حديث الغدير
تمهيد
من أكثر النصوص الروائية استحكاماً و قوة على إمامة علي(ع) هي خطبة النبي(ص) التي ذكرها في حجة الوداع في مكان يُسمى غدير خم، ثمّ عرفت بحديث الغدير. لابد من أن نلقي نظرة مختصرة على واقعة الغدير، ثمّ نوضّح دلالتها على خلافة على(ع) للنبي(ص) بلا فصل.
في السنة العاشرة للهجرة توجه النبي(ص) إلى مكة لأداء مناسك الحج و دعا الناس للخروج معه، فخرج معه آلاف الناس، و هذه كانت آخر حجة للرسول(ص) و من هنا عرفت بحجة الوداع، و في طريق العودة من المدينة يوم الخميس الموافق ۱۸ من ذي الحجة نزلت آية التبليغ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...﴾[١] على الرسول الأكرم(ص)، فاستجاب لأوامر الله و قام بإبلاغ الرسالة في منطقة تُسمى غدير خمّ، و هي محل افتراق طرق المدينة و مصر و العراق، فدعا القافلة إلى التوقف، و كان الحر شديداً جداً إلى درجة أن الرجل يضع بعض ردائه على رأسه و بعضه تحت قدميه، وانتظر النبي(ص) حتى يرجع من تقدّم القافلة و يصل من تأخر عنها، ثم صلى بهم صلاة الظهر جماعة، ثمّ ارتقى منبراً صنع له من أقتاب الإبل و تحدث بصوت عالٍ، فحمد الله و أثنى عليه و ذكر شهادة التوحيد و الرسالة، ثم قال: أيها الناس إني أوشكتُ أن أدعى فأجبت و إني مسؤول و أنتم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت و نصحت، وجهدت، فجزاك الله خيراً، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، و أنّ محمداً عبده و رسوله، و أن جنته حق و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك....، - بعد أن أشهد الناس على التوحيد و النبوة و المعاد - قال: فإني فرطٌ على الحوض، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين، فنادى مناد: و ما الثقلان يا رسول الله؟، قال: الثقل الأكبر: كتاب الله، و الآخر الأصغر: عترتي، و أنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فلا تقدَّموهما فتهلكوا، ثم أخذ بيد علي(ع) فرفعها، حتى رؤيا بياض آباطهما، و عرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟، قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: إنّ الله مولاي و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات، ثم قال: اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحب من أحبه و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[٢]، فقال رسول الله(ص): الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و الولاية لعلي من بعدي، ثم أخذ الناس يهنئون علياً، و ممن هنّأه في مقدم الصحابة عمر الذي كان يقول: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، فاستأذن حسان الشاعر من رسول الله(ص) أن يقول في الغدير شعراً[٣]. و بالتأمل في واقعة الغدير و كلام النبي(ص) يتضح أن النبي(ص) بالرغم من إعلانه في مناسبات متعددة عن خلافة علي للناس إلا أنّ الإعلان الرسمي و العام لها كان يوم الغدير بحيث تمت الحجة على الجميع و لم يبقَ أيّ عذر للإنكار. من هنا فإنّ دلالة حديث الغدير على خلافة علي(ع) واضحة جداً و لا تحتاج إلى توضيح، لكن مع ذلك سنُشير إلى بعض النقاط و ذلك لإغلاق باب الشك و الترديد:
سند حديث الغدير
إن حديث الغدير من الأحاديث المتواترة حيث نقل حديث الغدير ۱۱۰ من أصحاب النبي(ص) و ۸۴ شخص من التابعين، و قد ذكره أكثر من ۳۶۰ عالم و محدث إسلامي طوال مئات السنوات الماضية[٤].
دلالة حديث الغدير على إمامة علي(ع)
متن حدیث الغدير يدل دلالة قطعية على خلافة علي(ع) للنبي(ص) بلا فصل، خاصة عندما نتأمل الشروط الزمانية و المكانية التي وقع فيها ذلك الحدث، و عبارة «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» تُبيّن أنّ كل من كان النبي مولاه فعليٌ كذلك، كلمة (مولى) على وزن (مَفْعَل)، مأخوذة من (وَلِي)، و قد ذكر لها أهل اللغة معانٍ عدة: مالك، عبد، مُعتِق، معتَق، صاحب، قريب، جار، حليف، ابن، عم، نزيل، شريك، ابن الأخت، ولي، رب، ناصر، مُنعِم، منعَم عليه، محب، تابع، صهر، والأولى بالتصرف[٥]، و ينبغي هنا أن نتأمّل فأيّ معنى من هذه المعاني المذكورة هو المعنى المراد في حديث الغدير؟ بالالتفات إلى مجموعة القرائن الموجودة في حديث الغدير و الشواهد المرتبطة بواقعة غدير خم، المعنى الوحيد الذي يُمكن أن يكون هو المقصود، هو "الأولى بالتصرف"، و عندما يشمل ذلك التصرف كل الأمة، فإنّ معناه الإمامة، و يكفي (التأمل في النقاط التالية) لإثبات المدعى:
بعض المعاني المذكورة ل (مولى) لا يُمكن أن تكون هي المُراد، فلا يُمكن مثلاً أن يُقصد من المولى (الرب) لأنّ ذلك يعني أن تُعدّ عبارة «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» من الكفريات! كما أنّ إرادة بعض المعاني الأخرى ينتج عنها عدم صحة كلام النبي(ص)، فمن الواضح أنّ النبي(ص) و علي(ع) لم يكونا عبدين ليُعتقا!، من هنا كان المقصود من (مولى) بعيد عن هذه المفاهيم.
بعض المعاني الأخرى افتراضها لا يؤدّي إلى الكفر أو عدم الصدق، إلا أنّ احتمالها ينتفي بالالتفات إلى الشروط الحاكمة على واقعة الغدير. أشرنا أنّ النبي(ص) أمر عشرات الآلاف من الحجاج بالتوقف في غدير خم في يوم شديد الحرارة و صبر حتى يرجع من تقدّم عليهم و يلتحق بهم من تأخر عنهم، حتى يخطب في الجميع، فمن البديهي أنّ أيّ عاقل سوف يتوقع من النبي(ص) خبراً مصيرياً مهماً، خبر ليس من مصلحة الإسلام و الأمة الإسلامية تأجيله، و المطلوب أن يصل إلى أسماع أكبر عدد ممكن من المسلمين. ففي هذه الحالة كيف يُمكن القول أن مُراد النبي من (مولى) مفاهيم مثل المحب، الشريك المحب و الناصر، هل يُمكن التصديق بأنّ النبي(ص) أوقف عشرات الآلاف الناس في تلك الشروط الصعبة لكي يقول لهم فقط أنّ كل من ينصرني فلينصر على(ع) أو كل من يحبني فليحب علي!
بالإضافة إلى ما ذُكِر، توجد عبارات في متن حدیث الغدير تُشير إلى أنّ المعنى المُراد من (مولى) هو (الأولى بالتصرف) و هي عبارة أخرى عن إمامة علي(ع) و خلافته، مثلاً يُمكن التأمل في عبارة «ألست أولى بكم من أنفسكم» بالتأكيد إنّ مراد النبي(ص) من العبارة هو أخذ شهادة الناس على زعامته الإلهية، فالقائد الإلهي هو الوحيد الذي له الأولوية على أمور الناس، فهو الأولى و له حق التصرف المطلق في شؤونهم، ثم انظروا قول النبي(ص) «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» استعمل الفاء للتفريع، مما يُشير إلى أنّ المقصود من (مولى) هو الأولى بالتصرف و الا لِمَ التفريع؟!، كذلك توجد مضامين دعائية في نهاية الحديث، لا يصح ذكرها إلا إذا كان لعلي(ع) مقام رفيع، كمقام الإمامة و هي عبارة: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه» إلى «وَاخْذُلُ مَنْ خَذَلَهُ». حدثت وقائع بعد خطبة النبي(ص) مباشرة تعتبر من القرائن القطعية على المدعى كما أُشير في نقل حديث الغدير سابقاً، بعد إتمام الخطبة نزلت آية الإكمال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فكبر النبي(ص) على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الله برسالته و ولاية علي(ع) من بعده، و من الواضح أنّ الإتيان بولاية علي(ع) في سياق أمور مثل إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الله على رسالة النبي(ص) لا ينسجم، إلا إذا كان المقصود من ذلك الأمر هو الإمامة و القيادة. و عبارة (من بعدي) في جملة «وَ الْوَلَايَةِ لِعَلِيٍّ مِنْ بَعْدِي» شاهد آخر على أن مقصود النبي(ص) هو خلافة على(ع) و إلا فلا وجه للقيد المذكور.
تهنئة الأصحاب لعليا(ع) و فرحهم بعد إتمام الخطبة في عبارة «قَدْ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ» و الأشعار التي ذُكرت بعد واقعة الغدير في شأن تلك الحادثة الكبرى، كلها شواهد على أنّ أصحاب النبي(ص) تلقوا حديث الغدير بعنوانه إعلاناً رسمياً لإمامة علي(ع) و خلافته.
كما ذكرنا في بحث آية التبليغ، أنها نزلت يوم الغدير، حيث أُمر النبي(ص) بإبلاغ رسالة ما كان عدم إبلاغها يستلزم عدم تبليغ الرسالة كلها، فهل يُمكن تصور أن تكون تلك الرسالة المُراد إبلاغها هي صحبة علي(ع) و نصرته، و هل لذلك أهمية بحيث أن عدم إبلاغها يساوي نقصان رسالة النبي(ص)؟ هل يُمكن افتراض مسألة أخرى غير الإمامة التي تدلّ عليها معنى «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» من جهة، و من جهة أخرى عدم إعلانها يؤدّي إلى ضياع جهود النبي الأكرم طوال ٢٣ سنة؟
بالتوجه لما ذُكر لا يبقى مجال للشك من أنّ المقصود من (مولى) في حديث الغدير هو الأولى بالتصرف في شؤون الناس، و تنصيب علي(ع) في هذا المقام، بمعنى إمامته و خلافته [٦]، و من النماذج التي ذكرناها[٧] يتضح أنّ القرآن الكريم و السنة النبوية تتضمن مضامين دالة على إمامة علي(ع) و خلافته للنبي و أنّ إمامته منصوص عليها من الله و رسوله.
بل إنّ وجود النص على إمامة على(ع) يكفي في إثبات ادعاء الشيعة إلا أنه يُمكن من خلال التمسك بالقرآن و السنة إثبات انطباق كل الشروط اللازم توفرها في الإمامة[٨]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة المائدة: ۶۷.
- ↑ سورة المائدة: ۳.
- ↑ راجع: العلامة الأميني، الغدير، ج۲، ص٣۴ - ۴٢.
- ↑ راجع: العلامة الأميني، الغدير، ج۱، ص۱۴ و ۱۵.
- ↑ الفيروز آبادي، القاموس المحيط.
- ↑ إن شدة وضوح دلالة حديث الغدير على إمامة علي(ع) أدت باعتراف بعض علماء أهل السنة بذلك أمثال التفتازاني، الذي بعد أنّ بحث في معاني كلمة "مولى" قال أن المعنى الوحيد الذي يُمكن أن يكون هو المُراد منه في الحديث هو "أولى بالتصرف" ثم يستنتج قائلاً: "و لا خفاء في أنّ الولاية بالناس و التولي و المالكية لتدبير أمرهم و التصرف فيهم بمنزلة النبي و هو معنى الإمامة": التفتازاني، شرح المقاصد، ج۵، ص٢٧۴.
- ↑ ينقل العلامة الحلي ٢٨ رواية عن النبي الأكرم(ص)، جميعها تدلّ على إمامة علي(ع)، راجع: العلامة الحلي، نهج الحق و كشف الصدق، ص۲۱۲ – ۲۳۰.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٠٢-٥١٠.