برهان الحركة

من إمامةبيديا

تمهيد

يسمى هذا البرهان أحياناً بطريقة الحكماء الطبيعيين. وتستند هذه الطريقة إلى برهان الفيلسوف اليوناني (أرسطو عن المحرك الأول). ويتخلص هذا البرهان في الخطوات الخمس التالية:

  1. الحركة تحتاج إلى محرك.
  2. المحرك والحركة مقترنان في الزمان، أي أنه يستحيل الإنفكاك بينهما زماناً، وإن كان تقدم وتأخر فهو رتبي لا زماني.
  3. كل محرك إما إن يكون متحركاً أو ثابتاً.
  4. كل جسم فهو متغير ومتحرك.
  5. التسلسل في الأمور المترتبة غير المتناهية مستحيل.

النتيجة: إنَّ سلسلة الحركات تنتهي إلى محرك غير متحرك[١].

ولقد حاول الشيخ «إلهي قمشه‌اي» اختصار هذه لمقدمات في عبارة أقصر، فقال: كل شيء كان معدوماً ثم وجد فهذا تغيير، والتغيير حركة، والحركة لا بد لها من محرك.

ننقل الكلام إلى المحرك فهو إما موصوف بالتغيير أم لا، فإن كان متغيراً احتاج إلى محرك آخر، وهو إما أن يؤدي إلى الدور والتسلسل (وهما باطلان) أو ينتهي إلى محرك لا يطرأ التغير والحركة عليه، ولم يسبق وجوده بعدم، بل وجوده قائم بذاته، وهذا هو واجب الوجود[٢].

ونظراً إلى أنَّ هذا البرهان لا يثبت (واجب الوجود) وإنما يتكفل لإثبات ما وراء الطبيعة فحسب، فيمكن الاعتراض على الشيخ "قمشه‌أي" بأنَّ جملة (ولم يسبق وجوده عدم) ليست من صميم الاستدلال، بل أضافها لينسجم الدليل مع مذهب الإلهيين أيضاً.

أما الشيخ «محمد تقي الجعفري» فقد أورد لوناً آخراً من الاستدلال على وجود الله، مزج فيه بين الاستدلال بالحركة ونفي الصدفة فقال: (ثم ارجع البصر في ظاهرة الحركة العامة للموجودات، إنَّ الحركة لا تنطبق على نفس المادة لأنَّ خروج المادة عن القوة إلى الفعل لا يدخل في صميم المادة بتاتاً، فَسَلْ نفسك مَن الذي منح الحركة والتطور للمادة؟

أكان هناك محركاً أوجد الحركة في المادة، أو حدثت من تلقائها، أو المصادقة هي التي أوجبت أن تتحرك المادة منتظمة؟ 

فإن كانت تلقائية ديناميكية فلماذا ترجح أن تظهر الموجودات بحركتها إلى الفعلية وفي زمان معين؟ وإلى أين ذهبت هذه المصادفة ولا نرى منها أثراً في صفحة الوجود؟ وهل تعود يوماً وتوجب أن يستنتج من إضافة تفاحتين إلى آخريين خمس تفاحات؟ بل لو فرضنا أنَّ الحركة تدخل في صميم المادة وهي مما تقوم به المادة لكان احتياجها إلى المؤثر أوضح وأشد مما كانت تخرج عن حقيقتها[٣]. ويتضح ذلك عندما نتأمل في حقيقة الحركة.. الحركة هي خروج الشيء من القوة إلى الفعل، وهذا يستلزم تعاقب الافعال، وتدرج الأحداث الخارجة من القوة. فالحركة كون بعد كون، والحركة لما كانت جوهرية للمادة -على زعمهم- فالمادة بجوهرها كون بعد كون، وكل كون سابق يحد الكون اللاحق ابتداء، وكل كون لاحق يحد السابق انتهاء، إذاً فالمادة محدودة)[٤].

والأفضل أن نصوغ هذا الاستدلال بالصياغة الآتية: الحركة إذا قيست بالمادة فلا تخلو من أربع حالات:

  1. الحركة خارجة عن المادة: فتحتاج إلى محرك (من يعطيها الحركة).
  2. الحركة هي المادة: الحركة لما كانت عبارة عن الخروج من القوة إلى الفعل فهي عَرَضَ، والعَرَضُ لا يكون ذاتاً.
  3. الحركة صفة ذاتية للمادة (جوهرية فيها): لما كانت المادة محدودة وتحتاج إلى موجد، فإنَّ الموجدَ لها يكون موجداً لحركتها أيضاً.
  4. الحركة تلقائية: إذاً لماذا تظهر الموجودات بحركتها إلى الفعلية وفي زمان معين؟

ولسنا بحاجة إلى بذل جهد كبير لبيان مفهوم الحركة والتطور، مع ما يمارسه كُلِّ منّا في حياته اليومية من تطبيق عملي لهذا المفهوم. ذلك أنَّ الرجل الذي يمسك بأنبوب الماء ليرش الحديقة مؤمن بهذا التطور والحركة منسجم معها، فهو يعلم أنَّ البذرة بعد هذا الرش تتحول إلى نبتة، فزهرة، فثمرة، فبذرة... وهكذا.

والنطفة تتحول إلى مضغة فعلقة، فقطعة من اللحم الذي يكسو العظم، فجنين يولد، ثم يكبر ... وهكذا.

واللقمة التي نأكلها تتحول إلى عصارة تمتزج بمجموعة من المواد داخل الجسم، ليمتصها الدم، فتتحول إلى سعرات حرارية تحرك العضلات ونمارس بذلك نشاطاتنا.

وهذا معنى كون الحركة خروجاً تدريجياً من القوة إلى الفعل، ففي الحالة الأولى بذرة ولكنها تستطيع أن تصبح نبتة، فهي بذرة بالفعل ونبتة بالقوة، وفي الحالة الثانية نبتة بالفعل وزهرة بالقوة، وفي الحالة الثالثة زهرة بالفعل وثمرة بالقوة، وهكذا.

بطلان التسلسل:

رأينا إنَّ الدليلين السابقين كانا يعتمدان على إبطال التسلسل، ورغم أن بطلانه من الأمور الواضحة المتسالم عليها في المنطق، فقد سلك الفلاسفة طرقاً عديدة للبرهنة على بطلان التسلسل في العلل والمعاليل بمعنى عدم انتهائها إلى حد معين تقف عنده. و قد فصل العلامة الحلي في (كشف المراد) هذه الأدلة فمن أراد التفصيل فليراجع[٥].

وإليك تخطيطاً يوضح التسلسل في العلل والمعاليل:

أ معلول - ب علة أ / جعلة ب / د علة ج/ ه علة د / وعلة ه/ - ه علة ... إلخ

ولنا أن نستغني عن البراهين الفلسفية المطولة بالمثال الآتي:

لنفرض أن طلاب إحدى المدارس قرروا أن يجمعوا التبرعات لإغاثة إخوانهم المُشَرَّدين أو المنكوبين، ولميتقدم واحد منهم لهذا الامر، بل أَوْكَلَ كُلٌّ منهم قيامه بجمع التبرعات إلى قيام زميله، وهكذا الطالب الثاني جعل قيامه بهذا الأمر متوقفاً على قيام الثالث، وكذا الثالث اعتمد على رابع، والرابع على خامس ... وهكذا حتى الطالب الثلاثين الذي هو بدوره قال: إني لا أبدأ بجمع التبرعات ما لم يُقدم على هذا الأمر غيري من طلاب سائر المدارس وهكذا... ماذا ستكون النتيجة؟ لا شيء.

إنما نحصل على النتيجة عندما يقوم أحد الطلاب ليقول: إني أجمع التبرعات من دون توقف على الغير.

وهنا تنقطع السلسلة وتقف عن الاستمرار إلى اللانهاية ...

هذا المثال يوضح لنا بطلان الاستمرار في سلسلة الممكنات إلى ما لا نهاية له، ويدلنا على الحاجة إلى (واجب الوجود) الذي لا يتوقف وجوده على غيره، ولايحتاج إلى علة.[٦]

تقرير آخر

فإنا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم بما فيه من الخليقة المنتظمة، فلابد وأن نقول بأن الصدفة هي التي أوجدتها أو أن الطبيعة هي التي خلقتها...

بأن تكون هذه المجموعات الكبيرة الدقيقة الضخمة، في هذا العالم الكبير وجدت بنحو الصدفة وتحققت بنحو المصادفة. لكن من الواضح أنه لا يقبل حتى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وُجدت بنفسها بالصدفة العمياء أو بالطبيعة الصماء... .

بل حتى عقل الماديين و الطبيعيين - كما تلاحظه في حياتهم - لا يقبل الصدفة. لذلك تراهم يبحثون عن سبب جريمة صغيرة وقعت في بلادهم و فوجئوا بها في دولتهم و يتفحصون عن علتها. ولا يقبلون الصدفة فيها، وترى طبيبهم الملحد - مثلاً - يصرف مدة مديدة، وساعات عديدة من عمره في سبيل معرفة سبب وجود غدة صغيرة في جسم إنسان مريض تصدي لمعالجته، ولا يقبل أن يؤمن بأنها وجدت بنحو الصدفة و الاتفاق، أو أوجدتها طبيعة الآفاق...

فكيف بهذه البدايع العظيمة في هذا العالم العظيم، هل يمكن قبول أنها وجدت بالاتفاق والصدفة؟!

والصدفة إن أمكنتها خلق شيء فلابد وأن تكون موجودة هي بنفسها... فيسأل من هو موجدها؟ وإن لم تكن موجودة فيقال: إن المعدوم لا يمكنه إيجاد شيء. على أن الصدفة العمياء شاردة غير منتظرة، لا تخضع لأي حساب وقانون، بل تخالف الحسابات العلمية، فكيف يمكنها أن توجد هذه الخلائق الكونية التي تُبهر العقول و تُدهش العقلاء؟

وكيف يمكنها أن توجد المادة الأولى لهذا العالم كما يزعمون حتى يكون العالم مادياً؟

وكيف يمكنها أن توجد تكاملها و علية موجوداتها فيما بينها - كما يدعون - حتى يكون العالم صدفياً؟ والحال أن الصدفة عمياء صماء، و ليس لها حظ من العطاء.

ولنبرهن على هذا الأمر بدليل عقلي علمي وجداني، ونفرض أن كتاباً صغيراً مرتباً على مئة صفحة قد فُرقت أوراقه وخُلطت أعداده ثم أعطيت بيد شخص أعمى حتى يُرتبها وينظم صفحاتها بواسطة سحب تلك الأوراق مسلسلة إحداها بعد الأخرى...

ترى ما هي نسبة احتمال الموفقية بأن يكون السحب الأول مصيباً للورق الأول؟ الجواب: ۱٪

ثم ما هي نسبة احتمال أن يكون السحب الثاني مصيباً أيضاً للورق الثاني؟ الجواب: ۱/۱۰۰۰۰ و ذلك بعملية (۱/۱۰۰×۱/۱۰۰۰= ۱/۱۰۰۰۰).

ثم ما هي نسبة أن يكون السحب الثالث أيضاً مصيباً للورق الثالث؟ الجواب: ۱/۱۰۰۰۰۰۰ و ذلك بعملية (۱/۱۰۰×۱/۱۰۰۰×۱/۱۰۰۰= ۱/۱۰۰۰۰۰۰).

وهكذا... و هلم جرّاً إلى موفقية تنظيم إصابة السحب المئوي للورق المئة بنتيجة عددٍ تفوق المليارات و يستغرق حسابها الساعات.

هذه نسبة الصدفة في كتاب صغير فكيف بنسبة موفقية الصدفة بالنسبة إلى هذا العالم الكبير؟

وهل يقبل العقل أو يصدق الوجدان صدفية هذا النظام السماوي و الأرضي المنتسق بهذا التنسيق البهيج؟

وهل يمكن قبول كون أساس العالم و مادته المتكاملة موجودة بالصدفة كما يدّعون؟ كلا ثم ألف كلا!!

والحساب المنطقي الواضح هو أنه إذا لم تصدق الصدفة صدق ضده و هو الخلق و التقدير لأنهما ضدان لا ثالث لهما، لا يجتمعان ولا يرتفعان... ومن المسلَّم أن كذب أحدهما يستلزم صدق الآخر، فعدم إمكان الصدفة يستلزم صدق التقدير.

فتكون الخليقة موجودة بخلق و تقدير، وهو يدل على وجود المقدر الخبير، وهو الله (جل جلاله).[٧]

المراجع والمصادر

  1. السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية
  2. السيد علي الحسيني الصدر، العقائد الحقة

الهوامش

  1. أصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي، تعليق الشيخ مرتضى المطهري، ج۵، ص۶۰.
  2. حكمت إلهي للأستاذ مهدي إلهي قمشه‌اي، ج۱، ص۲۲۵.
  3. و لتوضيح ذلك نقول: إما أن نفرض الحركة خارجة عن حقيقة المادة أو داخلة في صميمها (جوهرية)، فعلى الأول تحتاج الحركة إلى محرك، وعلى الثاني تكون حاجتها إلى المحرك أشد لمحدودية المادة.
  4. تلخيص (تعاون الدين والعلم)، ص۱۷۱، للأستاذ الشيخ محمدتقي الجعفري.
  5. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص۶۷ – ۶۸.
  6. السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص 24-28.
  7. السيد علي الحسيني الصدر، العقائد الحقة، ص: 37-40.