المعاد في القرآن
تمهيد
العقل البشري قاصر عن إدراك كثير من أحوال الإنسان وعالم الآخرة، فلا طريق له هنا إلا الوحي، ولعل هذا كان سبباً في تصريح القرآن أو تلويحه بالمعاد في مئات الآيات القرآنية، حيث شرح أوضاع القيامة والحياة في الآخرة. ولا شك أنّ البحث في كل تلك الآيات القرآنية والروايات يحتاج إلى عشرات الكتب، لكن من باب (ما لا يُدرك كله لا يترك جله) نستذكر باختصار بعض تلك المنابع الغنيّة بالمعارف القرآنية والروائية المتعلّقة بالمعاد؛ علَّنا ننهل جرعة من ذلك المُحيط اللامتناهي. كما ينبغي التأكيد على أنّ حقيقة عالم الآخرة مجهولة لنا بالرغم من البيانات القرآنية والروائية العميقة وذلك بسبب الاختلافات الأساسية بين نظام عالم الدنيا ونظام عالم الآخرة، فإذا استفدنا من كل إمكانياتنا الذهنية والاستنباطية فإنه يُمكننا إدراك فقط شبح من تلك الحقائق، ومن خلال المفاهيم التي تستأنس بها أذهاننا يُمكن أن نرسم تصوراً إجمالياً عنها.[١]
مفردة المعاد في القرآن والروايات
لم تُستعمل كلمة «المعاد» في القرآن بالمعنى مورد البحث، إلا أنّ بعض آيات القرآن الكريم ذكرت الحياة الأخروية للإنسان على أنها نوع رجوع لله ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾[٢]. إلا أنّ كلمة (المعاد) ذكرت عدّة روايات منها ما رُوي عن أميرالمؤمنين(ع) أنه قال في وصاياه: «فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ»[٣].
الإمام علي(ع) يذكر أنّ الله هو مرجع ومعاد البشر، كما ذكر المعاد في بعض أدعية أهل البيت(ع) وأطلق على الآخرة (معاد): «وَ أَصْلِحْ لِي آخِرَتِيَ الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي»[٤].[٥]
أسماء يوم القيامة في القرآن
في الرؤية الإسلامية يُذكر أنه عند قيام الساعة تحدث تحولات عظيمة تبدأ بها حياة الإنسان الأخروية، عبّر القرآن عن تلك التحولات بما يُقارب ۷۰ تعبيراً كل منها يُشير إلى بُعد من أبعاد عالم الآخرة، وهذا شاهد آخر على اهتمام القرآن البالغ بأمر المعاد، ومن التعابير المذكورة في عدّة آيات قرآنية: يوم القيامة، يوم الحساب، يوم الدين، يوم الجمع، يوم الفصل و يوم الخلود.[٦]
أبعاد مسألة المعاد في القرآن
بحثت الآيات القرآنية مسألة المعاد من عدّة جهات، وبالتأمّل فيها يُمكن الحصول على تصور جامع نسبياً عن عالم الآخرة وحياة الإنسان الخالدة.
فبعض الآيات جاءت لتجيب عن شبهات المنكرين للمعاد، وتؤكّد على إمكانيته وتُبيّن عدم استحالة إحياء الناس من جديد. وبعض الآيات الأخرى تؤكّد على ضرورة وقوع المعاد وتُبيّن أنّ الحياة الأخروية ليست ممكنة فقط وإنما ستقع بالتأكيد، وشرحت الكثير من الآيات خصوصيات عالم الآخرة وأحواله وموقعية الناس فيه. كما أكّد القرآن على لزوم الإيمان بالآخرة وأهميته وعدّد الآثار الحسنة للإيمان به وذكر نتائج إنكار المعاد.[٧]
تبيين إمكانية المعاد
نقل القرآن ادعاءات المنكرين للمعاد في آيات متعدّدة وأشار إلى أنّ هذا الإنكار يفتقد إلى المباني المعقولة والمنطقية، حيث إنهم كانوا إما أن يكتفوا بطرح الأسئلة التي تفصح عن إستبعاد المعاد: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً﴾[٨] أو أنهم يتعجبون من أمر الحياة الأخروية ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾[٩]، كما قد يعدّون فكرة المعاد من الأساطير وخيالات القدماء وكانوا يتهمون النبي(ص) عندما يبلّغ للمعاد بالكذب والجنون ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ﴾[١٠]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾[١١]. يلاحظ أنه لا مبنى لكلامهم سوى الظن، يقول القرآن الكريم في بيان ذلك: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾[١٢]. من هنا اتبع القرآن أساليب متنوعة في بيان إمكانية المعاد وذلك لكي يقتلع جذور الشبهات والاستبعاد...، منها[١٣]:
عدم تناهي القدرة والعلم الإلهيين
من الشبهات المرتبطة بالمعاد هل الله قادر على إحياء الإنسان الذي تبدّل بالموت إلى تراب وعظام؟ في الجواب عن الشبهة يؤكّد القرآن على قدرة الله المطلقة وأنّ إعادة إحياء الموتى ممكنة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[١٤] قد تُطرح شبهة أنّ قيام القيامة يتوقف على قدرة الله على تشخيص كل بدن من الأبدان التي تبدّلت إلى تراب وهي كثيرة لا تُحصى، وعلمه بجزئيات أعمال المليارات من الناس الذين عاشوا على هذه الأرض طوال آلاف السنوات، حتى يُمكن القضاء بينهم بالعدل، الإشكال هو في إمكانية إطلاع الله على هذا المقدار الواسع الذي لا يُمكن تصوره من المعلومات.
يتضح الجواب عن هذه الشبهة بالتأمّل في علم الله اللامتناهي، علم الله مطلق، لاحدّ له ولا يقيّد بقيد، هو عالم بكل الجزئيات ولا يعتريه غفلة أو نسيان، بالتالي فإنّ الله قادر على التمييز بين كل ذرة من ذرات بدن وبدن آخر وهو عالم بأعمال الناس علماً تفصيلياً. ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾[١٥]، الآية تُشير إلى قدرة الله على خلق الناس من جديد، وتصفه بالعليم، في إشارة إلى أنّ الإقرار بعلمه المطلق لا يدع مجالاً للشك في المعاد. وقد ذُكر هذا المعنى في نفس السورة المباركة: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[١٦].[١٧]
الخلق الأول للإنسان
المنهج الآخر الذي اتبعه القرآن الكريم للقضاء على شبهات منكري المعاد هو دعوتهم إلى التأمل في الخلق الأول، وتذكيرهم بأنّ الله الذي خلق الإنسان الأوّل من ظلمة العدم إلى عالم الوجود، وهو قادر في الآخرة على إحيائه مرة أخرى وبخلق آخر، بالتالي فإنّ كل من يعتقد أنه مخلوق لله ويعتقد بخلقته الأولى لا يُمكنه التشكيك في المعاد: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[١٨]، الآية تعبّر عن إحياء الناس في الآخرة بالخلق الجديد، وتُبيّن في قالب استفهام استنكاري أنه كما أنّ الله لم يكن عاجزاً في الخلق الأوّل للناس كذلك الحال بالنسبة لخلقهم من جديد. وقد ذُكرت هذه المقارنة في آيات أخرى مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾[١٩].[٢٠]
نماذج عينية للمعاد في عالم الطبيعة
من الطرق الأخرى التي انتهجها القرآن من أجل القضاء على الغفلة أو التشكيك في إمكانية المعاد هي الدعوة إلى التدبّر في عجلة الحياة والموت المستمرة على الأرض، والتي تُعَد تجربة للموت والحياة تحصل بشكل دائم على مرأى من الناس جميعاً، فكل سنة ومع بداية فصل الربيع تنبض الحياة في أعماق الطبيعة وتكتسي الأرض بالحياة من جديد، خصوصاً مع نزول الأمطار تصبح الأرض مليئة بالطراوة ونمو الحياة وتفتح الأزهار بعد أن تجذب تلك الذرات ماء الحياة، أشار القرآن في آيات متعدّدة إلى هذه الظاهرة وعدّها آية واضحة لأحياء الموتى يوم القيامة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾[٢١]، ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾[٢٢]، من هنا يقول النبي الأكرم(ص): «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّبِيعَ فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ النُّشُورِ».[٢٣]
نماذج تاريخية للمعاد
يذكّر القرآن الكريم ببعض النماذج التاريخية التي تثبت إحياء الموتى ويعدّه رداً على منكري المعاد، لأنّ وقوع الشيء هو أفضل دليل على إمكانه، ينقل القرآن - على سبيل المثال - أحداث وقعت لرجل مرّ على قرية خربة وشاهد أجساد الموتى، فقال في نفسه كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء؟ فأماته الله وأحياه بعد مئة سنة: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[٢٤]، يذكر القرآن أحداث قوم من بني إسرائيل، تركوا ديارهم خوفاً من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾[٢٥]، لم تذكر الآية أنّ الهدف من إحيائهم مرة أخرى هو إبراز نموذج من نماذج المعاد في هذه الدنيا، إلا أنّ بعض الروايات أشارت إلى ذلك[٢٦].
نموذج آخر من النماذج العينية لإحياء الموتى في الدنيا، الأحداث التي وقعت في قوم بني إسرائيل والمتعلّقة بالبقرة التي ضُرب أحد القتلى ببعض أجزائها فعاد إلى الحياة ليكشف عن قاتله، فالقرآن بعد أن ينقل هذه الحادثة يُشير إلى أنّ إحياء الموتى في الآخرة هو من هذا السنخ: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[٢٧]، كما أنّ معجزة النبي عيسى(ع) في قدرته على إحياء الموتى هي علامة أخرى على إمكان المعاد وإحياء الموتى مرة أخرى.[٢٨]
إثبات وقوع المعاد
لم يكتف القرآن في تبيين المعاد والحياة الأخروية ببيان إمكانها، بل أثبتت بعض الآيات القرآنية ضرورة وقوع المعاد وحتمية وقوعه، وذكر علماء المسلمين عدّة أدلّة مستقاة من القرآن الكريم، سنُشير هنا إلى دليلين منها:
برهان الحكمة
يُمكن تقرير مقدّمات البرهان الأساسية في ما يلي:
- الله سبحانه وتعالى حكيم، بمعنى أنه من غير الممكن صدور فعل من سبحانه وتعالى بلا غرض، كما أنه سبحانه غني غير محتاج، بالتالي لا يُتصور له حاجة وغرض يرجع إليه بالمنفعة، مع ذلك فعله حكيم وله غاية، إلا أنّ غاية فعله هو نيل كل الموجودات كمالها المطلوب.
- الغاية النهائية لخلقة الإنسان هي أن يصل إلى الكمال الأبدي الخالد، ويرتبط تحقّق هذه الغاية بوجود حياة أخروية خالدة، لأنه إذا كانت حياة هذا الإنسان العظيم والمعقد في وجوده واستعداداته تقتصر على الأيام المعدودة التي يقضيها في عالم الدنيا فقط، وعندما يموت ينعدم وينتهي فإنّ خلقته بهذه العظمة والتعقيد تكون لغواً لا فائدة منها. إنّ حكمة الله تقتضي وجود عالم خالد ينتقل إليه الإنسان ويبقى فيه للأبد. يقول القرآن في بيان التلازم بين حكمة خلقة الإنسان ووقوع المعاد: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾[٢٩]، ونجد في آيات أخرى إشارة إلى التلازم بين الحكمة من خلق كل الوجود ووقوع المعاد: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[٣٠]، فالآيات تُشير إلى أنه إذا انتفى المعاد فإنه لا فائدة من خلق السماوات والأرض، وقد ذُكر هذا المعنى ببيان آخر في سورة الحجر: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾[٣١].
برهان العدالة
يُمكن تقرير البرهان كما يلي:
- الله عادل لا يُمكن أن يصدر عنه ظلم أبداً.
- العدل الإلهي يقتضي مجازاة كل من المُحسن والمُسيء حسب عمله.
- لاشكّ في أنّ كل الناس لا يرون جزاءهم الكامل على أعمالهم في هذه الدنيا، لأنّ ظرفية الحياة الدنيوية لا تتحمّل كل أنواع الثواب والعقاب، فلا يُمكن - على سبيل المثال - مجازاة من قتل آلاف من الأبرياء في هذه الدنيا إلا بقصاص واحد!.
فالعدل الإلهي يقتضي أن يكون هناك عالم آخر للثواب والعقاب، ذلك العالم هو عالم الآخرة.
لقد أشارت بعض الآيات القرآنية إلى البرهان المذكور، منها ما جاء في سورة الجاثية: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[٣٢]، تُبيّن الآية الأولى في قالب استفهام استنكاري عدم الانسجام بين العدل الإلهي وتجويز المساواة بين المؤمن المُحسن والمُسيء في الحياة والموت وفي الآية الأخرى إشارة إلى أنّ الهدف من قيام الساعة هو رؤية الناس جزاء أعمالهم بالكامل في منتهى العدالة، وبما أنّ هذا الهدف لا يُمكن الوصول إليه في الدنيا فمن الضروري وجود عالم آخر صالح إلى أن يكون ظرف تحقّق العدل الإلهي الكامل ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[٣٣].[٣٤]
عوامل إنكار المعاد
نستنتج مما ذكر أنّ هناك أدلّة واضحة كثيرة على إمكان المعاد وكذلك وقوعه الحتمي، وبالرغم من ذلك نجد بعض الناس تنكر المعاد والحياة بعد الموت، لقد أشار القرآن الكريم في آيات متعدّدة إلى آراء المنكرين: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾[٣٥]، السؤال المهم هو ما العوامل التي جعلت البعض ينكر وجود حياة أخرى بعد الموت، بل يرفض ويجادل في هذا الأصل الديني الأساسي في كل الأديان الإلهية؟، يُمكن تقسيم تلك العوامل إلى قسمين كليين، هما:
- الشبهات النظرية، أشرنا عند البحث في أدلّة إمكان المعاد أنّ بعض الشبهات ناشئة من قلة اطلاع الإنسان وعدم تدبره، مما يؤدّي إلى شكه أو إنكاره للمعاد، وإحدى وظائف المتكلمين المسلمين هي الإجابة عن الشبهات المذكورة من خلال الاستفادة من مضامين الآيات والروايات والاستدلالات العقلية.
- الشهوات العملية، لعل هذا العامل أقوى تأثيراً وأكثر اتساعاً من العامل الأوّل، من البديهي أنّ الإنسان الذي يهدف إلى التلذذ بالدنيا بدون قيد وحد، يرى الاعتقاد بالمعاد مانعاً عن الوصول إلى أهدافه، فينكره فراراً من أي مسؤولية: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾[٣٦].[٣٧]
المعاد الجسماني – الروحاني
ذكرنا ثلاث نظريات في الفصل السابق تتعلّق بالمعاد، وأشرنا إلى أنّ هناك مدافعين من علماء المسلمين إلى كل نظرية، والآن ينبغي أن ننظر في الآيات والروايات الإسلامية، لنكتشف أيّ نظرية من النظريات الثلاث هي الأقرب إلى مضامينها، في الجواب عن السؤال يُمكن القول أنّ مجموع الآيات والروايات تؤيّد النظرية الثالثة أيّ المعاد الجسماني - الروحاني، لأنّ بعض الآيات والروايات تنسجم مع المعاد الروحاني وبعضها الآخر ينسجم مع المعاد الجسماني، ومقتضى الجمع بينها مع ترك المخالفة غير الضرورية لظواهرها هو القول بأنّ المعاد جسماني وروحاني. أشرنا في بحث حقيقة الإنسان إلى أنّ القرآن قد بيّن أنّ للإنسان بعدين، فعندما يموت تنفصل روحه عن عالم الطبيعة وتنتقل إلى نشأة أخرى، وسوف نُشير في الفصول القادمة إلى أنّ بعض الآيات القرآنية تدلّ على حضور البدن وأعضاء الإنسان وجوارحه في الآخرة، بالإضافة إلى ذلك، بعض الآيات تُبيّن أنّ للنعم والعذاب الأخرويين أبعاد جسمانية وأخرى روحانية. فيتضح من مجموع ما ذكره القرآن عن الموت والحياة الأخروية وأحوال الإنسان بعد الموت أنّ لمعاد الإنسان بُعدين أيضاً جسماني وروحاني.[٣٨]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٥٩٩.
- ↑ سورة الأعراف: ۲۹.
- ↑ نهج البلاغة، خ ۸۱.
- ↑ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج۷۸، ص۳۱۲.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٧.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٦٠٠.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٠.
- ↑ سورة الاسراء: ۴۹.
- ↑ سورة ق: ۲-۳.
- ↑ سورة سبأ: ۷-۸.
- ↑ سورة النمل: ۶۷-۶۸.
- ↑ سورة الجاثيه: ۲۴.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٠-٦٠١.
- ↑ سورة الاحقاف: ۳۳؛ راجع أيضاً: سورة الإسراء: ۹۹؛ سورة يس: ۸۱؛ سورة العنكبوت: ۲۰.
- ↑ سورة يس: ۸۱.
- ↑ سورة يس: ۷۸-۷۹.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٦٠١-٦٠٢.
- ↑ سورة ق: ۱۵.
- ↑ سورة الروم: ۲۷.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٢-٦٠٣.
- ↑ سورة فصلت: ۳۹.
- ↑ سورة الفاطر: ۹.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٣.
- ↑ سورة البقره: ۲۵۹.
- ↑ سورة البقرة: ۲۴۳.
- ↑ الطبرسي، مجمع البيان، ج۱ - ۲، ص۳۴۷.
- ↑ سورة البقرة: ۷۳.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٤-٦٠٥.
- ↑ سورة المؤمنون: ۱۱۵.
- ↑ سورة الدخان: ۳۸-۴۰.
- ↑ سورة الحجر: ۸۵.
- ↑ سورة الجاثية: ۲۱-۲۲.
- ↑ سورة القلم: ۳۵-۳۶.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٦٠٥-٦٠٧.
- ↑ سورة الجاثية: ۲۴.
- ↑ سورة القيامة: ۳-۵.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٧-٦٠٨.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص٦٠٨-٦٠٩.