روح الإنسان
تمهيد
إننا نعدّ أنفسنا من الموجودات الحيّة إلا أننا نختلف عنها في جهات أساسية، للإنسان خصوصيات، كالتعقل والاستدلال والاستنتاج والإيمان والعشق، وكل هذه ليست موجودة في بقية موجودات عالم الطبيعة. بالتأمّل في هذه الخصوصيات ندرك أنه ينبغي أن توجد حقيقة في وجود الإنسان تميّزه عن سائر الموجودات وهي تمثل منبع هذه الخصوصيات. هذه الحقيقة - مهما كانت إلا أنها- أمر مُغاير للظواهر المادية والجسمانية المشتركة بين الإنسان وبعض الموجودات الأخرى.
من جهة أخرى، بالتّأمل في أعماقنا نجد أنّ هناك حقيقة تختلف عن أبداننا الجسمانية ومظاهرها المادية، تلك الحقيقة التي نعبّر عنها ب (أنا) والتي نعتقد أنها ذواتنا. إنّ إدراك هذا الاختلاف سهل ويحصل بمجرد توجه الإنسان إلى أعماقه فيلمسه البشر بوجدانهم العامّ، إلا أنه يُمكن ذكر شواهد على هذا الاختلاف.[١]
شواهد على أن للإنسان بُعدين
قد يغفل الإنسان عن كل أعضائه الظاهرية وأجزائه الباطنية إلا أنه مطلع على (الأنا) ذاته، مما يدلّ على أنّ ذات الإنسان غير بدنه[٢]. يُمكننا إضافة البدن أو الأعضاء والجوارح إلى ذواتنا، فنقول بدني، يدي، قلبي، فالوجدان يدرك في هذه الموارد أنّ المضاف (البدن، اليد، القلب) غير المضاف إليه (الأنا). معرفتنا بأبداننا وأعضائنا يحصل عن طريق الحسّ، لكن علمنا بالذات ليس حسياً ولا يتأتّي بالتفكّر، بل هو حضوري، فالاختلاف في نحو إدراكنا لبدننا وذواتنا يدلّ على تغايُر هذين المدرَكين - يعني البدن والذات -. بالالتفات إلى الشواهد المذكورة لا يبقى مجال للشك في وجود بُعد آخر للإنسان يختلف عن بدنه. للإنسان بعدان أو ساحتان إحداهما بدنه الجسماني أو المادّي، والأخرى تلك الحقيقة التي نعبّر عنها بالذات أو الأنا. هذه الحقيقة هي التي تسمى في المضامين الدينية بالروح ويسميها الفلاسفة والمتكلمون ب النفس الإنسانية. سوف نستعمل هاتين الكلمتين (الروح) و(النفس) بمعنى واحد في الأبحاث التالية، ونقصد بهما الإشارة إلى البُعد الثاني من وجود الإنسان.[٣]
حقيقة الروح عند المتكلمين
اتّضح حتى الآن أنّ الإنسان موجود له ساحتان ساحة مادية وأخرى روحانية. إنّ التحقيق في البعد الجسماني (البدن) هو من وظائف بعض العلوم الطبيعية كالطب، أما المتكلمون فإنهم يهتمون بالبُعد الثاني ويبحثون في ماهيته. من خلال إلقاء نظرة على تاريخ الفكر الفلسفي والكلامي يتّضح أنّ البحث في حقيقة الروح الإنسانية من الأبحاث القديمة جداً، وقد ذُكرت فيه آراء كثيرة ومتنوعة لا يُمكننا البحث في جميعها[٤]، إلا أنّ أهم الآراء التي طُرحت بين المتكلمين المسلمين ولها أتباع معتدّ بهم هي ثلاثة آراء نذكرها كالتالي:
- لبدن الإنسان أجزاء أصلية لا تتغيّر منذ بدء عمره حتى نهايته، ونفس الإنسان ليست إلا هذه الأجزاء الأصلية[٥].
- نفس الإنسان جوهر جسماني، إلا أنه يختلف في ماهيته عن الجسم الذي نشأ منه البدن، فالنفس جسم لطيف نوراني وملكوتي تجري في أعماق البدن (كما تجري النار في أعماق الفحم) وانفصالها عن البدن يعني الموت[٦].
- النفس جوهر مجرد وغير جسماني وهي منزّهة عن خواص البدن، مثل: المكان والزمان، الجرم والحجم، والشكل.
بعض متكلّمي الشيعة مثل الشيخ المفيد، بني نوبخت والمحقّق نصير الدين الطوسي ومتكلمي المعتزلة، مثل: معمر بن عباد السلمي وبعض متكلّمي الأشاعرة، مثل: الغزالي والفخر الرازي وعامة الفلاسفة الإسلاميين، هؤلاء قبلوا بالرأي الأخير وأقاموا عليه الأدلّة[٧]
تجرد (الروح) النفس الإنسانية
يرى كثير من فلاسفة المسلمين وبعض المتكلمين أنّ البُعد الثاني من الوجود الإنسان - يعني الروح أو النفس - هي موجود مجرد غير مادي. وهؤلاء بالإضافة إلى تمسكهم بالشواهد النقلية (الآيات والروايات) التي سنُشير إليها، أقاموا أدلّة عقليّة على مدّعاهم. إنّ ذكر ونقد الأدلة العقليّة على تجرد الروح يتطلب أبحاثاً واسعة - خاصّة تلك الأدلّة الموجودة في مصادر الفلسفة - لا يُمكن نقلها هنا[٨]، لذلك نكتفي بذكر بعض النماذج من تلك الأدلّة المذكورة، وقبل ذلك سنُشير إلى تعريف المجرد.[٩]
ما هو الموجود المجرد؟
يستعمل مصطلح (المجرد) في المباحث الفلسفية والكلامية في قبال (المادي)، لذلك يُمكن أن نجعله مرادفاً إلى (غير المادي)، بالتالي فإننا بحاجة إلى فهم معنى (المادي) لكي يتضح معنى (المجرد).
نعم!، استعلمت المادة - سواء في العلوم العقلية كالفلسفة أو في العلوم الطبيعية كالفيزياء - بمعانٍ عديدة، ولكي لا نخرج عن مستوى الكتاب، فمن الأفضل أن نذكر بعض خصوصيات الموجود المادي، وبذلك نصل إلى تصور إجمالي عن البحث: الشيء المادي هو الذي له جرم وحجم ووزن ومكان، يعني أنه موجود في مكان بصورة دائمة وهو معروض الحركة المادية. كما أنّ للشيء المادي قابلية الإنقسام الخارجي بمعنى إمكانية تجزئته إلى جزئين أو أكثر (دائما). بالإضافة إلى ذلك يُمكن إدراك الشيء المادي – ولو من خلال الآليات - بالحواس الظاهرية حيث إنه يقبل الإشارة الحسية كما أنّ الشيء المادي مُتغير ومُتحول دائماً.
فمرادنا من المجرد هو ذلك الشيء الذي لا طريق للخواص المادية له، أي: هو خالٍ من الصفات المذكورة أعلاه. يبقى الإشارة إلى أنّ حكماء المسلمين يعتقدون أنّ الموجود المجرد على نوعين:
- مجرد تامّ: ليس له أيّ خاصية من خواص المادة.
- مجرد غير تام (مثالي أو برزخي): له شكل المادة فقط في حين أنه خالٍ من أوصافها الأخرى.[١٠]
الأدلة العقلية على تجرد الروح
تجرد العلم يحكي عن تجرد العالِم
يبتني الدليل الأوّل على تجرد العلم[١١]، وبيانه باختصار: أنّ الصور العلمية تفتقد خواص الأشياء المادية، مثل: الحاجة إلى مكان وقابيلة الإنقسام والإشارة الحسية، مثلاً: يُمكن التأمّل في وضع صور معقولة مثل الحيوان، الشجرة أو الإنسان. كل منّا لديه تصور لهذه المفاهيم الكليّة إلا أنّ هذه الصور ليست في مكان ولا تحلّ في محلّ، مثلاً: لا يُمكن أن تنطبع في موضع خاص في المخ أو غيره من أعضاء بدن الإنسان، لذلك فتلك الصور المذكورة غير قابلة للإشارة الحسّية، كما لا يُمكن تقسيمها إلى جزئين أو أكثر، بالإضافة إلى ذلك فإننا نلاحظ أنّ بعض علومنا لا تتغيّر مع مرور السنوات الطويلة بالرغم من أنّ الأمور المادية تتغيّر وتتحوّل باستمرار.
ما ذكرناه باختصار يبيّن صحة المقدّمة الأولى للاستدلال؛ يعني تجرد العلم والصور الإدراكية.
المقدّمة الثانية للاستدلال هي أنّ ما يقبل الموجود المجرد، هو أيضاً مجرد بالتأكيد، أي: لا يُمكن أن يكون مادياً، بعبارة أوضح: للأمور المادية أوصاف وأعراض مادية فقط. إنّ روح الإنسان التي تقبل الصور المجردة العلمية هي موجود مجرد غير مادي.
عدم قابلية الروح للانقسام
ذكرنا أنّ من خواص المادة قابليتها للتجزئة والإنقسام، بعبارة أخرى: لا يوجد شيء مادي بسيط، من جهة أخرى بعد التأمّل في ذواتنا، نلاحظ أنّ أرواحنا التي تعبر عنها ب (أنا) هي أمر بسيط لا ينقسم، بعبارة أخرى: لا يُمكننا أن نتصور أجزاء للذات (الأنا) مهما كانت الظروف، بل إننا نجد الذات (الروح أو النفس) شيئاً بسيطاً غير قابل للتجزئة وهذا العلم من نوع العلم الحضوري الذي لا يخطئ. إذن: روح الإنسان أمر بسيط، ولا شيء من البسيط مادي، فروح الإنسان ليست مادية.
ثبات روح الإنسان بالرغم من تحولات البدن الجسماني
لا شكّ أنّ أجزاء بدن الإنسان تتغيّر مع مرور الزمن، بحيث تتغيّر كل الخلايا القديمة مع مرور الوقت وتتبدّل بخلايا جديدة[١٢]، من جهة أخرى عندما نتأمّل في أعماقنا نجد أنّ هناك وحدة في الشخصية وهي تبقى محفوظة خلال التغيرات المادية للبدن، بحيث أنّ الإنسان المسِن يدرك أنه. هو نفسه الشخص الذي أمضى سنوات الطفولة والشباب، فالإنسان يجد (الأنا) ثابتة بالرغم من كل التحولات الجسمانية التي تعرض البدن، وهذا شاهد آخر على تجردها.[١٣]
حدوث أو قِدم النفس
يعتبر بحث حدوث أو قدم الروح من الأبحاث المهمة في باب معرفة الإنسان، الرأي المشهور بين الحكماء والمتكلمين هو أنّ النفس حادثة، لكن هناك من يعتقد بقدمها. واختلف أولئك الذين يعتقدون بحدوثها على نحوين: يرى البعض منهم أنّ الروح حادثة لكنها موجودة قبل خلق البدن وبعد أن يصبح البدن مستعد لقبول الروح يُخلق وعندها ترتبط به الروح، ويرى البعض الآخر – وهم أكثر الحكماء والمتكلمين المسلمين - أنّ الروح حادثة وقد خُلقت مع حدوث البدن، وأقام هؤلاء أدلّة متعددة على مُدّعاهم، نُشير هنا إلى أحدها وهو أشهرها عند المتكلمين[١٤].
الدليل على حدوث النفس مع حدوث البدن (في نفس الوقت)
إذا وُجدت النفس قبل حدوث البدن، فهي إما واحدة أو متكثّرة والاحتمال الأوّل باطل؛ لأنّ النفس الواحدة لو تعلّقت بعدّة أبدان مع حفظ وحدتها للزم اجتماع الضدين، حيث يجب أن تتصف النفس الواحدة الموجودة في أبدان متعددة بأوصاف متضادة (مثلاً: نفس واحدة هي في بدن شخص عالم، هي (العالم) في بدن شخص جاهل هي (جاهل))، وإذا تكثرت بعد التعلّق بالأبدان المتعدّدة فإنّ هذا الفرض يُخالف تجردها، حيث يستلزم انقسامها إلى أجزاء متعدّدة، والانقسام من خواص المادة. أما الاحتمال الثاني فهو باطل أيضاً وهو أن النفس متكثّرة قبل تعلّقها بالأبدان، لأنّ الأفراد تتكثّر لأحد أسباب ثلاثة: إما لاختلاف الذاتيات، أو للاختلاف في لوازم الذات أو للاختلاف في الأعراض، والفرضين الأوّلين باطلين؛ لأنه حسب الفرض النفوس الإنسانية هي أفراد نوع واحد ولا اختلاف فيها في الذاتيات ولوازم الذات.
الفرض الثالث أيضاً غير صحيح؛ لأنّ الاختلاف في الأعراض يتوقف على وجود مادة قابلة، في حين أن الفرض هو عدم وجود مادة قبل تعلق النفس بالبدن، بالتالي فإن فرض تقدّم النفس على البدن وحدوثها قبل حدوث البدن باطل بكل احتمالاته[١٥].[١٦]
تجرد النفس في الحدوث أو البقاء
بعد قبول تجرد النفس وحدوثها يُطرح سؤال هل النفس منذ خلقها هي موجود مجرد روحاني أو أنها تتجرّد بعد المرور بمراحل؟
في الجواب عن السؤال يوجد نظريتان:
- النفس الإنسانية حادثة وجوداً وستبقى حادثة إلى الأبد؛ بمعنى أنّ الله خلقها مجردة، وهذا هو رأي أكثر القائلين بتجرّد النفس، وبناءً عليه فإنّ روح الإنسان (روحانية الحدوث وروحانية البقاء).
- روح الإنسان خُلقت جسمانية، ثمّ تتكامل بالتدريج حتى تصل إلى التجرّد، فتبقى مجردة إلى الأبد (يعني جسمانية الحدوث وروحانية البقاء)، هذه النظرية من ابتكارات الفيلسوف الإسلامي المشهور صدر الدين الشيرازي (ملاصدرا) وقَبِلَه من بَعدِه بعض الحكماء والمتكلمين المسلمين[١٧]. لقد ذكر الحكماء المسلمين مباحث أخرى في باب النفس وعلاقتها بالبدن لن نذكرها حتى لا نطيل البحث [١٨]
الأبعاد الوجودية للإنسان في القرآن
اتضح حتى الآن أنّ للإنسان بُعدين أساسيين هما البدن الموجود المادي الجسماني، والذي تصدق عليه أحكام المادة وخواصها، والآخر الروح غير المادية المجردة.
بعض الآيات أشارت إلى البُعد الجسماني، منها تلك الآيات التي ذكرت كيفية خلق الإنسان من عناصر مادية[١٩]:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾[٢٠]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾[٢١]، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾[٢٢]، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾[٢٣]. هذه المجموعة من الآيات القرآنية تُشير إلى البُعد المادي من وجود الإنسان. توجد آيات أخرى تُبيّن أنّ خلقة الإنسان غير منحصرة في البُعد المادي وأنّ البنية الجسمانية للإنسان تتكامل حتى تصل إلى مرتبة وجودية جديدة، يُعبّر عنها القرآن بنفخ الروح[٢٤]: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾[٢٥].
و في آية أخرى عبرت عن المرتبة الجديدة بالخلق الآخر، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾[٢٦]، يُستفاد من مجموع الآيات المذكورة أنّ للإنسان بُعدين وجوديين أحدهما مادي يتكامل بالتدريج والآخر روحاني، وهو أولاً منسوب الله (روحه)، ثانياً هو خلق آخر يختلف عن البُعد المادي ﴿أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، بذلك يُمكن القول أنّ القرآن الكريم يرى بأنّ للإنسان بُعدين.[٢٧]
الروح وتجردها في القرآن
استُعملت كلمة (روح) في القرآن الكريم في عدّة موارد، بعضها أُريد بها روح الإنسان. وذكرنا أنّ القرآن يرى أنّ للإنسان بُعداً روحانياً يختلف عن البُعد الجسماني، ولكن هل هذا الاختلاف هو كاختلاف الموجود المادي عن المجرد؟ هل الروح مجردة؟
يعتقد القائلون بتجرّد الروح أنّ في القرآن آيات تدلّ على ذلك منها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[٢٨]، نعم!، اختلف المفسرون في تفسير الآية المذكورة، ذُكرت عدّة أقوال في المقصود من الروح في الآية، فرأيٌ يقول أنّ المقصود من الروح هو روح الإنسان، أو مطلق الروح (فتشمل الروح الإنسانية أيضاً)، هنا سُئل النبي(ص) عن حقيقة الروح فأجاب هي من أمر ربي، وبالرجوع إلى آيات أخرى نجد أنّ الموجود الأمري خلقه ليس تدريجياً ولا يتوقف على مقدّمات وأسباب مادية ولا يحتاج إلى مكان، بالتالي هو مجرد غير مادي[٢٩].
هناك آيات في سورة المؤمنون تُشير إلى تجرد الروح أيضاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[٣٠]، بعد أنّ ذكرت الآيات المراحل التدريجية للتكوّن المادي، أشارت إلى خلق آخر ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، حيث يظهر أنه غير مرتبط بخلقة الإنسان المادية، خاصّة أنه على خلاف الأجزاء السابقة، هنا لم يُستعمل هذا التغيّر كأن يُقال (خلقنا العظام خلقاً آخر) فضمير أنشأناه يرجع إلى الإنسان، فالعبارة – مع الأخذ بعين الاعتبار الشواهد المذكورة في الآية- تُشير إلى مراحل أخرى من مراحل خلقة الإنسان تختلف عن مراحل خلقه المادي، ولأنّ تلك المرحلة غير محسوسة، لذلك لا يُمكن تبيينها بمفاهيم محسوسة، هذه المرحلة هي ارتباط الروح المجردة بالبدن المادي [٣١].[٣٢]
اثبات وجود الروح
يتم إثبات الروح بأسلوبين مختلفين:
أولاً: البراهين العلمية والفلسفية
و هذه البراهين يمككننا أنْ نبينها من خلال عدة أدلة منها:
التغيير المادي في المخ وثبات المعرفة
إنَّ هذا البرهان هو من البراهين القوية التي تثبت المراد، فإنه لا يوجد موجود مادي في حالة سكون وجمود، إذ كل الموجودات المادية خصوصاً الأحياء خاضعين للتحوُّل والتغير، يقول العالم الفرنسي ليون دني -أحد العلماء المختصين بالبحث عن الأرواح-: إنَّ علم الفيسيولوجيا يَدُّلنا ويثبت إنَّ جميع أعضاء البدن والأجهزة إنما تخضع لتأثير عاملين حياتيين، بحيث يكون في حالة تجديد وتبدل مستمر، وهذا التبديل والتحول المستمر في الخلايا تتأثر به كل أجزاء البدن، والخلايا القديمة تندثر لتحل محلها خلايا جديدة وبهذا يتدارك الجسد ما فاته من ضعف واندثار ويسلك طريق الشباب وبعدئذ يصل إلى مرحلة التكامل والكهولة.
أما هل المخ هو جزء من بدن الإنسان وهو المادة الرمادية المرطوبة أم مستثناة من الأعضاء الأخرى أم لا؟
والجواب هو إنَّ الخلايا أيضاً تخضع للتغير والتبدل وليس ثابتة.
إذن كيف نوفق بين التغيير المادي والتحول الذي يحصل في المخ في حين إنَّ المعرفة والمدركات ثابتة؟
إذا كان المخ في حالة تغيير مستمر كسائر الأعضاء والخلايا المندثرة فأين تستقر المعلومات التي عرفناها من قبل؟
إذاً نكتشف أنَّ العنصر المادي الموجود عندنا والمتمثل في الأعصاب وفي المخ وسائر الأجهزة الجسدية يتغير ويتبدل ولكن مع هذا التغير تبقى معلوماتنا منسجمة ثابتة، وهذا دليل على أنَّ شيئاً غير مادي يفسر لنا ثبات المعلومات عندنا.
عدم استيعاب المحدود واللامحدود
ويمكننا أنْ نقول عدم انطباق الصغير على الكبير، فمن الخواص الأساسية للمادة أنَّ الصغير لا ينطبق على الكبير، في حين إنَّ الإنسان يجد أنَّ الصور التي تكون في ذهنه عن أمور كبيرة كالجبال والبحار والصحاري والسماء والنجوم، كل هذه إنما يستطيع الإنسان أنْ يختزنها في ذهنه ويختزن ملايين المعلومات، إذاً كيف لايفيض ولايزدحم ولايضيق المخ بهذه المعلومات الواردة؟ حتى بالنسبة للكمبيوتر نجد أنَّ هناك كمية محدودة بحيث لايستقبل الجهاز أكثر من ذلك من المعلومات، في حين نجد أنَّ الفكر يظل يستوعب ويقول: هل من مزيد؟ ولايضيق بكثرة المعلومات الواردة عليه.
إذن هذا يدلنا على أنَّ عنصراً آخراً ليس مادياً يدل على أنَّ القدرة على الاستيعاب لا تكون في الجسم، لأنَّ الجسم محدود فلابد أنَّ هناك عنصر لا محدود وهذا يستطيع أنْ يستوعب اللامحدود من المعلومات والأفكار.
عدم القابلية للتجزئة والانقسام
من الخواص العامة للمادة قابلية الانقسام والتجزئة من أصغر الأشياء إلى أكبرها، في حين نجد أنَّ الإنسان يملك شخصية واحدة، هذه الشخصية لاتنقسم ولاتتجزأ، فلايستطيع أنْ يقول أحدٌ أنَّ هذه الزاوية يحتلها الوصف هذا، وهذه الزاوية يحتلها ذاك الوصف! فالحالات والصفات والخصوصيات الروحية والنفسية نجدها متداخلة تعبر عن حالة واحدة.[٣٣]
ثانياً: الأدلة التجريبية
- ظهور الروح بالقالب المثالي رغم المراقبة الإلكترونية.
- الإخبار عن الوقائع المستقبلية.
- ارتفاع الأجسام الثقيلة من دون عامل مادي.
- كتابة العبارات على أوراق مختومة ومغلفة.
- علاج بعض الأمراض المستعصية.
- التكلم بلغات أخرى غير لغة الأم.
- حل المسائل الرياضية والمعقدة ومسائل فلسفية علمية معقدة.
- استيحاش الكلاب عند ظهور الأرواح.
والقالب المثالي هو أشبه بالبورتريت الذي هو رسم تقريبي لهيكل الشخص أو لمكنوناته ومواصفاته. إذاً لابد من وجود شيء آخر يختلف عن الظوابط والمعايير المادية.[٣٤]
الأدلة على وجود الروح
الأدلة على وجود الروح عديدة وقد تعرضت مؤلفات العلماء لذكرها وإثباتها، ومن هذه الأدلة:
١. الاتصال بعالم الأرواح أو اسبرتزم
علم خاص ومذهب جديد نشأ في أمريكا وأوروبا وبعدئذ صار له كيان خاص بنفسه.
فمثلاً في بريطانيا كانت هناك لجنة علمية مكونة من كبار المعنيين بموضوع الروح والاتصال بالأرواح، ومن أعضاء هذه اللجنة[٣٥] عمل جهده وكتب خلاصة تجاربه وممارساته عن الروح والمشاهد التي رآها في كتابه[٣٦] فيقول في كتابه بأنه كان من المنكرين لهذا الموضوع والآن صار معتقداً به مائة بالمائة ويؤمن بأنَّ الارتباط بالروح أمر ميسور وأنَّ الأرواح هي حقيقية في نفسها التي تتجلى وتتحدث إلينا أحياناً وتخبرنا عن الزوايا المفقودة والمبهمة التي لا طريق لنا إليها.
وكذلك من المتحمسين كثيراً لفكرة الاتصال بالأرواح العالم البريطاني[٣٧] الذي كان عضواً في اللجنة الملكية العلمية أو الأكاديمية العلمية لبريطانيا، ألّف كتاباً تحت عنوان (التحقيقات الدقيقة حول ظهور الأرواح) يؤكد فيه أنه ليس ما ندركه من أنَّ عضلاتنا وقوانا الجسدية وأعضائنا البدنية هذه التي تتحرك وتُحرك وإنما المحرك الأصلي هو الروح، إذ يوجد عنصر آخر غير الجسم يستطيع أنْ يفعل ذلك كله.
رأي الماديين:
يَدَّعي الماديون أنَّ الاتصال بالأرواح خيال محض وتدليس.
ونقول في مناقشتهم:
- كان من بين الحاضرين في جلسات تحضير الأرواح علماء ومحققون أمثال[٣٨] وقد وجد أنَّ لجنة مكونة من ثلاثة وثلاثين عالماً في بريطانيا وهؤلاء كانوا من التحقيق العلمي الرفيع ويستحيل أنْ نسميهم بالسذج وأنْ نقول بأنَّ الخدع والإيهامات تنطلي عليهم، كلهم كانوا رجالاً محققين لهم خبرة واسعة في العلوم المختلفة ولا تنطلي عليهم الحيل وأعمال الشعبذة ولايخضعون للتدليس، هؤلاء كلهم سلموا بصحة الاتصال بالأرواح واستفادوا من ذلك.
- لم يكن الوسطاء أفراد معدودين مدربين للعب بخيال الناس أو هواة! وعلى ما يشرحه محمد فريد وجدي في دائرة المعارف القرن العشرين وفي كتابه[٣٩] يقول: بأنه أحياناً كان الوسطاء يستخدمون لإحضار الأرواح أطفالاً لا تتعدى أعمارهم عن التسعة أيام أو سنتين.
- علماء أمثال لمبروز وكروكس استفادوا من أدق الأدوات للتمييز بين الواقع والخيال.
۲. التنويم المغناطيسي: ويظهر بنماذج مختلفة
المظهر الأول: عبارة عن التسمر، والتسمر أنْ يصبح الجسد كخشبة يابسة فيصبح الجسم متقلصاً لا يبدي أي استجابة لأيِّ عامل فيزياوي أو كيمياوي.. فمثلاً إذا صُبَّ على الشخص الخاضع للتنويم المغناطيس الماء الحار أو البارد فلا يتأثر، والغريب أنه حتى لو أدخلتَ سكينة في بدنه لا يتحرك وهكذا...
هذا النوع يسمى بالتسمر الكامل أو التخشب الكامل بحيث يصبح جسده خالياً من أي إحساس وقد استفاد بعض الأطباء من هذه القضية في إجراء بعض العمليات الجراحية.
حيث أنه في حوالي سنة ۱۷۷۵م لأول مرة ظهر طبيب نمساوي اسمه[٤٠] صرح لأول مرة بجملة كانت هي البداية في التنويم المغناطيس في أصوله العلمية الجديدة، قال: توجد في الإنسان قدرة متحركة، قدرة سيالة لها تأثير مغناطيسي بإمكانها أنْ تنفذ إلى الآخرين وتؤثر فيهم. وادعى مسمر أنَّ بواسطة انتقال هذه القوة السيالة السابحة المغناطيسية في جسم الإنسان الذي يملك هذه الطاقة إلى داخل جسم الإنسان المريض يمكن الاستفادة منها في معالجة ذلك المريض، وقد استطاع (بويسكور) أحد تلامذة وأتباع مسمر أنْ يستفيد من أسلوب مسمر في العلاج واستطاع أنْ يثبتها كحقيقة علمية في ذلك تدريجياً اتسع المعنى هذا وصار علماً.
ونتيجة لذلك يصاب الشخص الذي أجريت عليه عملية التنويم المغناطيسي بحالة من التخشب الذي لايحس فيها شيء أبداً، فيستفاد من ذلك في العمليات الجراحية، ومن جملة الذين استفاد من ذلك الدكتور[٤١] الذي كان متخصصاً بالتخدير في مستشفى (سارك) في بريطانيا، وأجرى التنويم المغناطيسي على مجموعة من المرضى بدلاً من إعطائهم المخدر.
المظهر الثاني: عبارة عن الليونة الكاملة ويمكن التعبير عنه بالانسياب والمرونة، ففي هذه الحالة يحصل شيء من الارتخاء والانسياب بالنسبة إلى جسد الشخص الذي أخلد إلى النوم، فنجد بأنَّ هذا الشخص لايستطيع أنْ يقوم بأيِّ حركة، ولكن في هذه الحالة يتحدث عن تفاصيل وجزئيات الحوادث التي مرت في طفولته ويستطيع أنْ يقرأ كتاباً مغلقاً يتحدث عن أمور مستقبلية ويخبر عن أمور خفية... ! والغريب في هذا النوع بصراحة أنَّ الشخص بعد ما يستيقظ لا يتذكر أي شيء عن الأمور التي كان قد شاهدها في حالة نومه.
يقول أتباع المدرسة الروحية إنَّ هذه الأمور كلها إنما هي آثار وجود شيء آخر غير المادة في كيان الإنسان، والروح وحدها بمقدورها أنْ تقرأ كتاباً مغلقاً وأنْ تشاهد وراء الجدار وعن طريقها نستطيع أنْ نطلع على ضمائر الناس وما يدور في ذهنهم وأفكارهم. ولهذا ورد في الحديث الشريف: «اتقوا فراسةَ المؤمنِ فإنه ينظر بنور الله».
إذن فالروح هي التي تستطيع أنْ تقوم بأعمال جبارة خارقة للعادة.
المظهر الثالث: التله باتي أو الإيحاء المباشر، عبارة عن ارتباط روحي معين بين شخص وآخر بحيث يستجيب الآخر من دون وجود شيء اسمه التسمر أو التنويم المغناطيسي أو إحضار الأرواح أو العوامل المادية وهناك حقل خاص في علم النفس خصوصاً علم النفس الحديث يعني بتله باتي. فالعالم النفسي والفلكي المعروف[٤٢] يذكر في كتابه[٤٣] نماذج وشواهد كثيرة حول هذا الموضوع يمكن مراجعتها.
۳. الأحلام
للأحلام تفسيران:
التفسير المادي: هو الذي نشاهده عند فرويد وأتباع مدرسته، الذين يحاولون أنْ يفسروا كل شيء تفسيراً مادياً فقط، ويربطون بين ما يراه الإنسان في عالم الرؤيا وبين الأمور الأخرى التي تتلخص في الانفعال والاستجابة للغرائز وللحالات الخاصة الجسدية.
التفسير الرمزي: يقول التفسير الرمزي بأنَّ كل شيء له صورة رمزية معينة وبعبارة أخرى هناك عالم مادي وهناك عالم برزخي وهناك عالم مجرد، كما أنَّ الحياة تسير بهذا المنوال، حيث الحياة المادية ثم القبر وحياة البرزخ الحياة الثالثة في عالم المعاد يكون عالم التجرد، كذلك نجد بأنَّ الأمور إنما تظهر بالمظهر الخارجي أمامنا ولكن في الرؤيا تظهر بالمظهر الرمزي أو المثالي أو البرزخي، فمثلاً الصورة البرزخية للمؤذن أو المنادي هو الديك وهكذا ..[٤٤]
الرؤيا ووجود الروح
ويمكن أنْ نثبت وجود الروح عن طريق الرؤيا التي يشترك في موضوعها كل البشر، فإنها وإنْ كانت تختلف في النوع من إنسانٍ لآخرٍ ولكنها في الحقيقة والمبدأ لاتختلف فهي اتصال بعالمٍ آخرٍ غير البدن.
ونحاول أنْ نستعرض فيما يلي أنواع الرؤيا:
- الرؤيا صادقة.
- الرؤيا تحتاج إلى تأويل.
- أضغاث الأحلام.
وبغض النظر عن هذه الأنواع الثلاثة، سواء كانت رؤيا صادقة أو تحتاج إلى تأويل أو أضغاث أحلام، كل هذه الأحلام تفتح لنا نافذة على عالم أرحب من عالم المادة، إنما هو عالم الروح ومن خلال ذلك نثبت أنَّ الوجود ليس منحصراً في المادة، وأنَّ الروح لها دورها القوي في أعمال هذه الاتصالات، وهذه آية من آيات الله تعالى في الخلق، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [٤٥]، ففي هذه الآية إشارة إلى انتقال الإنسان في عالم الرؤيا إلى عالم أرحب وأوسع، والطرق التي تنفتح منها نافذة على عالم غير متناهٍ. وقد ورد في الحديث عن النبي(ص): «اَلرُّؤْيَا ثَلاَثَةٌ مِنْهَا تَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيطانِ لِيَحزُنَ بِهَا ابْنُ آدَمَ وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَيَراهُ فِي مَنَامِهِ ومِنْهَا جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ».
ومن الأمثلة على أنواع الرؤيا:
- الرؤيا الصريحة: مثل الرؤيا التي رآها إبراهيم(ع) كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [٤٦]، فقال إسماعيل(ع) في جواب ذلك: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[٤٧]، وكان صريحاً في ذلك، يعني الصورة التي رآها في المنام هي نفسها الصورة التي كان القرار أنْ تطبق في الخارج، إلا أنَّ الله تبارك وتعالى فدى إسماعيل من الذبح: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [٤٨]
- الرؤيا التي تحتاج إلى تفسير: مثل رؤيا يوسف(ع) حيث قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [٤٩]، والشمس والقمر هما أبواه(ع) والكواكب إخوانه.
- أضغاث الأحلام: وهى عبارة عن أمور مشوشة مضطربة وهذه الأمور المضطربة لاتكون صريحة ولاتكون من النوع الثاني وإنما قد يرى انعكاساً لما رآه في عالم اليقظة.
وهذه الأنواع الثلاثة قد يكون كل إنسانٍ مَرَّ بها فعلينا أنْ نتفكر في ذلك لنكون على بينة من العالم الآخر الذي يحيط بنا دون الإغراق في العالم المادي للجسد فقط.[٥٠]
حقيقة الروح
من الواضح حينما ينتهي عمر الإنسان يوارى جسده في الأرض ثم يتلاشى ويندثر فأين العنصر الذي بواسطته يكتسب الإنسان خلوداً؟
يُسأل الرسول(ص) عن الروح، كما قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[٥١]، في الحقيقة القرآن الكريم لم يرد عدم الإجابة على السؤال عن الروح، ولم يرد أنْ يُبقى الأمر غامضاً، فإلى جانب قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[٥٢]، نجد آية أخرى في القرآن تقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [٥٣]، وتشير هذه الآية إلى أنَّ الله تبارك وتعالى نوعين من الإبداع والإفاضة:
- نوع يتعلق بالعوامل الطبيعية وينسجم معها، محدود بفواصل الزمان والمكان، وهذا يعبر عنه القرآن الكريم ب(الخلق) خلقناكم، خلقكم، خلق السموات والأرض و..، فالخلق هنا هو الإفاضة الإلهية والإيجاد المنبعث من الله تبارك وتعالى، ولكن الإيجاد المتصل بالفواصل والأبعاد المادية والزمان والمكان والحركة، وهذا لابد وأنْ يكون تدريجياً ولذلك نجد الفكرة الصحيحة في خلق السموات والأرض في ستة أيام عبارة عن مراحل وفترات، فالله تبارك وتعالى كان بإمكانه -و هو القادر المطلق- أنْ يخلق الكون كله في لحظةٍ واحدةٍ، لكن مزية عالم الخلق أنه مرتبط بمفهوم التدريج وتحكمه القوانين والسنن الطبيعية من قبيل قانون الجاذبية، الحركة، الثرموديناميكيا الحرارية و....
- النوع الآخر من الإفاضة الإلهية يرتبط بعالم الأمر، فإنه ثابت لا تدريج فيه، والقرآن الكريم يصرح بذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [٥٤]، إنَّ عالم الأمر الذي هو في مقابل عالم الخلق لا يكون إلا دفعياً، لا يتناسب مع الزمان والمكان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [٥٥]، لذا نجد أنَّ القرآن نفسه يعطي صورة دقيقة جداً عن عالم الخلق وعالم الأمر، فعالم الخلق يرتبط بالعوالم المادية، وعالم الأمر يتعلق بالجوانب الدفعية التي تتصل بالمجرات، أما الشيء الثابت لايتدرج مع المادة ومع العوامل الطبيعية ومع الزمان والمكان، فحينما يسأل الرسول(ص) عن الروح يأتي الجواب قاطعاً صريحاً في دلالته: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [٥٦]، من عالم الأمر.[٥٧]
حقيقة الروح وتجردها
يقول الفلاسفة المسلمون هناك مجموعتان من المكنونات للإنسان: المجموعة الأولى تندرج تحتها الأعضاء كالعين والأذان والجلد والشعر و...، المجموعة الثانية يندرج تحتها الفكر، الاستنتاج، الحب والإرادة و...
فنجد هاتين المجموعتين لاتنسجمان مع بعضهما، فكل مجموعة لها خواصها ومزاياها وطابعها الذي تنفرد به، فالمجموعة الأولى من الأعضاء الجسدية نجدها قابلة للتقطيع والقياس والوزن دون الثانية.
إذاً فالإنسان ليس جسماً فقط وإنما هناك عامل روحي فيه، وإنَّ هذا التجرد وهذا العامل الروحي والجانب القوي المملوء بالفاعلية والنشاط يستند إلى عالم أرحب عن طريقه نصل إلى الخلود ونفهم سر المعاد.
ويمكننا أنْ نبين ذلك أيضاً بأنَّ النوع الأول من وجود الإنسان هو من الناحية الجسدية له سعة واستيعاب معين، لكن الروح حيث لا يمكن القبض عليها ولاحصرها ولاتقطيعها ولاتشريحها ولايمكن وزنها، لكن من الممكن أنْ يُحَمِّلَها الشخص ملايين الأشياء ومع ذلك توجد فيها قدرة على الاستيعاب.
فهذا العنصر الذي لا يخضع لمقياس ولايقسَّم ولو أنه تم تقسيمه فالأهم من ذلك كله أنَّ في انقسام الخلايا تبقى الروح محافظة على وحدتها، فالخلايا تنقسم وتتكاثر والانشطار يحصل ولكن يبقى عنصر معين لاينشطر ولاينقسم، بل يبقى هو بنفسه.
فالروح تبقى لغزاً لايُحل، سواء عند الماديين أو عند الفلاسفة الإلهيين.
وأما النوع الثاني من وجود الإنسان، ليس جزءً من أجزاء البدن ولايمكن قياسه بالأدوات والوسائل المادية، ولايمكن أنْ يُدرك بالحواس الظاهرية، هذا الأمر جعل البحث محتدماً بين الفلاسفة الإلهيين في أنَّ الروح تجلياتها ونشاطاتها من قبيل الإرادة والتصميم والإدراك والفكر والإيمان مستقلة عن المادة ومجردة عنها بحيث لاتملك طولاً ولاعرضاً، لا زماناً ولا مكاناً ولا تزول بزوال الجسد، ويبقى هذا العنصر هو الذي يحمل صفة الخلود.
فهل ما يراه الفلاسفة الإلهيون صحيحاً أم العكس وهو ما يراه الفلاسفة الماديون من أنَّ هذه الحقائق مادية جميعاً تابعة لصحة البدن، وهذه الروح تبقى مع الجسد ومرتبطة بخصائص الجسد، وقد أثبت علم التشريح إنَّ الخلايا أقوى ما تكون من التعويض حينما يكون الإنسان بين الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين سنة تقريباً، دائماً الخلايا عنده تتجدد، فالخلايا السابقة تندثر وتزول والجسد يتبدل، ولكن مع كل ذلك تبقى (الأنا) وحدة ثابتة، وبالتالي فالروح لا تخضع للمادة.
هناك نظريات متعددة حول أصل الروح وحقيقتها وهي كالتالي:
النظرية الأولى: الروح روحانية الحدوث والبقاء.
النظرية الثانية: الروح مادية الحدوث والبقاء.
النظرية الثالثة: الروح مادية الحدوث روحانية البقاء.
النظرية الرابعة: الروح روحانية الحدوث مادية البقاء
النظرية الأولى: إنَّ هناك روايات وأدلة سمعية كثيرة تؤيد هذا الرأي وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الفلاسفة اليونانيون، مثل أفلاطون ومن تبعه والفلاسفة الإسلاميون مثل ابن سينا فإنهم يؤيدون هذه النظرية، بأنَّ هذه الروح عنصر غير مادي منذ البداية وسيبقى عنصر غير مادي حتى النهاية.
النظرية الثانية: هي نظرية الماديين الذين ينكرون وجود كل شيء مجرد.
النظرية الثالثة: التي ابتدأها أول مرة صدر المتأهلين الشيرازي وبعده السبزواري واتِّباع مدرسته مثل العلامة الطباطبائي والشهيد مرتضى مطهري والشيخ جواد آملي وآخرون، لعلهم يميلون إلى هذه النظرية وهي أن بداية الروح كانت في تكونها جانب مادي، يعني لم تهبط من عالم أعلى وإنما لحظة حدوث النطفة، فهذا التكون تكون مادي ولكنه تدريجياً نجد الإشراقات الروحية أو النفسية تظهر.
النظرية الرابعة: هي إنَّ الروح في بدايتها وبداية تكون غير مادية ولكن بقاءها تخضع لعوامل المادة، يعني أنها عن طريق التناسخ تحل في الأجساد المختلفة.
وهناك نظرية تقول أنه لا شيء في هذا العالم المادي ومن عالم الجسم بثابت، وإنما هو في حالة تغير مستمر، والتفسير الفلسفي للحركة هو إنَّ الحركة خروج تدريجي من القوة إلى الفعل، والإيمان بهذا التحول والتحرك موجود في طبيعة كل إنسان، وإنَّ الحركة قانون عام شامل، وإنها تسيطر على كل مقولة في هذا الكون، إذاً فهذا العالم الطبيعي كله محكوم بالتغير والتحول، وهذا التغير والتحول لاينطبق على الإدراك الذهني والفكر لأنه لو كان الفكر كالمادة خاضعاً للتحول والتبدل فلا يمكن أنْ يكون عندنا شيء اسمه علم المنطق! لأنَّ ما أردنا أنْ نثبت به الفكر الصحيح قد تغير وتحول وتبدل وصار شيئاً آخر.
إذاً يجب أنْ نؤمن بأنَّ قانون حركة العالم في الكون لا ينطبق على الإدراك الفكري والفهم، فإننا من تغير المخ والخلايا العصبية وكونها متجددة ومن ثبات المدركات الفكرية نكتشف إنَّ هناك عنصرين مختلفين، عنصر مادي وعنصر غير مادي.[٥٨]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٩.
- ↑ راجع: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ج۲، ص۲۹۲.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٤٩-٥٥٠.
- ↑ راجع الأقوال المتعددة في النفس في كتاب الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج۶، ص۳۴۷ و۳۴۸؛ فاضل مقداد، إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص۳۸۸.
- ↑ راجع: فاضل مقداد، إرشاد الطالبين، ص۳۸۸.
- ↑ نسب شارح المقاصد هذا الرأي إلى جمهور المتكلمين: "و جمهورهم على أنه جسم مخالف بالماهيّة للجسم الذي يتولد منه الأعضاء، نورانيّ عِلويّ خفيفٌ حيّ لذاته نافذ في جواهر الأعضاء، سار فيها سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم، لا يتطرّق إليه بتول ولا انحلال. بقاءه في الأعضاء حياة وانتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت" التفتازاني، شرح المقاصد.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٠-٥٥٢.
- ↑ للاطلاع، راجع: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ج۲، ص۳۷۸ - ۳۸۱؛ وصدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، ج۸، ص۲۶۰ - ۳۰۳، والعلامة الحلي، كشف المراد، ص۱۹۵-۱۹۸.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٢.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٢-٥٥٣.
- ↑ يرى المشاء أن الصور الكلية والمعقولة فقط هي المجردة، أما ملاصدرا وأنصاره فيرون أنّ كل الصور الإدراكية تتميّز بنوع من التجرد، راجع: العلامة الطباطبائي، نهاية الحكمة، (مرحلة ۱۱، فصل ۱)، ص۲۱۱ - ۲۱۳.
- ↑ بالرغم من عدم تغير خلايا المخ وتبدلها طوال عمر الإنسان إلا أنّ المواد المكوّنة لها مُتغيّرة حتماً.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٣-٥٥٥.
- ↑ للاطلاع على الآراء الأخرى، راجع: أمير ديواني، حيات جاودانه، ص۶۵ و۶۶.
- ↑ العلامة الحلي، كشف المراد، ص۲۰۰؛ وابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص١۵٢.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٥-٥٥٦.
- ↑ ذكر ملا صدرا آراء بديعة ومتميزة تتناسب مع مبانية الفلسفية الخاصة، للاطلاع راجع: الأسفار، ج۸ و۹.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٦-٥٥٧.
- ↑ راجع: محمد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن، ج۱-۳.
- ↑ سورة المؤمنون: ۱۲.
- ↑ سورة الحجر: ۲۶.
- ↑ سورة الفاطر: ۱۱.
- ↑ سورة الانسان: ۲.
- ↑ استعملت عبارة "نفخ الروح" خمس مرات في القرآن، للاطلاع، راجع: محمد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن، ج۱-۳.
- ↑ سورة السجده: ۹.
- ↑ سورة المؤمنون: ۱۴.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٧-٥٥٨.
- ↑ سورة الاسراء: ۸۵.
- ↑ العلامة الطباطبائي، الميزان، ج۱۳، ص۱۹۵ – ۲۰۰.
- ↑ سورة المؤمنون: ۱۲-۱۴.
- ↑ محمد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن، ج۱-۳.
- ↑ محمد سعيدي مهر، دروس في علم الكلام الاسلامي، ص ٥٥٨-٥٦٠.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٩-٢٩١.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٩٢.
- ↑ الفريد رسل والاس.
- ↑ معاجز الروح وفلسفتها الجديدة.
- ↑ وليام كروكس.
- ↑ آلفريد وكاميل فلامريون.
- ↑ على أطلال المذهب المادي.
- ↑ فرانسوا اتنوان مسمر.
- ↑ فليب كارت.
- ↑ كاميل فلامريون.
- ↑ أسرار الموت.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٩٢-٢٩٧.
- ↑ الروم: ٢٣.
- ↑ الصافات: ۱۰۲.
- ↑ الصافات: ۱۰۲.
- ↑ الصافات: ۱۰۷.
- ↑ يوسف: ٤.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٩٧-٢٩٨.
- ↑ الإسراء: ٨٥.
- ↑ الإسراء: ٨٥.
- ↑ الأعراف: ٥٤
- ↑ القمر: ٥٠
- ↑ يس: ۸۲
- ↑ الإسراء: ٨٥.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٥-٢٨٦.
- ↑ السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية، ص ٢٨٦-٢٨٩.