازي - الذي يعدّ من الحكماء البارزين المعروفين في العالم الإسلامي ومؤسّس الحكمة المتعالية - مُبيّناً صعوبة المعاد: إعلم أنّ اختلاف أصحاب الملل والأديان في هذه المسألة وكيفية المعاد لما لها من التعقيد والصعوبة. وكثير من الحكماء مثل الشيخ الرئيس أبو علي سينا والمعاصرين له، الذين أبدعوا في مباحث المبدأ إلا أنهم لم يصلوا إلى مبلغهم في بحث كيفية المعاد وذلك لشدة تعقيد المسألة فارتضوا بالتقليد فيها. كما أنّ بعض آيات الكتب السماوية متشابهة أيضاً في هذه المسألة، أي: أنها مختلفة في ما بينها في ظاهرها وإن كانت منسجمة لو نظرنا لها بدقّة[٢٩].[٣٠]

المعاد في اللغة والاصطلاح

إنّ مصطلح (المعاد) هو الأشهر في كلمات علماء المسلمين، هذا المصطلح يشير إلى مجموعة المباحث المرتبطة بأحوال الإنسان بعد الموت والحياة الأخروية، كما أشرنا أن علماء المسلمين عدّوه من أصول الدين. كلمة (المعاد) مأخوذة من الأصل (عوْد) بمعنى الرجوع، وقد تكون مصدراً ميمياً أو اسم مكان (محل الرجوع) أو اسم زمان (زمن الرجوع). توجد آراء مختلفة في بيان المعنى الاصطلاحي للمعاد ووجه تسميته بذلك، أحد الآراء يُشير إلى أنّ المقصود من المعاد هو عودة روح الإنسان إلى بدنه يوم القيامة، كما يُمكن القول أنّ المعاد بمعنى الرجوع النهائي للإنسان إلى مبدئه الأوّل يعني الله سبحانه وتعالى. ويُشير هذا التعريف إلى معنى عميق لكلمة المعاد، فهو بالإضافة إلى أنه يبين الحياة بعد الموت واستمرارها بعد خروج الإنسان من عالم الطبيعة فإنه يُشير إلى حركة الإنسان الصعودية إلى مبدئه ويكشف عن حقيقة أن الإنسان في نهايته يرجع إلى مبدئه ولهذا المعنى مؤيدات في الروايات.

و بالالتفات إلى اختلاف آراء علماء المسلمين في بعض أحكام الحياة الأخروية وخصوصياتها فإنه من الصعب ذكر تعريف تفصيلي ودقيق لأصل المعاد بحيث يتّفق عليه كل علماء المسلمين. إلا أنه يُمكن الاعتماد على أصول هي مورد قبول نسبي عندهم، فنعرّف أصل المعاد بشكل إجمالي بالقول: أنّ وجود الإنسان لا ينتهي بالموت، بل يستمر في عالم آخر، هناك يحاسب الإنسان على أعماله، فيدخل المحسنين الجنة ويتنعمون بالسعادة الأبدية في حين يعذّب المسيؤون في نار جهنم.[٣١]

كلمة (المعاد) في القرآن والروايات

لم تُستعمل كلمة (المعاد) في القرآن بالمعنى مورد البحث، إلا أنّ بعض آيات القرآن الكريم ذكرت الحياة الأخروية للإنسان على أنها نوع رجوع لله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[٣٢]. إلا أنّ كلمة (المعاد) ذكرت عدّة روايات منها ما رُوي عن أميرالمؤمنين(ع) أنه قال في وصاياه: «فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ»[٣٣].

الإمام علي(ع) يذكر أنّ الله هو مرجع ومعاد البشر، كما ذكر المعاد في بعض أدعية أهل البيتقالب:عم وأطلق على الآخرة (معاد): «وَ أَصْلِحْ لِي آخِرَتِيَ الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي»[٣٤].[٣٥]

المعنى العام والخاص للمعاد

بالتأمل في موارد استعمال مصطلح المعاد في المباحث الإسلامية، يُمكن التمييز بين معنيين مختلفين له: قد ينحصر البحث في الأحوال الأخروية للإنسان، وإذا بُحث عن أحوال الموجودات الأخرى فذلك غالباً من جهة ارتباطها بالإنسان. في قبال هذا المعنى الخاص للمعاد، هناك معنى أعمّ يرتبط بنهاية كل الوجود، بناءً على هذا المعنى، كل الموجودات (أعمّ مما لها روح أو ليس لها روح) ترجع في النهاية إلى مبدأ الوجود (الله).[٣٦]

العلاقة بين مبحث المعاد ومبحث معرفة الإنسان

أشرنا عندما ذكرنا المناهج والمنابع أنّ أحد المنابع المهمة هو معرفة الإنسان، هذه العلاقة تتضح أهميتها عند التأمل في أنّ المعاد بمعناه الخاص ليس إلا أحوال الإنسان بعد الموت.

من البديهي أنه ما لم يكن لدينا معرفة صحيحة بالإنسان فلن نوفّق للوصول إلى إدراك صحيح عن أحواله الأخروية، فمعرفة الإنسان هي أحد المباني والمبادئ الأساسية لمسألة المعاد. لذلك سنخصص البحث في الفصل القادم للتحقيق في حقيقة الإنسان في نظر الإسلام وعلماء المسلمين تمهيداً للمقدمات اللازمة في بحث مسائل المعاد.[٣٧]

المعاد جسماني أم روحاني؟

بالرغم من اتفاق جميع المتكلمين المسلمين على أصل المعاد إلا أنّهم اختلفوا في بيان كيفيته، وأحد أهم الاختلافات بينهم يتعلّق بجسمانية المعاد أو روحانيته. المقصود من المعاد الجسماني هو حضور الإنسان في العالم الأخروي بوجوده الجسماني، وجسمانية النعيم أو العذاب الأخرويين، أما المعاد الروحاني هو أن يستمر الإنسان في حياته الأخروية بوجوده الروحاني ويتلذّذ باللذات المعنوية أو العذاب المعنوي الروحاني، هنا السؤال الأساسي هو هل معاد الإنسان جسماني أم روحاني؟

في الجواب عن السؤال، توجد ثلاث نظريات أساسية[٣٨][٣٩]:

المعاد جسماني

بناء على هذه النظرية فالمعاد جسماني ليس إلا، ويرى أصحاب هذه النظرية أنّ المعاد جسماني فقط وينكرون تجرد الروح، وهم على عدّة أصناف:

١. الصنف الأوّل يعتقدون أنّ الإنسان يساوي البدن المادي وأنّ الموت يفني الإنسان، ثمّ يوجده الله مرة أخرى في عالم الآخرة، ومن مباني هذا الرأي (إمكان إعادة المعدوم)، فإذا تمّ رفض هذا الأصل يصبح من غير الممكن إيجاد الإنسان المنعدم بالموت، وبما أنّ قدرة الله لا تتعلق بالممتنعات فإنّ حياة الإنسان الأخروية تبقى محل تساؤل، فهم يرون أنّ المعاد عبارة عن إعادة الإنسان المعدوم إلى الوجود في الآخرة. كثير من متكلمي الأشاعرة والمعتزلة القائلين بإمكان إعادة المعدوم هم من هذا الصنف.

٢. الصنف الثاني رسموا تصوراً آخر للمعاد على أساس الاعتقاد بامتناع إعادة المعدوم، فهم يرون أنّ الموت يؤدّي إلى انفصال أجزاء البدن، ثمّ يوم القيامة يجمع الله تلك الأجزاء من جديد فترجع الحياة للإنسان، فالمعاد عندهم هو عودة أجزاء البدن المتفرقة إلى حالة الجمع ليس إلا.

و يعتقد بعض هؤلاء أنّ إثبات المعاد بالمعنى المذكور يبتني على أربع مقدمات[٤٠]، هي: تشكّل بدن الإنسان من أجزاء جوهرية لا تنعدم بالموت، بل تفقد هيئتها التأليفية فقط وتنفصل عن بعضها البعض، هناك خلاء في عالم الوجود بانتفائه لا يُمكن أن تتحرك الأجزاء المتفرقة للتآلف من جديد، الله قادر على كل الأمور الممكنة، ومنها التأليف بين أجزاء البدن التي قد تفرقت بالموت، الله عالم بالكليات والجزئيات فيشخّص أجزاء بدن كل إنسان عن غيره، وبذلك يتبيّن أنّ المعاد (بمعنى تركيب أجزاء البدن المتفرقة من جديد) هو أمرٌ ممكن عندالله سبحانه وتعالى.

هنا لم يبتن المعاد على إمكان إعادة المعدوم، فالموت لا يؤدّي إلى انعدام أجزاء البدن الأصلية حتى تحتاج إلى إيجاد آخر، بل هو مجرد تفرقة لتلك الأجزاء عن بعضها البعض، إلا أنّ هذا الرأي يرجع بنحو من الأنحاء إلى إمكان إعادة المعدوم حيث لو أننا حصرنا حقيقة الإنسان في البدن الجسماني فلا شكّ في أنّ مجرد تجميع أجزاء البدن لا يُعيد الإنسان، فينبغي أن يكون لهذا الجمع أوصاف خاصّة، تلك الأوصاف تنعدم بالموت، وإحياء الإنسان من جديد منوط بإعادة تلك الأوصاف المذكورة. بعبارة أخرى، بالرغم من أنّ هذا الرأي لم يقل بانعدام أجزاء البدن لكن الأوصاف الحاصلة من تركيب الأجزاء ستنعدم بعد انفصالها، وإنّ إحياء الإنسان من جديد يتطلب إعادة إيجاد تلك الأوصاف، بالتالي فإنّ هذا الرأي أيضاً – على خلاف تصور أصحابه - بحاجة إلى إثبات إمكان إعادة المعدوم.

٣. الصنف الثالث من القائلين بالمعاد الجسماني يرون أنّ نفس الإنسان جسم لطيف نوراني، ويقولون أنّ الإنسان في عالم الآخرة يحضر بنفس جسمانية، فالعذاب واللذة الأخرويين هما جسمانيان أيضاً. فالمعاد عندهم بمعنى رجوع النفس لله[٤١].[٤٢]

المعاد روحاني

أي: أنّ المعاد روحاني فقط، وهي نظرية كثير من الفلاسفة الذين يعتقدون بتجرّد الروح، حيث يرون أنّ روح الإنسان تتعلّق بالبدن في الدنيا لتصل من خلال تدبيره إلى بعض غاياتها وكمالاتها حيث لا طريق لها سوى هذا، والنفس بعد الوصول إلى كمالاتها المطلوبة لا تحتاج إلى البدن فيحصل الموت، فتترك النفس المجردة هذا البدن المادي إلى الأبد، لكي تلتحق بعالم المجردات وتخلد فيه. ويرى هؤلاء أنّ سعادة النفس الإنسانية تكمن في وصول قواها النظرية والعملية إلى مرتبتها الكمالية، فكمال القوة العملية يحصل بتحصيل فضائل الملكات الأخلاقية والابتعاد عن التفريط والإفراط، وكمال القوّة النظرية يكمن في تحصيل المعرفة بنظام العالم من الباري تعالى إلى مراتب الوجود الدنيا.[٤٣]

المعاد جسماني – روحاني

يعتقد بعض المتكلمين والمحقّقين المتألهين أنّ معاد الإنسان جسماني وروحاني معاً [٤٤]، حيث جمعت هذه النظرية ما سبقها، من هنا يُمكن الاستفادة من كل أدلّة النظريتين السابقتين للاستدلال على صحة هذه النظرية، أي: أنّ كل دليل أقيم على المعاد الجسماني أو الروحاني ولا يتضمن إنكار أيّ منهما فإنه يُعدّ دليلاً مؤيداً للنظرية الجامعة يعني جسمانية المعاد وروحانيته. بناء على النظرية الأخيرة، يحضر الإنسان في الآخرة بوجود (جسماني – روحاني)، أي: أنّ لحياته الأخروية بُعدان، تبتني هذه النظرية في ما يتعلّق بمعرفة حقيقة الإنسان على أنّ الإنسان موجود له ساحتان: ساحة جسمانية وساحة روحانية، كِلا هذين البُعدين يمثّلان هوية وحقيقة الإنسان، وليس لأحدهما - كالبُعد الجسماني مثلاً - عرضية مؤقتة، نعم للبُعد الروحاني نوع من الأصالة بالقياس إلى البُعد الجسماني لكن فرعية البُعد الجسماني لا تعنى بالضرورة خروجه عن حقيقة ذات الإنسان. إذا آمنا بأنّ كِلا البُعدين له تأثير على حقيقة الإنسان فلا طريق لنا سوى القبول بالمعاد الجسماني - الروحاني، لأنه من الضروري حضور حقيقة كل فرد في عالم الآخرة، ولو لم يكن كذلك فإنّ الموجودات التي تحضر في الآخرة تُغاير تلك التي عاشت مدة من الزمن في الدنيا، فلا يُمكن القول أنّ هذا الشخص هو ذاك نفسه الذي كان في الدنيا، هو الآن حاضر بين يدي الله ليرى جزاء أعماله!، فلزوم حضور تمام حقيقة الإنسان الوجودية في الآخرة يقتضى أن يكون المعاد جسماني – روحاني. من خصوصيات المعاد الجسماني - الروحاني الانسجام المعقول والموجّه بين المباني العقليّة والمضامين النقلية والوحيانية بدون الحاجة إلى تأويل الآيات والروايات.

لاحظنا في ما سبق أنّ القائلين بتجرّد الروح وقفوا بين الأدلة العقليّة القطعية التي تدلّ على تجرّد الروح وبقاءها بعد البدن وأنّ للروح المجردة لذّات وعذاب روحاني معنوي من جهة وبين الأدلّة النقلية من الآيات والروايات التي تدلّ على العذاب واللذات الجسمانية والأخروية، ومقتضى الجمع بين الأدلّة العقليّة والنقلية أن يُقال بالمعاد جسماني وروحاني معاً.[٤٥]

الدليل على المعاد الجسماني – الروحاني

لاشكّ أنّ انسجام هذه النظرية مع مباني حقيقة الإنسان، والمضامين الوحيانية هو دليل على صحتها، لكن أُقيمت بعض الأدلّة المستقلّة على صحة هذه النظرية، سنكتفي بذكر أحدها كنموذج:

يحكم العقل أنّ سعادة الروح تكمن في معرفة الله ومحبته، وأنّ سعادة الجسم تكمن في إدراك الأمور الجسمانية المناسبة، من جهة أخرى لا يُمكن الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيوية، فمن يستغرق في اللذات المعنوية يبتعد عن اللذات الجسمانية والعكس، كما لا شكّ في أنّ سعادة الإنسان النهائية تكمن في اجتماع سعادة الروح والجسم، وبما أنّ هذا لا يتحقّق في عالم الدنيا لأنه عالم محدود، كما لا مانع من تحقّقه في الآخرة، – بل هو ممكن – وبما أنّ غاية خلق الإنسان هي الوصول إلى هذه السعادة فإنها قطعية الوقوع[٤٦].[٤٧]

شبهات مرتبطة بالمعاد

اتضح حتى الآن أنّ للإنسان بُعدان وأنّ النفس الإنسانية مجردة، وبالتأمّل في الشواهد النقليّة الدالة على وجود لذّة وعذاب جسمانيين وروحانيين في الآخرة، فالرأي الصحيح هو أنّ معاد الإنسان جسماني وروحاني، فالإنسان يعيش في الآخرة روح مجردة وبدن جسماني، وكل دليل وشاهد أُقيم على المعاد الجسماني – بشرط عدم إنكاره للمعاد الروحاني - يُمكن أن يُعدّ دليلاً على صحة نظرية المعاد الجسماني - الروحاني، ويصدق عكسه أيضاً.

بما أنّ هذه النظرية تستفيد من أدلّة وشواهد النظريتين السابقتين يجب عليها أن تجيب عن الإشكالات الواردة عليهما، لأنّ كل ما يرد عليهما من إشكالات يرد على النظرية الجامعة لهما، فيجب على أصحاب النظرية الجامعة الردّ على الإشكالات حسب مبانيهم الخاصة[٤٨]:

شبهات المعاد الروحاني

الشبهات الواردة على المعاد الروحاني أقل من تلك الشبهات الواردة على المعاد الجسماني؛ ويُمكن تصنيفها إلى صنفين:

شبهات مبنائية

أهم إشكال مبنائي يرد على المعاد الروحاني يرجع إلى إنكار تجرد الروح. فمن يرفض تجرد الروح ويعدّها من الأمور الجسمانية المحضة لا مجال عنده للقبول بالمعاد الروحاني. نعتقد أنّ الأدلة العقلية والنقلية التي تمّ ذكرها في بحث تجرّد الروح تكفي في الجواب على الإشكال المذكور.

شبهات بنائية

بعض شبهات المعاد الروحاني ترد عليه حتى مع القبول بتجرّد الروح، مثلاً قد يتصور البعض أنّ الروح المجردة بعد الموت هي غير خالدة بدليلٍ ملخّصه: أنّ الروح الإنسانية ليست أزلية فبالتالي لن تكون أبدية[٤٩].

أقام بعض الفلاسفة والمتكلّمين المسلمين براهين على أبدية النفس الإنسانية، يُمكن أن تتم الإجابة عن الشبهة المذكورة بالرجوع إليها، فاستدلال الحكماء يتم على مرحلتين، المرحلة الأولى يثبت من خلالها أن النفس لا تفسد بفساد البدن وانعدامه، والمرحلة الثانية يثبت من خلالها استحالة انعدام النفس وأنها أبدية[٥٠].[٥١]

شبهات المعاد الجسماني

إمتناع إعادة المعدوم

يبتني أوّل إشكالات المعاد الجسماني على (امتناع إعادة المعدوم)، خلاصة الإشكال هو أنّ جسم الإنسان يفنى بعد الموت، وجسمانية المعاد تستلزم إيجاد الجسم بعد فنائه، هذا معنى إعادة المعدوم، وإعادة المعدوم ممتنع فالمعاد الجسماني مُحال، لأن كل فرض يستلزم أمراً محالاً فهو محال. ذكر المتكلّمون المدافعون عن المعاد الجسماني عدّة إجابات على الإشكال:

١. منهم من قال بإمكان إعادة المعدوم، فالإشكال غير وارد لأنّ الله قادر على الممكنات والمعاد الجسماني لا يستلزم وقوع أمر محال.

٢. ومنهم من قال بامتناع إعادة المعدوم، لكن يعتقد أنه في الآخرة تجتمع الأجزاء الأصلية للبدن، تلك التي تفرّقت بالموت. فقد يُقال: إنّ هذا القول بإعادة تجميع الأجزاء مرة أخرى يوم القيامة هو معنى المعاد الجسماني ولا يعني إيجاد أجزاء البدن من جديد حيث إنها لم تنعدم إنما افترقت وستجتمع، وقد يُقال: إنّه يلزم من ذلك إعادة المعدوم أيضاً حيث إنّ الهيئة التأليفيّة لتلك الأجزاء وكثير من أعراض وأوصاف تلك الهيئة قد انعدمت بالموت وستوجد مرة أخرى.

في الجواب على الإشكال الأخير، قيل بعدم لزوم عينية الهيئة التأليفية بين تلك الأجزاء المجتمعة في الآخرة وتلك الأجزاء التي كانت في الدنيا، بل يكفي أن يوجد الله هيئة مشابهة للهيئة السابقة ولا يلزم من ذلك إعادة المعدوم.

بعبارة أخرى: ملاك عينية حقيقة الإنسان الأخروي والدنيوي هو عينية الجسمانية بلحاظ المادة التي تتشكل منها أجزاء بدنه، وليس بالضرورة أن تكون له الهئية التأليفية بعينها[٥٢].

٣. البعض ممن يقول بتجرّد النفس ويقبل بالمعاد الجسماني أجاب على الإشكال بالقول أنّ تشخّص الإنسان وهويته يتم بنفسه، فالتغيرات الجسمانية التي تحدث طوال حياته الدنيوية لا تؤثّر في وحدة شخصيته، فالنفس المجردة ثابتة بالرغم من كل تلك التحولات، وثبات النفس يكفي في حفظ هوية الفرد. لذلك يمكن القول أنّ الله في الآخرة يخلق بدناً آخر تتعلّق به نفس الإنسان ولا يلزم من ذلك تبدل شخصيته، بالتالي المعاد الجسماني لا يستلزم إعادة العدوم[٥٣].

ذكر بعض فلاسفة مدرسة الحكمة المتعالية – مثل ملاصدرا الشيرازي وعلي مدرس زنوزني - تفسيراً آخر للمعاد الجسماني، يُمكن أن يكون جواباً آخر على الإشكال المذكور سنُشير إليه في بحث البدن الأخروي.[٥٤]

شبهة الآكل والمأكول

تعتبر هذه الشبهة من الشبهات الأساسية في هذا الباب وهي من أقدم الشبهات، إلا أنّ المتأخرين هم من أطلق عليها اسم (الآكل والمأكول)، ذكرت لها تقريرات مختلفة سوف نذكر تقريرين منها:

التقرير الأول: قد يتغذى إنسان من أجزاء بدن إنسان آخر، فتتبدل أجزاء بدن الثاني إلى أجزاء بدن الفرد الأول، قد يقع ذلك عن طريق أكل لحم أحد الأفراد للآخر أو بتحول أجزاء الميت إلى مواد غذائية في التربة وبعد طي مراحل تنتقل إلى بدن شخص آخر عن طريق التغذية، ويُقال للشخص الأوّل الذي انتقلت بعض أجزاء بدنه إلى بدن شخص آخر (مأكول) ويُقال للشخص الثاني (آكل)، هنا السؤال: في الآخرة عند عودة الأرواح الأبدان، هذه الأجزاء التي تبدلت وانتقلت من بدن المأكول إلى بدن الآكل هل هي جزء بدن الفرد الأول أو الثاني؟ في الجواب عن السؤال تم تصوير ثلاث فرضيات جميعها باطلة:

  1. الأجزاء المتبدلة تصبح للبدنين (الآكل والمأكول).
  2. في أحدهما فقط.
  3. ليست لأيٍّ منهما.

الفرض الأوّل باطل لأنّ تحقّق شيء واحد في آن واحدة في شخصين متباينين ممتنع، أما بطلان الفرضين الثاني والثالث فذلك لاستلزام أن يكون أحدهما (في الفرض الثاني) أو كلاهما (في الفرض الثالث) ليس هو عين بدن الشخص الدنيوي، لأنه حسب الفرض جزء منه – الجزء الذي كان له في الدنيا - لم يتم إعادته في الآخرة، ففرض انتقال أجزاء بدن إلى بدن آخر يستلزم امتناع المعاد الجسماني، وبما أنّ لهذا الفرض مصاديق ونماذج واقعية فإنّ المعاد الجسماني ممتنع[٥٥].

جواب التقرير الأول: ذكر المتكلمون طريقين مختلفين للجواب عن هذه الشبهة:

  1. أجاب البعض على أساس التفكيك بين أجزاء البدن الأصلية والزائدة، وذلك بناء على ثلاث مقدّمات:
    1. بدن الإنسان يتشكّل من الأجزاء الأصلية وهي ثابتة من أوّل حياته الدنيوية إلى زمن موته...
    2. ما يلزم في المعاد هو إعادة هذه الأجزاء الأصلية ولا يلزم إعادة الأجزاء غير الأصلية، خاصّة أنّ الأجزاء غير الأصلية تتغيّر طوال حياة الإنسان.
    3. إذا دخل جزء أصلي من بدن المأكول في بدن الآكل فإنه يتبدّل في بدن الآكل إلى جزء غير أصلي ويعود في الآخرة إلى بدن المأكول، دون أن تنقص حقيقة بدن الآكل وإذا انتقل جزء غير أصلي من بدن المأكول إلى بدن الآكل فلا ضرورة لإعادته في بدن المأكول[٥٦].
  2. في الجواب الثاني يقال: إنّ تشخّص الإنسان بروحه، فلو أعدَّ الله بدناً آخر في الآخرة هو غير مادة ذلك البدن الدنيوي وإن اتحد معه بلحاظ الصورة، يُمكن بذلك أن يقع المعاد الجسماني ويصح أن يُقال: إنّ الشخص الحاضر في الآخرة ببدنه الأخروي هو نفس الشخص الذي عاش مدّة في الدنيا.

التقرير الثاني للشبهة: من الممكن أن ينتقل جزء من بدن إنسان مؤمن عن طريق التغذية - أو أيّ طريق آخر - إلى بدن كافر، وعند تعذيب الكافر في الآخرة يلزم أن يتعذب على الأقل بعض أجزاء بدن المؤمن الذي لا علاقة له بالكفر أصلاً! وهذا مصداق من مصاديق الظلم، ولا يُمكن صدور الظلم عن الله سبحانه وتعالى.

في الجواب عن الإشكال قيل أنّ المدرِك الحقيقي للذّة والألم هو الروح وليس البدن، فالبدن ليس إلا آلة لإدراك اللذات والآلام الحسيّة، فبالتالي وجود جزء من بدن المؤمن في بدن الكافر المبتلى بالعذاب، لا يُعدّ ظلماً للمؤمن، لأنّ روح الكافر هي التي تدرِك العذاب أما روح المؤمن فإنها لا تدرِك شيئاً من العذاب بسبب وجود جزء من بدنه في بدن الكافر.[٥٧]

شبهات أخرى في المعاد الجسماني

بالإضافة إلى ما ذُكر، توجد شبهات أخرى في المتون الكلامية على المعاد الجسماني، كثير منها ليست إلا مجرد استبعاد، وتفتقر حتى إلى هيئة الاستدلال المتقَن. بعض الشبهات تبتني على أصول طبيعية قديمة ثبت بطلانها في الطبيعيات الحديثة[٥٨]، ومفاد بعض الشبهات الأخرى اتضح جوابه من خلال ما ذكرناه حتى الآن[٥٩].[٦٠]

البدن الأخروي

من المسائل المهمة للمعاد الجسماني هي ماهية البدن الأخروي وعلاقته ببدن الإنسان الدنيوي، في هذا الباب يوجد اختلاف بين علماء المسلمين، وبالرغم من تبيين أهم الآراء خلال الأبحاث السابقة إلا أنه من المناسب أن نلقي نظرة مستقلة على هذا الموضوع. لتتضح الصورة بشكل أفضل، يُمكن تصنيف أهم الآراء المتعلّقة بالبدن الأخروي كما يأتي:

  1. يعتقد بعض المتكلمين أنّ بدن الإنسان يفني بعد الموت، إلا أنّ الله يوجده مرة أخرى في عالم الآخرة، هذا الرأي يبتني على جواز إعادة المعدوم ولا يرى أيّ اختلاف بين البدن الأخروي والدنيوي، بل هما عين بعضهما البعض.
  2. أما من يعتقد بأنّ بدن الإنسان يتكون من أجزاء أصلية وغير أصلية فإنّه يعتقد بعدم فناء الأجزاء الأصلية بعد الموت، ففي الآخرة يجمع الله تلك الأجزاء الأصلية لكل بدن ويخلق أجزاءً أخرى بدل تلك الأجزاء غير الأصلية التي انعدمت لتكون للبدن هيئة شبيهة بالبدن الدنيوي، هنا البدن الأخروي هو عين الدنيوي في بعض أجزائه (الأجزاء الأصلية) ومُغاير له في بعضها الآخر (الأجزاء غير الأصلية)، كما أنّ هيئته التأليفية تشبه البدن الدنيوي وليست هي عينه، حيث يكفي اتحاد الأجزاء الأصلية للقول بالعينية بين البدنين.
  3. يعتقد آخرون بعدم ضرورة إعادة نفس البدن الدنيوي في الآخرة، بل إنّ الله يخلق أبداناً جديدة تشبه الأبدان الدنيوية وترجع روح كل شخص إلى البدن المشابه إلى بدنه الدنيوي، هنا البدن الأخروي من حيث المادة يُغاير البدن الدنيوي، ويتّحد معه من حيث الصورة. وبما أنّ تشخص كل إنسان هو بنفسه، فلا يؤثّر تغاير البدن الأخروي عن البدن الدنيوي. هذا الرأي لا ينسجم مع ظواهر بعض الآيات القرآنية التي تدلّ على خروج الناس من القبور، وإن كان أصحابها يتمسكون بالآيات التي تُشير إلى خلق (مثل) الإنسان في الآخرة.
  4. ذكر بعض الفلاسفة المسلمين تصوراً مختلفاً تماماً عن البدن الأخروي، مثلاً: ملاصدرا مؤسس الحكمة المتعالية يعتقد - بناء على مبانية الفلسفية الخاصّة - أنّ البدن الأخروي ليس موجوداً مستقلاً ومنفصلاً عن روح الإنسان ينوجد بعد إعادة البدن الدنيوي المنعدم أو تجميع الأجزاء الأصلية أو خلق بدن مادي جديد، بل هو مرتبة من مراتب الروح تظهر على هيئة بدن.[٦١]

المراجع

  1. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤١.
  2. للاطلاع على مباني ومقدّمات المعاد عند المتكلمين، راجع: السيد شريف الجرجاني، شرح المواقف، ج۸، ص٢۸۹ – ٢٩۴ وسعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص۸۲ – ۸۸؛ والفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ج۲، ص۳۹ - ۵۳؛ وفاضل مقداد، إرشاد الطالبين، ص۳۹۳ – ۴۰۶.
  3. راجع: فاضل المقداد، إرشاد الطالبين، ص۳۹۳ - ۳۹۶.
  4. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٣-٥٨٤.
  5. الأحقاف: ٣٣.
  6. يس: ۷۸
  7. يس: ۸۱-۸۳
  8. الزمر: ٦٧.
  9. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٢.
  10. الروم: ۲۷
  11. الأنبياء: ١٠٤
  12. يس: ۷۸-۷۹
  13. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٢-٢٧٣.
  14. الحج: ۵-۶.
  15. ق: ۹.
  16. فاطر: ۹.
  17. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٣.
  18. ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ٢٧٤.
  19. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤١.
  20. راجع أيضاً: سورة نوح: ۱۷- ۱۸، سورة إبراهيم: ۴۱، سورة الشعراء: ۸۵ – ۸۷، سورة العنكبوت: ۱۷، سورة الغافر: ۳۲، سورة آل عمران: ۵۵.
  21. سورة الأعراف: ۲۴-۲۵.
  22. للتوضيح أكثر، راجع: ويل دورانت، قصة الحضارة، ج۱و ج۲.
  23. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤١-٥٤٢.
  24. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٢-٥٤٤.
  25. سورة البقرة: ۶۲ و۱۷۷ و۲۲۸ و۲۳۲، سورة آل عمران: ۱۱۴، سورة النساء: ۳۹ و۵۹ و۱۶۲، سورة المائدة: ۶۹ و... .
  26. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٤.
  27. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٤-٥٤٥.
  28. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٥.
  29. صدر الدين الشيرازي، الشواهد الربوبية، ص۲۷۹.
  30. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٥-٥٤٦.
  31. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٦-٥٤٧.
  32. سورة الأعراف: ۲۹.
  33. نهج البلاغة، خ ۸۱.
  34. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج۷۸، ص۳۱۲.
  35. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٧.
  36. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٨.
  37. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٨.
  38. ذكرت خمس نظريات أساسية في باب المعاد عند المتكلمين، للاطلاع راجع: الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ص۵۵.
  39. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٤.
  40. فاضل المقداد، إرشاد الطالبين، ص۴۰۶ - ۴۰۹.
  41. راجع: الأسفار الأربعة، ج۹، ص۱۶۵.
  42. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٥-٥٨٧.
  43. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٧.
  44. راجع: التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص۸۸؛ وصدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة، ج۹، ص۱۶۵.
  45. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٧-٥٨٩.
  46. تم نقل هذا الدليل مع التلخيص والتكميل من كتاب الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ج۲، ص۷۱؛ كما ذكره ابن ميثم البحراني في قواعد المرام، ص۱۵۷. هذا الدليل ضعيف لكن تمّ ذكره للإشارة إلى أحد أدلّة المتكلمين في المسألة.
  47. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٩.
  48. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٨٩-٥٩٠.
  49. للاطلاع على تقرير مفصل، راجع: الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ج۲، ص۶۵ – ۶۸.
  50. براهين الحكماء على خلود النفس لا تخلو من التعقيد، راجع: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، السابع، (ج۳، ص٢٨۵ – ۲۹۱)؛ صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة، ج۸، ص۲۸۰ – ۳۹۰.
  51. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٩٠-٥٩١.
  52. التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص۹۴ و۹۵.
  53. المصدر السابق، كما يعد الإمام الغزالي من أنصار هذا الرأي.
  54. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٩١-٥٩٢.
  55. الجرجاني، شرح المواقف، ج۸، ص۲۹۵ و۲۹۶؛ فخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ج۲، ص۵۸.
  56. أشار المحقق الطوسي إلى الجواب المذكور بعبارة مختصرة: "و لا يجب إعادة فواضل المكلف": العلامة الحلي، كشف المراد، ص۳۱۴؛ راجع أيضاً: فاضل المقداد، إرشاد الطالبين، ص۴۱۰؛ ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص۱۴۴.
  57. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٩١-٥٩٥.
  58. فاضل المقداد، إرشاد الطالبين، ص۴۰۹ و۴۱۰.
  59. الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين، ج۲، ص۵۸ و۵۹.
  60. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٩٥.
  61. سعيدي‌مهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٩٦-٥٩٧.