اليقين
تمهيد
«اليقين» هو ضدّ الشّك والتّرديد وهو مرتبة من مراتب العلم.
توضيح ذلك انّ المعلومات النّظريّة غير المحسوسة قد يعتريها الشّك والتّرديد من قبل القوى الواهمة أو المتخيّلة، وان كان العقل مؤمناً بها، لما عنده من البرهان عليها، الا ترى انّ العقل يحكم بانّ الميّت جماد لا يضرّ ولا ينفع ولكنّ الوهم لا يقبل ذلك والتّخيل قد يصوّر ذلك الميّت متحرّكا.
فالشك والوهم قد يتّجهان نحو المعلومات النظريّة ولاتطمئنّ النّفس إليها، كما انّ المعلومات العامّة وهي ما تكون ظنّيّة قريبة إلى العلم تكون كذلك، وان كانت عند العموم وعرف النّاس علماً مغفولًا عند طروء الشك والاحتمال إليه، فلذا فان الخطرات وأحاديث النّفس المنافية للعقائد اليقينيّة للعموم إلّاالأوحدىّ من النّاس، كثيرة الوقوع ولا تضّر بالإيمان.
لكن قد يصل العلم إلى مرتبة تطمئنّ النّفس بها ويرسخ ذلك العلم في القلب، فاذاً كما انّ العقل مؤمن بالمعلوم جازم به يكون القلب ايضاً كذلك. فلايتعرض الشكّ والوهم لتلك الرتبة وكذلك جميع الخطرات المنافية لها.
قال الرّاغب في المفردات: «اليقين.... وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وقال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾[١].[٢]
طريق حصول اليقين
حصوله في غير المعنويات من العلوم الرّسميّة أو العاديّة يكون بالحسّ، فكلّ علم ينتهىالحسّ ويكون مدركه الحسّ كعلمنا بامتناع اجتماع النّقيضين أو الضّدين، فهو يقين ويطلق عليه في اللغة والاصطلاح اليقين، وها هو السر في اطلاق اليقين على الموت في الذكر الحكيم مراراً عدّة، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[٣] كما انّ علمنا بالآلام واللّذّات الظّاهريّة والباطنيّة كالنّوم والعطش يكون كذلك، وامّا في المعنويات كالأخلاق والأخلاقيّات وأصول الدّين والمعارف الإسلاميّة و.... فلا يحصل إلّا باجتناب المحرمات والمكروهات والشّبهات والمشتبهات النّفسانيّة واتيان الاعمال الصّالحة من الواجبات والمندوبات وأولى منها الاجتناب عن الرّذائل الاخلاقيّة وتزيّن النّفس بالفضائل النفسانية.
وبالجملة طريق حصول اليقين في المعنويات ليس إلّابالاخلاق والأخلاقيّات وقد نبّه القرآن الكريم على ذلك في آيات، منها:
قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[٤]
وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾[٥]
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[٦]
وقوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[٧]
وقوله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[٨]
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[٩]
واخيراً قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾[١٠]
والسرّ في ذلك انّ الإفاضة من الله تعالى تحتاج إلى الاستعداد والقابلية، فالنّفس كلّما قربت إلى الله تعالى تتّسع وجوداً وقابليةً فالنّفس الّتي تتكرّر تكدّرت بالرذائل النّفسانيّة والعمليّة لا تليق لأن تصبح محلّ افاضته تعالى ولا معنى لكونها ظرفاً لنوره ومورداً لهدايته الخاصّة.
فبالتّخلية والتّقوى ترفع الموانع والأدران وبالتّحلية والاعمال الصّالحة تستعدّ لاستقبال الإفاضات وكلّما كانت النّفس بالرّياضات الدّينيّة اصفى واجلى كان استعدادها وقابليّتها للافاضات الإلهيّة اجلى وأتم حتّى تصل إلى مقام اللّقاء والفناء فتكون معدن نور الله وعرصة الرّحمن فتدرك قيّوميّة الحقّ تعالى وتدلى ما سواه.
وقد روى عن النبيّ (ص): «لَوْ لاَ أَنَّ اَلشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى مَلَكُوتِ اَلسَّمَاءِ»[١١]
وإلى هذا المقام اشار تعالى بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[١٢]
وبما ذكرنا يظهر اولًا ان هذه الصفة هي من أشرف الصفات وأفضلها، بل يتوقف غيرها عليها وفي روايات مستفيضة انها اشرف الصفات وأعلاها. منها:
قول أبي عبدالله (ع): «إِنَّ اَلْإِيمَانَ أَفْضَلُ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ وَ إِنَّ اَلْيَقِينَ أَفْضَلُ مِنَ اَلْإِيمَانِ وَ مَا مِنْ شَيْءٍ أَعَزَّ مِنَ اَلْيَقِينِ» [١٣]
وثانياً انّه ذو مراتب وله عرض عريض وفي بعض الرّوايات: انّه ذو مراتب سبع، وفي بعضها: انّه ذو مراتب تسع، وفي بعضها انّه ذو مراتب عشرة، وفي بعضها: انّه غير المتناهي مرتبة وسيأتي ذكر طائفةٍ من الرّوايات.
وبهذا الخبر يجمع بين الرّوايات فتكون السّبعة والتّسعة والعشرة من باب المثال، وإلّا فلا يمكن عدّها فكلّما يكون تقرّب العبد إلى الله تعالى أزيد يكون بقينه كذلك.
نعم انّ أهل القلوب قد وافقوا على تقسيمه إلى أقسام ثلاثة، اخذاً من القرآن الشّريف وهي علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
ومرادهم من علم اليقين ما يحصل من المشاهدات والاستدلات الحسّيّة كاليقين بالموت بمشاهدة الميّت وبالنّار بالاستدلال من مشاهدة الدّخان.
ومرادهم من عين اليقين ما يحصل من رؤيته بالبصر أو البصيرة كاليقين بالموت حين الاحتضار، واليقين بالنّار حين مشاهدتها.
ومرادهم من حقّ اليقين ما يحصل من وقوعه في المتيقّن كاليقين بالموت إذا ذاقه وكاليقين بالنّار حين يلقى فيها.
ولكّل من هذه المراتب الثّلاثة مراتب كثيرة، فالمراتب غير متناهية كما مرّ.
وإلى المراتب الثّلاث أشار القرآن الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾[١٤]
فصدر الآية الأولى يشير إلى علم اليقين، وذيلها إلى عين اليقين والآية الثانية إلى حق اليقين.
وقال تعالى: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[١٥]
فقوله: كلّا لو تعلمون علم اليقين لترونّ الجحيم، إشارة إلى علم اليقين، ومعناه انّهم لو توجّهوا إلى الموت الّذي هو يقينىّ، لم يشغلهم التفاخر بالمال والجاه والأولاد والعشيرة عن الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾[١٦] إشارة إلى عين اليقين ومعناه انهم يرون الجحيم يوم القيمة يقيناً ولفظة ﴿ثُمَّ﴾ جيئت للتّراخى ولام القسم جئ بها للتأكيد.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[١٧] إشارة إلى حق اليقين ومعناه انّهم في الجحيم ليسئلن عن النعم الظاهرية كالقرآن والولاية وعن النعم الباطنيّة كالعقل والقابليّات الكمالية.[١٨]
فوائد اليقين
لليقين فوائد كثيرة وكثيرٌ من الفضائل ينبع منه ويتوقف عليه، وسيأتي تفصيله. واجماله: ان التوكل، وتفويض الامر إليه تعالى، واطمئنان البال والانقطاع عن النّاس إلى الله، والتسليم لامر الله والرضى بقضائه وقدره، بل ومثل الشجاعة والسخاء و.... ينبع منه بل يتوقف عليه.
ومن فوائده: حصول مقام الخضوع والخشوع والقيام بوظائف العبوديّة.
ولكنّ الّذي يجب التّنبيه عليه وهو مهم جداً، هو ان اليقين يمنع صاحبه عن كلّ مخالفة ويرغبه إلى كلّ مثوبة، فكلما زاد اليقين زاد المنع حتّى يصل إلى حد يمنعه عن كلّ مكروه وشبهة بل عن كلّ ما يشتهيه الهوى حتّى يصل إلى درجة يعدّ فيها الالتفات إلى غير الله والاشتغال بالمباحات محذور له ومحظور عليه ويستغفر الله ربه لذلك وهذا هو علة استغفار الرسول (ص) فيما رُوي من قيامه به.
وبالجملة انه سدّ وحصن للإنسان ولا سدّ غيره.
توضيح ذلك اجمالًا ان الإنسان يحتاج إلى سدّ ورادع يمنعه ويردعه عن الشهوات ولولا ذلك لهلك.
وجميع ما له منزلة المانعيّة وهو مما يرغّب إليه العقل ويُقرّه ويمضيه الشرع، أمور:
١. العقل وهو حجة باطنة ورسول من الله ووديعته الله تعالى في باطن الإنسان، وهو سدّ ومانع عن الميول المحرّمة ويرغب الإنسان إلى الخيرات والعبادات وقد أمر الله تعالى في كتابه بمتابعته والاهتداء بهداه وقد أعاد ذلك مراراً كقوله سبحانه: «أفلا يتفكرون» و«أفلا يعقلون»، «أفلا يتدبرون» و....
وبشّر الله تعالى بالجنة والخير مَن تابعه، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[١٩]
وقال تعالى نقلًا عن أهل الجحيم انّهم لميردوا السّعير إلّالعدم متابعتهم عن العقل ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[٢٠]
٢. العلم وهو الّذي يمنع صاحبه عن الرّذائل لعلمه بمفاسدها، ولكون الاتيان بالرّذائل ينافي شخصيّته الجماعيّة فلذا اشتهر عن أفلاطون انه كان يقول: ان شيوع الرّذائل في مجتمع دليل على جهلهم لأنهم لو علموا مفاسدها لميرتكبوها.
فلذا اكدّ الإسلام على التعليم والتّعلّم مراراً عديدة وقد مرّ منّا انه عدّ التعليم والتعلم في القرآن من العلل الغائيّة للتكوين والتشريع.
قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا﴾[٢١]
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[٢٢]
٣. النّفس اللّوّامة وهي هامّة حتّى أقسم بها القرآن فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[٢٣] وجعلها تلو يوم القيمة، لانّها مثله في الحكم فكما انّ يوم القيمة وصفه تعالى بقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾[٢٤] فكذلك النّفس اللوامة.
٤. التربية والتهذيب وهي هامّة ايضاً، ولذا كرّر القرآن ذكرها تارة بالامر بها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾[٢٥]. وأخرى بجعل الخسران في تركها فقال: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾[٢٦]
٥. القانون والدستور الّذي يصون المجتمعات دينيّة أو غير دينيّة والإسلام امضى سيرة الناس في ذلك قولًا وعملًا، بل يظهر من القرآن انّها من سنن المرسلين.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[٢٧]
٦. الرّقابة العامّة وهو الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والإسلام اكّد عليها تاكيداً بالغاً فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[٢٨]
بل إن الإسلام مضافاً إلى الأمر بقيام الناس بالرقابة الشعبيّة والفرديّة أوجب تأسيس الحوزات الدينيّة اولًا فقال: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[٢٩] وتشكيل بعثة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومنظّمتهم ثانياً فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[٣٠]
٧. الإيمان العقلي والمراد منه ما يقطع به العقل من المعارف الإسلاميّة كالمبدء والمعاد والنبوة والإمامة، وهو «الإسلام» على حدّ مصطلح الذكر العظيم.
قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[٣١]
فهو مطلوب في الإسلام فلذا قال الله تعالى في ذيل هذه الآية الشريفة: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[٣٢] وبالضّرورة فان غالب ايمان النّاس من هذا القبيل.
وكونه في الجملة سدّاً ومانعاً من مخالفة الله ومتابعة الهوى ممّا لا اشكال فيه. بل القرآن أشار إلى أن الظّن بالمعاد فضلًا عن القطع به يُعدّ سداً ومانعاً عن مخالفة الشرع، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[٣٣]
فلذا يشاهد ان أكثر روّاد المحاكم ونزلاء السّجون في كلّ زمان ومكان من غير المتديّنين.
وبالجملة، ان الجنايات والجرائم هي لغير المتديّنين أكثر ممّا هو لغيرهم، إلّافي حالات نادرة.
هذه أمور سبعة، وكما ترى انّها كلها مطلوبة مرغوب فيها عقلًا وعرفاً وشرعاً إلّاان في جميعها اشكالًا مهماً جداً وهو ان هذه الأمورالسبعة تصدّ الإنسان وتمنعه من الرّذائل وتجعله على الصراط المستقيم في الجملة لا مطلقاً.
توضيح ذلك، ان الغرائز كثيراً ما تكون في حالة طبيعيّة وعادية، فتلك الأمور السبعة تصونه وتردعه عن الميول والانحرافات ولكن قد تكون الغرائز في حالة الطّغيان والاشتعال كغليان الشّهوة الجنسيّة أو فوران حبّ الجاه أو طغيان رذيلة من الرّذائل كالحسد والغضب وشهوة التّكاثر فهذه الأمور السّبعة لا تقدر ان تكبح تلك الغرائز وتلك الرّذائل بتاتاً.
فحالة الطّغيان هذه تطلب سدّاً آخر ومانعاً غير الأمور السّبعة الآنفة الذكر ولذلك ان الذكر الحكيم يذكر عاملًا آخر الا وهو: الإيمان القلبي وهو الإيمان الّذي رسخ في القلب وهو اليقين بمراتبه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾[٣٤]
فهو نور من الله وهداية خاصّة منه واحياء قلبٍ بمنّه وهذا هو الّذي يحصل باجتناب المحرّمات واتيان الخيرات وهو اليقين لغة واصطلاحاً وهو فضل من الله يؤتيه المقرّبين فطوبى لهم ونعم الثّواب وهذا هو ما يصفه القرآن بانّ اوّل مرتبته يكبح مثل غريزة التّكاثر إذا اشتعلت.
قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾[٣٥]
ونحن نذكر بعض الآيات والرّوايات الواردة في اليقين تبركاً وتيمناً للبحث من غير تفسير وتوضيح لهما، لانّه يحتاج إلى كتاب مستقل ويبعدنا عن غاية هذا الكتاب، نسئل الله توفيق درك آي الكتاب وروايات العترة اللّذان هما الثّقلان في الرواية المتواترة لفظاً عند الفريقين.[٣٦]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٦٠.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٢٤٩.
- ↑ سورة المدثر، الآية ٤٧-٤٨.
- ↑ سورة الحجر، الآية ٩٩.
- ↑ سورة الأنفال، الآية ٢٩.
- ↑ سورة الحديد، الآية ٢٨.
- ↑ سورة الأنعام، الآية ١٢٢.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٥٧.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢.
- ↑ سورة النور، الآية ٤٠.
- ↑ جامع السعادات، ج ١، ص ١٢٦، فصل الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف.
- ↑ سورة الأنعام، الآية ٧٥.
- ↑ بحار الأنوار ج ٧، باب اليقين، ص ١٣٥، ح ١.
- ↑ سورة فصلت، الآية ٥٣-٥٤.
- ↑ سورة التكاثر، الآية ٥-٨.
- ↑ سورة التكاثر، الآية ٧.
- ↑ سورة التكاثر، الآية ٨.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٢٥٠.
- ↑ سورة الزمر، الآية ١٧-١٨.
- ↑ سورة الملك، الآية ١٠.
- ↑ سورة الطلاق، الآية ١٢.
- ↑ سورة الجمعة، الآية ٢.
- ↑ سورة القيامة، الآية ١-٢.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٤٨.
- ↑ سورة التحريم، الآية ٦.
- ↑ سورة الزمر، الآية ١٥.
- ↑ سورة الحديد، الآية ٢٥.
- ↑ سورة التوبة، الآية ٧١.
- ↑ سورة التوبة، الآية ١٢٢.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٠٤.
- ↑ سورة الحجرات، الآية ١٤.
- ↑ سورة الحجرات، الآية ١٤.
- ↑ سورة المطففين، الآية ١-٥.
- ↑ سورة الحجرات، الآية ١٥.
- ↑ سورة التكاثر، الآية ١-٦.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٢٥٣.