النبوة
تمهيد
إننا هنا نتحدث عن جانبين مهمين يتعلقان بالنبوة وهما النبوة الخاصة والنبوة العامة، فحينما نتحدث عن النبوة العامة فإننا نقصد أصل النبوة وكيفية صلة الأنبياء بالرسالة الإلهية من دون تفرقة بين نبي وآخر، وبعبارة أخرى إنَّ النبوة هي تمثيل إلهي على وجه الأرض كما قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
[١]، أما كيف يكون خليفته في الأرض فهذا ما نتحدث عنه إن شاء الله، فمرة يكون الحديث عن النبوة العامة بمعنى كل مَنْ جاء من الأنبياء ليبلغ الناس أحكام الله تبارك وتعالى، وتارة نتحدث عن النبوة الخاصة وما يتعلق بالرسالة الخاتمة لنبينا محمد(ص) وفي هذا المجال يجب أن نعرف الخواص والمزايا التي ترتبط برسول الله(ص) وهذا أسلوب متداول لدى علماء الكلام والباحثين عن العقيدة الإسلامية.
وللبحث عن النبوة العامة هناك أبحاث أساسية أربعة يمكن تلخيصها فيما يأتي:
- ضرورة البعثة: ونعني به هل هناك ضرورة عقلية ووجوب يدعو إلى إرسال الأنبياء أم لا.
- إثبات صدق المدعي للنبوة: وهي إثبات صدق المدعي للنبوة وما هي الوسيلة لإثبات صدق دعواهم وما هي الطرق وما هي الوسائل التي يثبت بها ذلك.
- حقيقة الوحي: وهي نقطة أساسية جداً في معرفة هذا المعنى العظيم الذي حار فيه كثير من المفكرين والفلاسفة، ويجب التركيز على هذه النقطة.
- العصمة: وهي عصمة النبي وتسديده من قبل الله تعالى وما يتعلق بموقومات شخصية النبي.
فهذه الأمور الأربعة (ضرورة الرسالة، إثبات صدق المدعي بالنبوة، وفهم حقيقة الوحي، وفهم العصمة ومقومات شخصية النبي) إذا اجتمعت كلها وتم بيانها بشكل دقيق ننتقل إلى المراحل اللاحقة.
النبوة (لغة) مشتق من النبأ، والنبأ مصدره النبوءة (فعولة) وأما كيف صارت نبوة بلا همز، فإننا نجد أنّ الهمزة قلبت واواً وأدغمت بالواو الأصلية فصارت نبوة، ولدينا نظير ذلك في اللغة لفظة (مروءة) و(مرَّوة) نجد كلاهما بمعنى واحد وأصل المروة المروءة من المرء، فالاشتقاق اللغوي للنبوة تستند إلى أصل لغوي والنبأ هو عبارة عن الخبر مطلقاً.
النبوة (اصطلاحاً) فالنبي هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة بشر.
إذن لدينا ثلاث عناصر في التعريف: الإنسان، المخبر عن الله بغير واسطة بشر.
فالنبي ليس مطلق الشخص الذي يخبر، بينما في اللغة إنَّ النبأ هو الخبر المطلق أي خبر كان.
فنجد إن النبوة ليست مطلق الإخبار بل هي الإخبار عن الله تبارك وتعالى ومن هذا المنطلق نجد تعريف النبي هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة بشر أعم من أن يكون له شريعة كمحمد(ص) أو ليس له شريعة كيحيى.
ويعلق الفاضل المقداد السيوري في كتاب (النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر) على كل واحدة من هذه القيود الثلاث يقول: ويخرج بقيد الإنسان المَلَك إذا النبي هو الإنسان العنصر الأساس، وهي مسألة واضحة لاتحتاج إلى تفصيل. لأنه يجب أن يعيش معهم ولذلك نرى مَنْ ينكر ذلك كما قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ ملك فيكون مَعَهُ نَذِيرًا
[٢]، فالمشركون كانوا يتصورون أن النبي يجب أن يكون منزلاً من السماء، ويملك ما لا يملكه البشر، بينما الشريعة تؤكد على هذا وتركز على أنَّه شخص مثلكم يمشي بينكم ويموت أيضاً لأنه ما كان لأحد قبل رسول الله(ص) الخلد، لأنه يجب أن يتفاعل اجتماعياً معهم ويجب أن يكون على اتصال مستمر معهم، ويجب أن يكون من جنسهم ومن لونهم، فهو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ..
وأما القيد الثاني فيقول الفاضل المقداد وبقيد المخبر عن الله يكون خاصاً به دون غيره من المخبرين عن الناس. إذاً فلابد في هذا النبي أن يكون مخبراً عن الله تبارك وتعالى.
وأما القيد الثالث وهو أن يكون بغير واسطة بشر لأنه إذا كان يخبر عن الله تبارك وتعالى بواسطة بشر فمثله كالإمام فإنه يخبر عن الله تبارك وتعالى لكن لا مباشرةً، وكالعالم الذي يخبر عن غيره.. إذاً بقيد (بغير واسطة بشر) يخرج الإمام والعالم فإنهما مخبران عن الله تعالى بواسطة النبي.
فالفكرة أصبحت واضحة حول تعريف النبي، وهو المخبر الذي تتوفر فيه تلك العناصر الثلاثة[٣].
معنى النبي
ذُكرت عدة احتمالات في المعنى اللغوي للنبي والنبوة، فقيل أن النبي مشتق من أصل (نبأ) بمعنى الخبر ويُراد به الشخص الذي عنده أخبار ويُخبر الآخرين بها. الاحتمال الثاني أن النبي مشتق من الأصل (نبوة) بمعنى الارتفاع والعلو، ويُراد بالنبي- في هذه الحالة - الشخص صاحب المقام الرفيع والشأن العظيم. والاحتمال الثالث هو أن النبي بمعنى الطريق وقد أُطلق على الأنبياء لكونهم طرق هداية البشر إلى الله[٤]. ويعتبر الاحتمال الأول من بين الاحتمالات الثلاثة هو أشهر الاحتمالات بالإضافة إلى أنه الاحتمال الأكثر انسجاماً مع شأن ورسالة الأنبياء، لأنهم مخبرون عن الله سبحانه وتعالى.
ذكر المتكلمون عبارات مختلفة في بيان المعنى الاصطلاحي للنبي[٥]، منها: أن النبي هو إنسان يبعثه الله مباشرة لهداية الناس، فيتلقى الوحي الإلهي بدون وساطة إنسان آخر، ويبلغه للناس[٦].[٧]
الفرق بين النبي والرسول
من التعابير التي ذُكرت في المتون الإسلامية هي لفظ (الرسول) وأُطلقت على أنبياء الله أيضاً، إلا أن هذا اللفظ ذُكر في القرآن الكريم وأُريد به غير الأنبياء في موارد، كما أريد به الأنبياء في موارد أخرى.
من الواضح أن (النبي) و(الرسول) يختلفان في المعنى اللغوي، أي: أنهما متباينان في المعنى[٨]، لكن نريد أن نُبيّن النسبة بينهما من الناحية المصداقية. حيث يظهر من بعض الآيات القرآنية وجود اختلاف بين مصاديق هذين المفهومين: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا...
[٩] فلو كان الرسول والنبي يدلان على نفس المصاديق لما كان للتكرار فائدة في الآية، فتُشير الآية بالإجمال إلى أن النسبة بين النبي والرسول ليست هي التساوي.
تُشير بعض الروايات إلى أن النبي - من حيث المصاديق – أعم من الرسول، بعبارة أخرى: كل رسول نبي ولا يصدق العكس. كما أنه في هذه الروايات تذكر خصوصيات إلى هاتين المجموعتين لا علاقة لها بمعناهما اللغوي. على سبيل المثال، نذكر رواية الإمام الباقر(ع) التي يُبيّن فيها الاختلاف بين الرسول والنبي: «النَّبِيُّ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِهِ وَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَ لَا يُعَايِنُ الْمَلَكَ وَ الرَّسُولُ الَّذِي يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَ يَرَى فِي الْمَنَامِ وَ يُعَايِنُ الْمَلَكَ»[١٠]. يُستفاد من الرواية أن الرسالة مقام أرفع من النبوة؛ لأن فيها كمالات النبوة وأكثر. إن لبعض الأنبياء، كلا المقامين ولبعضهم الآخر مقام النبوة فقط[١١]. بحثنا هنا يتعلق بالنبوة والأنبياء لكن مع الالتفات إلى كون مفهوم الرسالة أخص بلحاظ المصاديق، فإن هذه الأبحاث سوف تشمل الرسالة والرسل أيضاً.[١٢]
أبحاث النبوة في علم الكلام
تُقسم عادة أبحاث النبوة في علم الكلام إلى قسمين: النبوة العامة والنبوة الخاصة، ويقصد بالنبوة العامة: مجموعة الأبحاث التي لا تختص بنبي معيّن، بل تتعلق بالأمور المشتركة بين جميع الأنبياء، أما النبوة الخاصة فهي الأبحاث التي تتعلق بنبي خاص. يبتني هذا التقسيم على أساس الإيمان بتعدد أنبياء الله من جهة، وأن اتباع أحد هؤلاء الأنبياء هو أمر معقول وشائع من جهة أخرى، فالقسم الأول يهتم بالبحث في المسائل المشتركة بين جميع الأنبياء، والقسم الثاني يهتم ببحث خصوصيات نبيّنا المتبَّع عندنا.[١٣]
حُسن أو ضرورة بعثة الأنبياء
تبدأ أبحاث النبوة العامة بالإجابة عن سؤال مهم وهو: هل هناك ضروة لبعثة الأنبياء في المجتمعات البشرية؟ بعبارة أخرى هل أن بعثة الأنبياء فعلٌ من الأفعال التي يحكم العقل الإنساني بوجوب صدورها من الله سبحانه، أم أنه لا يوجد وجوب عقلي في هذه المسألة؟
جواب المتكلم الأشعري منفي حيث يرى أن العقل الإنساني لا يُمكنه أن يحكم بوجوب صدور فعل ما عن الله تعالى، لأن هذا الحكم يستلزم أن يكون الله فاعل موجَب (غير مختار) في حين أن الحق تعالى فعال لما يشاء[١٤]. من هنا فإن الأشاعرة يرفضون البحث في مسألة ضرورة بعثة الأنبياء ويكتفون بالبحث في (حُسن البعثة)، فيذكرون منافع الأنبياء وفوائد وجودهم في المجتمع ويعتبرونها مصداقاً من رحمة الله ولطفه، فالأشاعرة تعتقد بحُسن البعثة وتنكر ضرورتها، إلا أن المتكلمين الإمامية والمعتزلة بناءً على أصل الحُسن والقبح العقليين[١٥] فإنهم بالإضافة إلى إعتقادهم بحسن البعثة[١٦]، يعتقدون بضرورتها ويقيمون الأدلة على ذلك.[١٧]
حُسن بعثة الأنبياء (فوائد النبوة وبركاتها)
يُمكن تقسيم البحث إلى قسمين:
يُدرس القسم الأول مسألة حُسن بعثة الأنبياء (البحث المشترك بين جميع المتكلمين)، بينما يتعهد القسم الثاني بإثبات ضرورة بعثة الأنبياء (البحث مختص بالمتكلمين الذين يؤمنون بالحسن والقبح العقليين). ذُكرت وجوه مختلفة في حُسن البعثة، منها ما ذكره صاحب تجريد الاعتقاد الذي أشار إلى تسعة وجوه وهي:
- تأييد العقل ونشر المعارف الدينية: من منافع بعثة الأنبياء أنهم يأتون بالوحي والنقل المؤيد لما يدركه العقل من قضايا ومسائل،كما أنهم يبيّنون ما لا يُمكن للعقل - على نحو الاستقلال - إدراكه من معارف لازمة للإنسان كالأحكام الشرعية.
- زوال الخوف: من الممكن أن يدرك الإنسان - بالطريق العقلي – أنه مملوك إلى الغير (أي: مملوك لله) كما يدرك أنه لا يجوز التصرف في ملك الغير بدون إذنه، لذا فإن هذا الإنسان يبقى خائفاً ومشكّكاً في أفعاله طالما أنه لم يعرف وظائفه بواسطة الوحي، لاحتمال صدور أفعال منه لا ترضي مولاه، فتندرج ضمن مصاديق (التصرف بدون إذن) والذي يعدّ عملاً قبيحاً، ويزول هذا الخوف بإرسال الأنبياء وإبلاغ التكاليف للعباد.
- التعرف على حسن وقبح بعض الأفعال: العقل مستقلاً يُمكنه أن يدرك حسن وقبح بعض الأفعال في حين أنه غير قادر على إدراك حسن وقبح بعضها الآخر، فهذه يطلع عليها الناس من خلال الأنبياء، ويُمكنهم اتخاذهم أسوة في سلوكهم.
- التعرف على منافع ومضارّ الأشياء: العقل مستقلاً لا يُمكنه إدراك منافع ومضارّ كثير من الأمور مثل: (الأغذية والأدوية). ويطلع عليها الإنسان من خلال الوحي.
- تأمين حاجة البشر إلى قوانين اجتماعية صالحة: الإنسان موجود اجتماعي ومدني بطبعه، كما أنه يميل إلى طلب القدرة والسلطة على الآخرين، فيلزم أن يضع المقنِّن قوانين تمنع اختلال النظام الاجتماعي. وتصل القوانين اللازمة للبشرية عن طريق بعثة الأنبياء ونزول الشريعة، وبهذه الطريقة يُقيم الإنسان نظام الحياة الاجتماعية.
- استثارة الاستعدادات العلمية: بعثة الأنبياء تساعد على استثارة وتنمية استعدادات الناس المختلفة في تحصيل العلوم والمعارف.
- تعلم الصناعات والفنون: يحتاج الإنسان من أجل بقائه إلى أشياء وآلات لا يعرف كيف يصنعها، فالأنبياء تُعلّم الناس تلك الصناعات والفنون.
- تعليم الحكمة العملية: تتفاوت الناس في بُعد الحكمة العملية (الأخلاق والسياسة)، فتفتقر إلى مرب عارف بتعاليم الله ليكمّل ما يفتقرون إليه.
- تعليم الشريعة (الواجبات والمحرمات الشرعية): ببعثة الأنبياء يتم تبليغ الناس وظائفهم الدينية، فيطلعون على الحلال والحرام بلطف الله[١٨].
يُمكننا تقييم الوجوه المذكورة بالقول أن بعضها مثل الوجه الأول والخامس والثامن - بعد تكميلها وإعادة نظمها - يُذكر على شكل أدلة على ضرورة بعثة الأنبياء، وليس حسن البعثة فقط، كما أنه يُمكن أن يُستفاد من الوجه التاسع أيضاً في الأدلة الكلامية على ضرورة البعثة، لكن بعد ضم مقدمة تبتني على أساس (وجوب اللطف الإلهي) وهذا ما لم يغفل عنه المتكلمون، كما سيأتي، فإن أكثر أدلة المتكلمين على ضرورة البعثة تبتني على مسائل مثل: (حسن التكليف) و(وجوب اللطف).
كما أن بعض الوجوه المذكورة مثل الوجه الرابع والسابع ليست من الفوائد الأساسية والأهداف الذاتية للبعثة، وإنما ذكرت في التعاليم الدينية بشكل ضمني وتبعي على خلاف بعض الفوائد الأخرى التي يُعتبر حصولها من الأهداف الأساسية والغايات الأصيلة للأديان الإلهية.
لاشك في أن لتبليغ الدين عن طريق أنبياء الله ونزول الكتب السماوية محاسن فردية واجتماعية كثيرة، ولشدة وضوح هذه الحقيقة نجد بعض أصحاب الآراء الإلحادية قد اعترف بها. إن البحث في محاسن البعثة واسع جداً ويحتاج إلى كتاب مستقل - خاصة عندما نبحث المسألة بتتبع التاريخ-، نحن هنا سنكتفي بالإشارة إلى بعض أهم فوائد بعثة الأنبياء ونتائجها الإيجابية في حياة البشر، ثم سننتقل إلى توضيح بعض ما جاء في الكتاب والسنة في ما يتعلق بهذا البحث:
- تبيين أعمق الأفكار والمعارف في باب معرفة خالق العالم وصفاته وأفعاله.
- تبيين معارف لا نظير لها في باب حقيقة الإنسان واستعداداته وحاجاته ومبدأه ومنتهاه.
- ذكر تعاليم رفيعة تتعلق بنشأة العالم، خاصة في ما يتعلق بماوراء الطبيعة (الروح، الملائكة...).
- طرح منظومة من التعاليم الأخلاقية التي تهب الإنسان الحياة وتتعلق تهذيب النفوس البشرية وتحريرها من قيود النفسانيات.
- تشريع قوانين وأحكام فردية واجتماعية وتضمين سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة من خلالها.
- تحقق نماذج عينية للكمال الإنساني (يعني الأنبياء والأئمة) بين الناس، ليتأسوا بهم في جميع أبعاد حياتهم.
- بسط العدالة الاجتماعية عن طريق مواجهة شاملة للمستكبرين وتبيين مناهج كلية لمواجهة أيّ نوع من أنواع الظلم.[١٩]
فلسفة النبوة في القرآن
أشارت عدة آيات قرآنية إلى فلسفة النبوة وأهداف بعثة الأنبياء وفوائدها، سنذكر بعض الآيات ونبيّنها باختصار:
١. التعليم والتربية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
[٢٠]؛ جاء الأنبياء لإستثارة استعدادات الناس وتعليمهم مما يؤدي إلى تكاملهم على المستوى العلمي من جهة، ولتزكيتهم وتربيتهم مما يؤدي إلى تكاملهم على المستوى العملي والسلوكي من جهة أخرى[٢١].
تُشير بعض الآيات إلى سعة التعاليم الدينية وتؤكد على عدم إمكان معرفة الإنسان لبعض تلك التعاليم لولا الوحي: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
[٢٢]؛ عبارة
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
لا تعني (لا تعلمون)، بل تعني أنكم ليس لديكم القدرة وليس من شأنكم معرفة تلك التعاليم، فالآية تُبين أن بعض تعاليم الأنبياء لا يُمكن الحصول عليها بالاعتماد على الحسّ والتجربة والعقل، ولذلك يرى كثير من المفسرين أن الآية تُشير إلى المعارف المتعلقة بالعالم الأخروى وتلك الوقائع التاريخية التي لم يبقَ لها أثراً في حافظة التاريخ.
٢. التذكر: لدى الإنسان مجموعة من المعارف الفطرية والعقلية التي من شأنها أن تَهديه إلى الحقيقة، فيعرف من خلالها الله ويدرك أنه سبحانه من يستحق العبادة دون سواه كما تحثّه تلك المعارف على عمل الخير واجتناب القبائح، إلا أن الإنسان كثيراً ما يغفل عن تلك المعارف، فيحتاج إلى من يرشده إليها ويُذكره بها: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
[٢٣]، ولهذا أطلق الله على القرآن عنوان (ذكر) و(تذكرة) وعلى النبي(ص) عنوان (مُذكّر):
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
[٢٤]،
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
[٢٥]،
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ
[٢٦].
٣. تحرير الإنسان: إن روح الإنسان مُقيَّدة بالجهل والخرافات والعادات الخاطئة وهوى النفس وسلطة الظالمين والمستكبرين وأثقال كثيرة مؤلمة، فجاءت الأنبياء لتحرير الإنسان من أسر الطاغوت الباطني والخارجي: يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
[٢٧]؛ إن تعبير الآية له معانٍ كثيرة جداً وشاملة، كلها تشترك في بيان أن الحرية الحقيقية لمختلف أبعاد الحياة الإنسانية تكمن في بعثة الأنبياء، وقد بيّنت الآية التالية هذه الحقيقة بتعابير أخرى:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
[٢٨]. إتمام الحجة: فلو لم يرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياءقالب:عم لهداية الناس لادّعى الضالون أنه لو أرسل الله أنبياء لما ضلوا:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
[٢٩].
۴. إقامة العدل: من الأهداف المهمة لبعثة الأنبياء هو تهيئة المجتمع الإنساني لإقامة العدل والقسط: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
[٣٠].[٣١]
أهداف الأنبياء في الأحاديث
ذكرت أهداف متنوعة لبعثة الأنبياء في الأحاديث الإسلامية منها ما جاء عن الإمام الرضا(ع) في بيان الشأن التعليمي للنبي(ص): «لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رَسُولٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُمْ مَعْصُومٍ يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ وَ نَهْيَهُ وَ أَدَبَهُ وَ يَقِفُهُمْ عَلَى مَا يَكُونُ بِهِ إِحْرَازُ مَنَافِعِهِمْ وَ دَفْعُ مَضَارِّهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مَنَافِعِهِمْ وَ مَضَارِّهِمْ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ وَ طَاعَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ مَنْفَعَةٌ وَ لَا سَدُّ حَاجَةٍ وَ لَكَانَ إِتْيَانُهُ عَبَثاً»[٣٢]. كما أشار أمير المؤمنين(ع) في خطبة له إلى أهداف أخرى للأنبياء: «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»[٣٣].[٣٤]
المراجع
- ↑ البقرة:۳۰.
- ↑ الفرقان: ۷.
- ↑ ميلاني، سيد فاضل، العقائد الإسلامية، ص ١٦١-١٦٣.
- ↑ التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص۵.
- ↑ مثلاً: يقول صاحب قواعد المرام: "إنه الإنسان المأمور من السماء بإصلاح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم العالم بكيفية ذلك المستغني في علومه وأمره من السماء لا عن واسطة البشر المقترنة دعواه للنبوة بأمور خارقة للعادة". ابن ميثم البحراني، قواعد المرام في علم الكلام، ص۱۲۲.
- ↑ قيد (إنسان) لإخراج الملائكة، وقيد (بدون وساطة إنسان آخر) لإخراج الإمام وعلماء الدين من التعريف؛ لأن الإمام يتلقى مضامين الوحي من النبي، وعلماء الدين يتعرفون على مضامين الوحي من الإمام والنبي.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٥٩-٣٦٠.
- ↑ ذكر البعض أن مفهوم النبي أعم من مفهوم الرسول (أي: أن بينهما عموم وخصوص مفهومي – وليس مصداقي)، لأن النبي هو من يوحى إليه من الله سواء كان مأموراً بإبلاغه للناس أو لا، لكن الرسول هو الشخص الذي بالإضافة إلى تلقي الوحي فإنه مأمور بإبلاغه للناس. لكن هذا التفكيك غير صحيح لأنه أولاً هكذا مفاهيم لم ندركها من خلال المعاني اللغوية للفظين ولا يوجد دليل متقن على إثبات هذه المعاني لهما؛ ثانياً في بعض الآيات (مثلاً: الآية ۵۱ من سورة مريم) جاءت لفظة النبي بعد الرسول في حين أنه من اللغو الإتيان بمفهوم عام بعد المفهوم الخاص (راجع: محمد تقي مصباح اليزدي، معرفة المرشد، ص۱۳ – ۱۵).
- ↑ سورة الحج: ۵۲.
- ↑ الكليني، الكافي، ج۱، ص۱۷۶.
- ↑ ورد في الروايات أن عدد الأنبياء ۱۲۴ ألف نبي وأن عدد الرسل ۳۱۳ رسول: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج۲۴، ص۳۲.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦٠-٣٦١.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦١-٣٦٢.
- ↑ لا يقصد القائلون بأصل التحسين والتقبيح العقليين أن هناك أمور يجب على الله الإتيان بها، وأن هناك موجود آخر ألزمه بها، وإنما يقصدون أن العقل بالنظر إلى أوصاف الله مثل الحكمة والرحمة و... من جهة، وبالتأمل في ماهية الأفعال من جهة أخرى فإنه يحكم بصدور هذه الأفعال عن الله بالضرورة.
- ↑ مرَّ البحث في أصل الحسن والقبح العقليين في الأبحاث السابقة.
- ↑ يقول العلامة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد: "اختلف الناس في ذلك فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل وجماعة من الفلاسفة إلى ذلك ومنعت البراهمة منه" العلامة الحلي، كشف المراد، ص۳۷۳.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦٢-٣٦٣.
- ↑ العلامة الحلي، كشف المراد، ص۳۷۳ -۳۷۵. وقد ذكرت وجوها أخرى - شبيهة لما ذُكر - في منابع كلامية أخرى مثل: التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص۶، وقد اكتفى بعض المتكلمين بالإشارة إلى وجوه أقل مثل: المحقّق اللاهيجي، سرمايه إيمان، ص۸۷ – ۸۹، بل إن بعض المتون الكلامية لم تتطرق أصلاً إلى بحث حسن البعثة، مثل العلامة الحلي في نهج المسترشدين وفاضل مقداد السيوري في إرشاد الطالبين.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦٣-٣٦٦.
- ↑ سورة الجمعة: ۲.
- ↑ ذكر المفسرون توضيحات في وجه تقديم (التزكية) على (التعليم) في هذه الآية والفرق بين (الكتاب) و(الحكمة)، راجع مثلاً: العلامة الطباطبائي، الميزان، ج۱۹، ص٢۶۵، وإن كانت هذه الآية ذُكرت مع آيات أخرى في مورد النبي الأكرم(ص) إلا أن الظاهر منها عدم اختصاصها به(ص).
- ↑ سورة البقرة: ۱۵۱.
- ↑ سورة ابراهيم: ۵۲.
- ↑ سورة الحجر: ۹.
- ↑ سورة الحاقة: ۴۸.
- ↑ سورة الغاشية: ۲۱.
- ↑ سورة الأعراف: ۱۵۷.
- ↑ سورة ابراهيم: ۱.
- ↑ سورة النساء: ۱۶۵.
- ↑ سورة الحديد: ۲۵.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦٧-٣٦٩.
- ↑ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج۱۱، ص۴۰.
- ↑ نهج البلاغة، خ ۱.
- ↑ سعيديمهر، محمد، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٣٦٩.