سورة النساء
أهداف سورة النساء
سورة النساء سورة مدنية، وتسمى سورة النساء الكبرى، لتمييزها من سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق. وقد عنيت سورة النساء ببيان أحكام النساء واليتامى والأموال والمواريث والقتال وتحدثت عن أهل الكتاب وعن المنافقين وعن فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها وحثّت على التضامن والتكافل والتراحم وبيّنت حكم المحرّمات من النساء. كما حثت على التوبة ودعت إليها وسيلة للتطهّر ودليلا على تكامل الشخصية واستعادة الثقة بالنفس والشعور بالأمن والاطمئنان.
وعدد آيات سورة النساء ١٧٦ آية، وعدد كلماتها ٣٧٤٥ كلمة.
الوصية بالنساء واليتامى
بيّنت سورة النساء أن الزواج شركة تعاونية أساسها المودة والرحمة والوفاء والألفة. وساوت السورة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ثم بينت أن للرجال درجة على النساء، وهي درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل على المرأة، وبحكم الكدّ والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه على الزوجة والأسرة. وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد أو التسخير، وإنما هي زيادة في المسؤولية الاجتماعية.
وقد حث القرآن الزوجة على طاعة زوجها، في ما تجب الطاعة فيه، والاحتفاظ بالأسرار المنزلية والزوجية التي ينبغي ألّا يطّلع عليها غير الزوجين، كما أمر الرجل أن يقوم بحق الأسرة وأن ينفق عليها وأن يفي بالتزاماته نحوها. وجعل نفقة الرجل على أولاده، ورعايته لهم، نوعا من الكفاح والجهاد السلمي يثاب المؤمن على فعله، ويعاقب على تركه.
اليتامى
أمرت السورة بعد ذلك برعاية اليتامى والمحافظة على أموالهم، وإكرام اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه. وحذّرت السورة من إتلاف أموال اليتامى أو تبديدها، وحثّت على القيام بحقوقهم واختبارهم في المعاملات قبيل سن البلوغ، حتى يكون اليتيم مدربا على أنواع المعاملات والبيع والشراء عند ما يتسلّم أمواله.
وقد توعّدت السورة آكل مال اليتيم بالنار والسعير، والعذاب الشديد. وقد مهدت لهذه الأحكام في آياتها الأولى، فطلبت تقوى الله وصلة الرّحم، وأشعرت أنهم جميعا خلقوا من نفس واحدة، أي أن اليتيم، وإن كان من غير أسرتكم، فهو رحمكم وأخوكم فقوموا له بحق الأخوّة وحق الرحم، واعلموا أن الله الذي خلقكم من نفس واحدة، وربط بينكم بهذه الرحم الإنسانية العامة، رقيب عليكم يحصي أعمالكم، ويحيط بما في نفوسكم ويعلم ما تضمرون من خير أو شر فيحاسبكم عليه. وبعد هذا التمهيد، الذي من شأنه أن يملأ القلوب رحمة، يأمرهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة غير منقوصة، ويحذرهم من الاحتيال على أكلها من طريق المبادلة، أو من طريق المخالطة قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾[١].
أي لا تخلطوا مال اليتيم بمالكم ليكون ذلك وسيلة تستولون بها على مال اليتيم، تحت ستار الإصلاح بالبيع أو الشراء، بذريعة أنه منفعة لليتيم أو بالخلط والشركة، بذريعة أنه أفضل لليتيم.
وقد تحرّج أتقياء المسلمين من مخالطة اليتيم فأباح الله مخالطة اليتامى ما دام القصد حسنا والنية صادقة في نفع اليتيم، والله سبحانه مطلع على السرائر ومحاسب عليها.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾[٢].
المال والميراث
عنيت سورة النساء وغيرها بشأن المال، من طريق المحافظة عليه وتثميره، ونهت عن الإسراف والتبذير، وأمرت بالتوسط في النفقة والاعتدال فيها، لأن المال عصب الحياة، ولأن كل ما تتوقف عليه الحياة في أصلها وكمالها وسعادتها وعزّها، من علم وصحة وقوة واتساع عمران، لا سبيل للحصول عليه إلا بالمال. وقد نظر القرآن إلى الأموال هذه النظرة الواقعية فحذّر من تركها في أيدي السفهاء الذين لا يحافظون عليها ولا يحسنون التصرف بها. كما أمر بتحصيلها من طرق فيها الخير للناس، وفيها النشاط والحركة، وفيها عمارة الكون. لقد أمر بتحصيلها من طريق التجارة ومن طريق الصناعة والزراعة، وسمّى طلبها ابتغاء من فضل الله، كما وصفها نفسها بأنها زينة الحياة الدنيا ومتاعها. وبلغ من عناية القرآن بالأموال أنه طلب السعي في تحصيلها بمجرد الفراغ من أداء العبادة المفروضة. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[٣].
وتحدثت سورة النساء عن المواريث ونصيب كل وارث، فأمرت أن نبدأ أولا بتنفيذ وصية الميت وتسديد ديونه، ثم وضعت المبادئ الأساسية للميراث ونستخلص منها ما يأتي:
- إن مبنى التوريث في الإسلام أمران: نسبي وهو القرابة، وسببي وهو الزوجية.
- إنه، متى اجتمع في المستحقين ذكور وأناث، أخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن بعض خصوم الإسلام قد اتخذوا التفاوت، بين نصيبي الذكر والأنثى، مطعنا على الإسلام، وقالوا إن هذا من فروع هضم الإسلام لحق المرأة، والمرأة إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذّكر تتعدد مطالبه وتكثر تبعاته في الحياة: فهو ينفق على نفسه، وعلى زوجه، وعلى أبنائه.
ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوّج بها. أما الأنثى، فإنها لا تدفع مهرا ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها. وبينما نرى بعض التشريعات الوضعية تقضي بحرمان الأنثى كلّيا، أو حصر الميراث في أكبر الأبناء وحده، كما كانت الحال في بعض البلاد الأوروبية إلى وقت قريب، فإننا نجد تشريعا آخر يقضي بمساواتها بالذكر.
ونقارن ذلك بالإسلام فنجد أن منهجه في التوريث منهج وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لم يحرم الأنثى الميراث، بل أعطاها نصيبا مناسبا لظروفها في الحياة، وأعطى أخاها نصيبا مناسبا لتبعاته في الحياة.
وهذا هو شأن الإسلام في أحكامه وشرائعه، فهو يعتمد على الحكمة والعدل لأنه تشريع الحكيم العليم.
تعدد الزوجات
تحدثت سورة النساء عن تعدد الزوجات، فأباحته بشرط العدل بينهن.
فإذا خاف الإنسان من عدم العدل، فعليه الاقتصار على زوجة واحدة، فإن ذلك أدعى إلى صفاء الحياة ويسرها وتحقيق الهدف من الزواج، وهو المودة والرحمة.
ويرى الإمام محمد عبده أنّ تعدّد الزوجات أمر مضيّق فيه كل التضييق، فكأن الله سبحانه قد نهى عن التعدد.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾[٤].
أي إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللواتي تحت وصايتكم، كأن يكون الدافع لكم على الزواج بهن الطمع في مالهنّ، لا الحبّ ولا الرغبة في معاشرتهن، أو كأن تكون فوارق السن بينكم وبينهن كبيرة، أو كأن تهضموهن حقوقهن في مهر أمثالهن، إن خفتم ألا تعدلوا في اليتيمات فاطلبوا الزواج بسواهن من النساء.
وبمناسبة الحديث عن الزواج، امتد السياق إلى بيان حدود المباح من الزوجات فإذا هو مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، ولكن بشرط العدل بينهن، العدل في المعاملة وفي الحقوق الظاهرة. أما العدل في الشعور الباطن، فلا قبل به لإنسان، ولا تكليف به لإنسان، ما اتّقى إظهاره في المعاملة، وتأثيره على الحقوق المتعادلة. فإن وجد في نفسه ضعفا عن ذلك العدل، وخاف ألا يقدر على تحقيقه، فالحلال واحدة فقط وما سواها محظور: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ والنص الشرطي يحتم هذا المعنى هنا ويعلله بأن ذلك التحديد بواحدة في هذه الحالة أقرب إلى اجتناب الظلم والجور. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾[٥]. أي لا تجوروا وتظلموا.
والظلم حرام فالوسيلة إليه حرام، واجتناب الظلم واجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب.
فإذا كان العدل يتحقق بترك التعدد، فالاقتصار على الزوجة الواحدة واجب.
وفي ختام الآية وصية جديدة بالاقتصار على الزوجة الواحدة لأنه أدعى إلى العدل والاستقرار، والبعد عن الظلم وكثرة العيال.
شبهة تفتضح، وحجة تتّضح
تكلم الأوروبيون بكثير من الكلام المعسول، فمثلا (كانتى) يقول: «إن شرف الإنسان أسمى من أن يمتهن أو أن يجعل أداة متعة».
والحقيقة أن الأوروبيين هم الذين جعلوا الأخدان أداة متعة، فقط ومنعوهن حقوق الزوجية في النفقة أو الميراث أو إلصاق الولد، في حين أن الإسلام يحرم اتخاذ الأخدان والخليلات، يقول تعالى: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾[٦]. ويقول الرسول (ص): «إنّ الله لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا».
ونشأ عن كثرة الأخدان وانتشارهن في أوروبا انتشار الأمراض السارية الفظيعة، وقلة النسل لأن النسل إما أن يخنق، أو تجهض الحامل، أو يمنع الحمل. وهل غفل الأوروبيون عن المصير السيّئ الذي ينتظرهم إذا استمر الحال، فالكبير يموت والنشء يقتل؟... تنبهوا لذلك، فصدرت قوانين تقول مثلا: أبناء الزواج الحر، إذا اعترف بهم أبوهم، ألحقناهم به فينال الأولاد كل حقوق الأبناء. فهم تفادوا اسم الزوجة فقط، والأبناء منها يتمتعون بكل الحقوق.
وقد ذكر لنا أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز، أنه شاهد أثر الحروب في ألمانيا، ورأى النساء يطالبن هناك بتعدد الزوجات لتجد المرأة التي مات زوجها في الحرب من يكفلها وينفق عليها وعلى ما ينجب منها. وذكر لنا أن جمعية تألفت في ألمانيا تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق.
ومع ذلك فالإسلام لم يحرض على تعدد الزوجات بل قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾[٧]
وإذا استلهمنا روح النص ومراميه وجدنا أن التعدد رخصة، وهي رخصة ضرورية لحياة الجماعة في حالات كثيرة، وهي صمام أمان في هذه الحالات، ووقاية ليس في وسع البشرية الاستغناء عنها. ولم تجد البشرية حتى اليوم حلا أفضل منها، سواء في حالة إخلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإناث، عقب الحروب والأوبئة التي تجعل عدد الإناث في الأمة أحيانا ثلاثة أمثال عدد الذكور، أم في حالات مرض الزوجة أو عقمها، ورغبة الزوج في الإبقاء عليها أو حاجتها هي إليه، أو في الحالات التي يكون الرجل فيها ذا طاقة حيوية فائضة لا تستجيب لها الزوجة، أو لا تجد كفايتها في زوجة واحدة. وكلها حالات فطرية وواقعية لا سبيل إلى تجاهلها. وكل حل فيها، غير تعدد الزوجات، يفضي إلى عواقب أوخم خلقيا واجتماعيا. ضرورة تواجه ضرورة. ومع هذا، فهي مقيدة، في الإسلام، باستطاعة العدل والبعد عن الظلم والجور، وهو أقصى ما يمكن من الاحتياط.
التضامن الاجتماعي
حثت سورة النساء على صدق العقيدة والإخلاص لله في العبادة، كما حثت على الإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام اليتامى والمساكين والإحسان إلى الجار ورحمة الفقير والمحتاج ومساعدة الخدم والضعفاء، وحذّرت من البخل والكبر والرياء، ونهت عن الكفر والجحود ومعصية الله والرسول. وذلك في جملة آيات تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾[٨].
وهذه الآية وما بعدها دعوة عملية إلى «الضمان الاجتماعي»، وتحذير من البخل والشح، وبيان أن المال مال الله، وأن الغنيّ مستخلف عن الله في إدارته وتثميره وإنفاقه في نواحي الخير والبر. وقد فرض الله حقوقا للفقراء من مال الأغنياء فأوجب الزكاة والصدقة وحث على الإنفاق في سبيل الله.
وجعل طرق البر متعددة، منها صدقة الفطر في عيد الفطر، والأضحية في عيد الأضحى، والهدى في موسم الحج. وجعل الله موردا لا ينقطع لصلة الفقراء، ألا وهو الكفّارات التي أوجبها، ككفارة الظّهار، وكفارة اليمين، وكفارة صوم رمضان. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الكفارات إطعام المساكين أو كسوتهم. كما أوجب الله الوفاء بالنذر ولم يجعل الزكاة تطوّعا بل جعلها فريضة لازمة يثاب فاعلها ويعاقب جاحدها. ونلحظ أن الزكاة تتفاوت في نسبتها فتبدأ من ٥، ٢ وهي زكاة المال، وتصل إلى ٢٠ وهي زكاة الركاز والمعادن والبترول. وكلما كان عمل العبد أظهر، كانت نسبة الزكاة أقل كما في زكاة المال، وزكاة التجارة. وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر، كانت نسبة الزكاة أكثر كما في زكاة الزراعة وزكاة الركاز.
المحرّمات من النساء
انفردت سورة النساء بكثير من أحكام المجتمع، ولا سيما أحكام الأسرة والزوجية، كما انفردت ببيان مفصّل للمحرّمات من النساء، وبدأت ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾[٩].
ولا شك أن توارد رجل وابنه على امرأة واحدة، أمر ممقوت تنفر منه الفطر السليمة، وتمجّه الأذواق.
ثم جاءت بقية السورة ببقية المحرمات، فحرّمت زواج الإنسان بأمه وبابنته وبأخته من الرّضاعة ومن النسب، وحرمت زواج الرجل من بنات الأخ وبنات الأخت والأم من الرّضاعة، وحرمت أم الزوجة التي دخل بها زوجها، كما حرمت زواج الإنسان من زوجة ابنه وحرمت الجمع بين الأختين.
الحكمة من هذا التّحريم
إن الزواج وسيلة مشروعة لإمتاع النفس وإنجاب الذرية وتكوين الأسرة.
فإذا أبيح وتزوج الإنسان من أقرب الناس إليه كالأم والبنت، اصطدمت حقوق هؤلاء الأقارب بحقوق الزوجية، فالأم مثلا لها حق الطاعة والاحترام فلو اتخذها الإنسان زوجة، لكان له عليها حق القوامة وحق الطاعة والخضوع. فضلا عما هو غنيّ عن البيان من نفور الإنسان من هذا اللون من المتاع، فبهيميّة، أيّ بهيمية، أن يتمتع الرجل بأمه. ومثل هذا يقال في درجات القرابة الأخرى. فالخالة لها ما للأم، والعمة لها ما للأب، والأخت وابنتها وابنة الأخ، وابنة الإنسان التي هي قطعة منه، كل هؤلاء تستقبح الأذواق نكاحهن وافتراشهن، ولا يمكن أن يتصور المرء في هذا الوضع، إذا أبيح، إلا المفارقات والصعاب، وضعف النسل وسوء المنقلب.
ومثل هذا يقال أيضا في نكاح من حرمن من جهة الرضاع، فإن المرضع أمّ في الكرامة ولها حق الأم في وجوب الرعاية، وليس من شأن الإنسان أن يلتمس منها ما يلتمسه الرجل بالزوجية.
وقد حرمت السورة الجمع بين الأختين، والجمع بين الأم وابنتها حتى لا تقطع الأرحام، فإن المرأة تغار من ضرتها، وتفعل الكثير في سبيل إبعادها عن زوجها. ولو أبيح الجمع بين الأقارب لطعنت المرأة في أختها وفي أمها، ولأدركها نوع من الغيرة الشديدة فانقطعت بذلك صلاتها من النسب، وتعرضت بذلك الأمر إلى خطر شديد.
قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾[١٠].
مصادر التشريع في الإسلام
أمرت سورة النساء بالعدل في الحكم وأداء الأمانات إلى أهلها.
وبينت أن الأمانة والعدالة من أسباب الرقي والتقدم والسعادة في الدنيا والآخرة.
وبهذه المناسبة ذكرت السورة مصادر التشريع التي يجب أن يرجع إليها المسلمون في تصرفاتهم وأحكامهم وهي:
- القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله.
- سنة الرسول قولية كانت أم فعلية والعمل بها هو طاعة الرسول.
- رأي أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء وأرباب النظر في المصالح العامة كالجيش، والزراعة، والصناعة، والتعليم، كلّ في دائرة معرفته واختصاصه، والعمل بالرأي هو إطاعة أولي الأمر.
وهذه المصادر في الرجوع إليها مرتّبة على هذا النحو، فلا نرجع إلى السّنّة إلا بعد عدم العثور على الحكم في القرآن، فنرجع إلى السنة حينئذ، إما لمعرفة الحكم الذي لم يرد في القرآن، وإما لبيان المراد مما ورد في القرآن. ولا نلتجئ إلى رأي أولي الأمر إلا بعد عدم العثور على الحكم في السنة، وعندئذ نرجع إليهم ليجتهدوا رأيهم. وهذا الاجتهاد هو عنصر «الشورى» الذي عليه أمر المسلمين.
ومتى تحقق الاتفاق وجب العمل به ولا يصح الخروج عنه ما دامت وجوه النظر التي أدت إليه قائمة، وهو أساس فكرة الإجماع في الشريعة الإسلامية.
وقد انتفع به المسلمون كثيرا، واتسع به نطاق الفقه الإسلامي، وبخاصة في ما ليس منصوصا عليه في كتاب الله وسنة الرسول وهو يشمل إصدار حكم على حادثة مثل حادثة سابقة للاشتراك بينهما في المعنى الموجب لذلك الحكم، وهذا هو المعروف، في لغة الفقهاء والأصوليين، باسم «القياس» وقد بحثوه بحثا مستفيضا، بيّنوا فيه أركانه، وشرائطه، وعلته، وما ينقضه، وما لا ينقضه وما يجري فيه، وما لا يجري فيه، وقد تكفلت به كتب الأصول فليرجع إليها من يشاء. الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا ويشمل أيضا النظر في تعرف حكم الحادثة من طريق القواعد العامة وروح التشريع التي عرفت من جزئيات الكتاب، وتصرفات الرسول، وأخذت في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة. وهذا النوع هو المعروف بالاجتهاد من طريق الرأي وتقدير المصالح. وقد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم وتصرفاتهم لغير الله، ومنحهم حق التفكير والنظر والترجيح واختيار الأصلح، في دائرة ما رسمه من الأصول التشريعية، فلم يترك العقل وراء الأهواء والرغبات، ولم يقيده، في كل شيء، بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجد من شؤون الحياة، كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا.
وهنا نذكر بالأسف هذه الفكرة الخاطئة الظالمة التي ترى وقف الاجتهاد وإغلاق بابه، ونؤكد أن نعمة الله على المسلمين بفتح باب الاجتهاد لا يمكن أن تكون عرضة للزوال بكلمة قوم هالهم، أو هال من ينتمون إليهم من أرباب الحكم والسلطان، أن يكون في الأمة من يرفع لواء الحرية في الرأي والتفكير، فالشريعة الإسلامية شريعة عامة خالدة، صالحة لكل زمان ومكان.
وما على أهل العلم إلا أن يجتهدوا في تحصيل الرسائل التي يكونون بها أهلا للاجتهاد في معرفة حكم الله الذي أوكل معرفته، رأفة منه ورحمة، إلى عباده المؤمنين: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[١١].
واقرأ في هذا الموضوع كله قوله تعالى من السورة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[١٢].
القتال وأسباب النصر
عنيت سورة النساء بتنظيم شؤون المسلمين الداخلية، وحفظ كيانهم الخارجي. وقد حثت السورة على القتال ودعت إليه حيث يقول تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾[١٣].
وبينت السورة أهداف القتال في الإسلام. وهذه الأهداف تنحصر في رد العدوان وإشاعة الأمن والاستقرار، وحماية الدعوة، والقضاء على الفتن التي يثيرها أرباب المطامع والأهواء.
ومن ذلك نعلم أن الإسلام، حينما شرع القتال، نأى به عن جوانح الطمع والاستئثار، وإذلال الضعفاء، واتخذه طريقا إلى السلام العام بتركيز الحياة على موازين العدل والمساواة. وليصل المسلمون بالقتال إلى الغاية السامية التي أمر بها الله، لفت القرآن أنظار المؤمنين إلى أن للنصر أسبابا ووسائل هي:
- تقوية الروح المعنوية للأمة: فقد نزل القرآن روحا وحياة ومنهجا ورسالة، وتحول العرب بالقرآن إلى أمة عزيزة، متمسكة بالحق، ثابتة عليه، متحملة صنوف الأذى وألوان الاضطهاد. فلما أذن الله لها بالجهاد كانت لها راية النصر في أكثر معاركها، لأن لها، من يقينها وإيمانها، ما يكفل لها النصر والغلبة.
- إعداد القوة المادية وتنظيمها، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[١٤]. ويشمل ذلك فنون الحرب وأساليبها، ومعرفة أحدث أدواتها، وكيفية استعمالها.
- الشكر على النعماء ثقة بأن النصر من عند الله، فينبغي ألّا تأخذ المحارب نشوة النصر، فيخرج عن اتزانه، بل عليه أن يزداد تواضعا وخشوعا لعظمة الله، ويزيد في طاعة الله ونصره، لقوله سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾[١٥].
- الصبر على البأساء ثقة والتزاما بأن مع اليوم غدا، وبأن الأيام دول: يوم لك ويوم عليك، وأن الشجاعة صبر ساعة وليس الصبر هنا صبر الذليل المستكين، بل صبر المطمئن إلى قضاء الله وقدره، والمؤمن بحكمته، والمستعد ليوم آخر ينتصف فيه من عدوه. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[١٦].
- ومن أسباب النصر ثقة المؤمن بأن الأجل محدود، وأن الرزق محدود. فالشجاعة لا تنقص العمر، والجبن لا يزيده. ومن أسباب النصر طاعة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾[١٧].
- ومن أسباب النصر أخذ الحذر والحيطة والابتعاد عن اتخاذ بطانة مقرّبة من المنافقين والملحدين والخونة، قال تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾[١٨].
- تذكّر فضل الجهاد وثواب البذل والتضحية، وعقوبة التثاقل والفرار من الجهاد، وتذكر ما أعده الله للمجاهدين والمكافحين في سبيل الحق من عز الدنيا وشرف الآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾[١٩].
ترابط الآيات في سورة النساء
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النساء بعد سورة الممتحنة، ونزلت سورة الممتحنة عقب صلح الحديبية. وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة النساء في ما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأن كثيرا من الأحكام التي ذكرت فيها تتعلق بالنساء. وتبلغ آياتها ستا وسبعين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة في كثير من الأحكام التي شرعت بعد سورة البقرة، فذكر فيها ما شرع من هذه الأحكام، كما ذكر في سورة البقرة ما شرع من الأحكام في عهدها. وقد اشتملت سورة النساء مع هذا على بيان حال أهل الكتاب والمنافقين في الزمن الذي نزلت فيه، وكانوا قد غلوا في أمرهم مع المسلمين، وزادوا في إيذائهم عما كانوا عليه في الزمن الذي نزلت فيه سورتا البقرة وآل عمران، فقوبلوا، في هذه السورة، بما يليق بذلك من الشدة في الخطاب، وأمر المسلمون فيها باستعمال الشدة معهم، وكانوا يؤمرون في سورتي البقرة وآل عمران باللين معهم والصبر على أذاهم. وقد ابتدأت هذه السورة بآية جاءت مطلعا بارعا لما جاء بعدها من المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.
الأحكام، ثم جاء بعدها آيات كثيرة من الأحكام والشرائع، ثم استطرد منها إلى شرح أحوال اليهود من أهل الكتاب، ثم عاد السياق بعد ذلك إلى ما كان عليه من بيان الشرائع والأحكام، ثم استطرد منه إلى الكلام ثانيا في أحوال المنافقين وأهل الكتاب، ثم ختمت السورة بالعودة إلى سياقها الأول، ليكون آخرها مشاكلا، بهذا، لأولها.
وقد جاءت سورة النساء بعد سورتي البقرة وآل عمران: لأنها تشبههما في الطول، وفي ما تناولته من بيان بعض الأحكام العملية، وشرح بعض أحوال أهل الكتاب والمنافقين.
براعة المطلع
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾[٢٠]، فأمر الناس بالتقوى لما سيأتي في السورة من الأحكام. والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي. ثم ذكر أنه خلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها، لأن كثيرا من هذه الأحكام قد شرع لتنظيم العلاقة بين الزوجين ثم كرر الأمر بتقوى الله الذي يتساءلون به والأرحام ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[٢١].
أحكام اليتامى والسفهاء الآيات [٢- ٦]
ثم قال تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾[٢٢]، فأمرهم بأن يؤتوا اليتامى أموالهم بالإنفاق عليهم منها وتسليمها لهم بعد بلوغهم. ونهاهم أن يضموا أموالهم في الإنفاق، لتتميز أموالهم وحدها، ولا يدخل شيء منها في أموالهم. ثم أمرهم أن يتركوا نكاح اليتيمة إذا خافوا أن يطمعهم ذلك في أموالها وأموال إخوتها فلا يقسطوا فيها. ووسّع عليهم في نكاح غيرها إلى أربع، حتى لا يكون لهم عذر في نكاح اليتيمة في تلك الحالة، ثم أمرهم أن يؤتوا النساء مهورهن حتى لا يظنوا أنها بخلاف مهر اليتيمة يحلّ لهم الطمع فيها، وأحل لهم أن يأخذوا منها ما تطيب نفوسهن به، لأنهن يحلّ لهن التصرف فيها بخلاف اليتيمة لرشدهن، ثم نهاهم أن يؤتوا السفهاء من اليتامى وغيرهم أموالهم، وأمرهم أن يبتلوا اليتامى عند بلوغهم، فإذا ظهر أنهم غير سفهاء دفعت إليهم أموالهم. ثم أمر من كان منهم غنيا أن يعفّ عن أموال اليتامى، ومن كان فقيرا أن يأكل بالمعروف: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾[٢٣].
أحكام الميراث الآيات [٧- ١٤]
ثم قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾[٢٤] فذكر أن للرجال والنساء نصيبا في الميراث، وكانوا في الجاهلية يورثون الرجال دون النساء، وأمرهم إذا حضر قسمة الميراث أولو القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين أن يرزقوهم منه ما يليق بحالهم على طريق الهبة أو الهدية، وذكر أن الصغار يرثون كما يرث الكبار، وكانوا في الجاهلية لا يورثونهم لضعفهم. ثم حذرهم من أكل نصيبهم في الميراث كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وجعل ذلك جاريا مجرى أكل النار لأنه يستلزمه، ثم ذكر نصيب كل وارث ووعد من يطيعه بإعطاء كل وارث نصيبه جنات يخلد فيها، وأوعد من يتعدى ذلك ﴿نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[٢٥].
حكم الزنا واللواط الآيات [١٥- ١٨]
ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلً﴾[٢٦]، فذكر أنه لا يقبل في الزنا أقلّ من أربعة شهود، وأن من يثبت عليهن الزنا يحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو ينزل فيهن حكم آخر. ثم ذكر أنه يجب في اللّذين يأتيان فاحشة اللّواط إلى أن يتوبا، وأن التوبة إنما تقبل منهما ومن غيرهما إذا تابوا من قريب، ولا تقبل منهم إذا أخروها إلى ما قبيل الموت، ولا من الذين يموتون وهم كفار ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾[٢٧].
أحكام متفرقة في النساء الآيات [١٩- ٢٨]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾[٢٨]. فحرّم عليهم إرث النساء كرها، وكان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، وحرم عليهم عضلهن لأخذ شيء من مهورهن، ثم ذكر أن المهور تدفع نظير الاستمتاع بهن لا لتملك بها رقابهن حتى يورثن أو يعضلن، ثم ذكر محرّمات النكاح من امرأة الأب، والأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأم الرضاع، وأخت الرضاع، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وأخت الزوجة ما دامت في العصمة، وذات البعل إلا السبية إذا ملكت ولها بعل، ثم أحل ما وراء ذلك من النساء، إلى غير هذا من الأحكام، ثم ذكر أنه يريد بذلك أن يبين لهم سنن من قبلهم في الحلال والحرام من النساء، وأن يتوب عليهم مما كانوا فيه أيام جاهليتهم، وأن يخفف عنهم ما كان فيها من العادات الضارة ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾[٢٩].
تحريم التعدي على المال والنفس الآيات [٢٩- ٣٣]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[٣٠]. فحرم أكل أموال الناس بالباطل من غصب أو سرقة أو نحوهما، وأحلّ أكلها بالتجارة عن تراض منهم، ثم حرّم عليهم أن يقتلوا أنفسهم، وأوعد من يفعل ذلك وعيدا شديدا، ووعد من يترك ذلك ونحوه من الكبائر أن يكفر عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما، ثم نهاهم أن يتمنى بعضهم ما عند الآخر من المال، لأنه كسب له فهو أحق به من غيره، وأمرهم أن يسألوه إعطاءهم مثل ما أعطي غيرهم، فإن هذا من الغبطة الممدوحة، وذلك من الحسد المذموم، ثم ذكر أن لكل مال مما ترك الوالدان والأقربون والمعتقون موالي يلون أمره بإرثهم له، فهم يملكونه بذلك الحق الثابت لهم، ولا يحلّ لغيرهم ما يحل لهم منه ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾[٣١].
قوامة الرجال على النساء الآيتان [٣٤- ٣٥]
ثم قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾[٣٢]. فجعل الرجال قوامين على النساء بما فضلهم عليهن في القدرة على مشاقّ الحياة، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم. فالصالحات منهن مطيعات لبعولتهن، حافظات لغيبهن. واللاتي يخافون نشوزهن لهم حق تأديبهن، وإن وقع شقاق بين الرجل وامرأته، اختير لهما حكمان من أهلهما. ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾[٣٣].
حقوق الله وبعض العباد الآيات [٣٦- ٤٢]
ثم قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾[٣٤]. فأمرهم بعبادة الله وحده، وأن يحسنوا إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانهم، وأن يقوموا بذلك من غير اختيال وتفاخر عليهم، لأن هذا شأن أولئك الكفار الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ولا ينفقون شيئا إلا رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ثم ذكر أنه سيجازيهم على ذلك ولا يظلم أحدا مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها، وهدّدهم بأنه سيجيء من كل أمة بشهيد ويجيء بالنبي (ص) شهيدا عليهم ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾[٣٥].
تحريم الصلاة على السكارى والجنب الآية [٤٣]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾[٣٦]. فحرم عليهم الصلاة في حال السكر وهم جنب حتى يغتسلوا، ثم شرع لهم التيمّم بالتراب عند فقد الماء ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾[٣٧].
التحذير من أهل الكتاب الآيات [٤٤- ٥٧]
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾[٣٨] وكان اليهود قد بالغوا في عداوة المسلمين حتى حالفوا المشركين عليهم، وزيّنوا لهم ما هم فيه من الشّرك على الإسلام. فلما ذكر تلك الأحكام العظيمة، شرع في تحذير المسلمين من اليهود أن يضلّوهم عنها، ويعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من ضلال الشرك، فذكر أن أولئك اليهود قد ضلوا ويريدون أن يعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، وذكر من ضلالهم تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأن النبي (ص) كان، إذا أمرهم بشيء، يقولون سمعنا وعصينا، إلى غير ذلك مما ذكره من ضلالهم. ثم أمرهم أن يؤمنوا بالقرآن من قبل أن يطمس وجوههم فيردّها على أدبارها. وهذا كناية عن تغيير حالهم من عز إلى ذل.
ثم ذكر عظم ذنب الشرك الذي آثروا نصر أهله على المسلمين، وذكر تزكيتهم لأنفسهم بأنهم شعب الله المختار، وأنهم، مع هذا فضلوا عبدة الأصنام على المؤمنين، ثم ذكر أنهم لم يحملهم على ذلك إلا حسد النبي (ص) على ما آتاه الله من فضله، وأنهم إذا حسدوه على ذلك، فقد آتى قبله آل إبراهيم النبوة والكتاب والحكمة والملك، فمنهم من آمن بما آتاهم من ذلك، ومنهم من صدّ عنه حقدا وحسدا، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، ووعد الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّاً ظَلِيلاً﴾[٣٩].
عودة إلى الأحكام الآيات [٥٨- ٧٠]
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾[٤٠] فأمرهم بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأن يطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منهم، وأن يردّوا ما يتنازعون فيه إلى كتاب الله وسنّة رسوله، ثم ذكر أن المنافقين يعدلون عن ذلك إلى التحاكم إلى الأوثان كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وأنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صدّوا صدودا، وأنهم، إذا أصابتهم مصيبة بما فعلوا من ذلك، جاءوا إلى النبي (ص) يحلفون أنهم ما أرادوا، بتحاكمهم إلى غيره، إلا إحسانا وتوفيقا، وأنه يعلم أنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وأنهم، لو كانوا مخلصين في ذلك، لوجدوه توّابا رحيما، وأنهم لا يؤمنون حقا حتى يحكّموا النبي (ص) في كل ما شجر بينهم عن رضيّ منهم، ثم ذكر أنه، لو كلّفهم ما يشقّ عليهم من قتل أنفسهم، أو الخروج من ديارهم، لم يفعله إلا قليل منهم وضاقوا به، وأنهم لو فعلوا ما يوعظون به مما يطيقونه لكان خيرا لهم. ثم ذكر أن من يطيعه ورسوله يكون مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصّدّيقين ومن إليهم ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾[٤١].
أحكام القتال الآيات [٧١- ١٠٤]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً﴾[٤٢] فأمرهم بأخذ الحذر وهو السلاح، وأن ينفروا إلى القتال جماعات متفرقة أو مجتمعين. ثم ذكر لهم أن منهم من يثبّطهم عن القتال، وهم المنافقون. فإن أصابتهم فيه مصيبة فرحوا بعدم خروجهم معهم، وإن أصابهم فيه فوز تمنّوا أن لو كانوا معهم. ثم أمرهم بالقتال ووعدهم عليه عظيم الأجر، قتلوا أو غلبوا، وحثّهم على هذا بأنهم يقاتلون في سبيله وفي سبيل المستضعفين منهم بمكة، وأن أعداءهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ومن يقاتل في سبيل الطاغوت يكون من أولياء الشيطان، ومن يتولاه الشيطان يكون ضعيفا. ثم ذكر ما كان من المنافقين من طلب القتال قبل شرعه لهم. فلما كتب عليهم هابوه وتمنوا لو أخّر عنهم إلى أجل قريب حذرا من الموت، وأمر النبيّ (ص) أن يرد عليهم بأن متاع الدنيا قليل ولو طال، وبأن لكل منهم أجلا لا بد أن يدركهم ولو كانوا في بروج مشيدة. ثم ذكر أنهم، بعد استثقال القتال، إذا خرجوا إليه فأصابتهم حسنة، يقولون إنها من عند الله، وإن أصابتهم سيئة ألقوا فيها اللوم على النبي (ص)، وأمره أن يردّ عليهم بأن الحسنة والسيئة جميعا من عند الله، وإذا كان هناك سبب من العبد في إصابة السيئة فهو من نفسه لا من غيره، فلا يصحّ أن يلوم في ذلك إلا نفسه، وليس للنبي (ص) في الأمر شيء، لأنه ليس إلا رسولا من الله. فمن يطعه فقد أطاع الله، ومن يتولّ عنه فلا شيء عليه في تولّيه، ثم ذكر أنهم إذا أمروا بالقتال أظهروا الطاعة في حضرة النبي (ص).
فإذا خرجوا من عنده أضمروا خلافها، والله يعلم ما يضمرون من ذلك ويكتبه لهم. ولو أنهم تدبروا في ما يظهره القرآن من خفاياهم لعلموا أنه من عند الله، لأن ما يظهره منها لا يختلف عما في ضمائرهم، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ثم ذكر أنهم، إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أذاعوه وزادوا فيه ليربكوا المسلمين بإرجافاتهم، ويخفوا أمره عليهم. ثم أمر النبي (ص) أن يقاتل في سبيله ويدع أولئك المنافقين، وأن يحرّض المؤمنين على القتال، لأنه بهذا يشفع شفاعة حسنة، ومن يشفع شفاعة حسنة، يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة، كالمنافقين المثبطين، يكن له كفل منها، ثم أمرهم إذا قابلهم أعداؤهم بالسلام أن يقابلوهم بأحسن منه، لأنه لا يأمرهم إلا بقتال من يقاتلهم.
ثم لا مهم على اختلافهم في قوم، من أولئك المنافقين بمكة، كانوا يعينون المشركين على المسلمين، فقال بعضهم إنهم مسلمون يحرّم قتلهم، وقال بعضهم إنهم كفار يجوز قتلهم فذكر لهم أنه ما كان لهم أن يختلفوا فيهم وقد أركسهم بما كسبوا، وردّهم إلى أحكام الكفار من الذل والصّغار والسّبي والقتل، ونهاهم أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا من مكة إليهم، فإن تولّوا عن الهجرة، فحكمهم حكم المشركين من أهل مكة، ثم استثنى منهم فريقين: أولهما قوم دخلوا في عهد من كان داخلا في عهد المسلمين، وثانيهما قوم ضاقت صدورهم عن القتال، فلا يريدون قتال المسلمين ولا قتال قومهم. ثم ذكّر قوما آخرين من غطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا ليأمنوا المسلمين، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ليأمنوهم، فأمرهم بقتالهم إن لم يعتزلوهم ويسالموهم ويتركوا مظاهرة قومهم عليهم.
ثم ذكر أنه لا يصح لمؤمن أن يقتل مؤمنا في الحرب إلا خطأ، بأن يرى عليه شعار الكفار فيظنّه مشركا، وقد أوجب فيه الدّية إلى أهله إلا أن يصّدّقوا، ثم ذكر حكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان في دار الحرب، وحكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين أهل العهد، ثم ختم ذلك بما ذكره من الوعيد الشديد على قتله عمدا، تأكيدا لما ذكره من أنه لا يصحّ قتله إلا خطأ.
ثم أمرهم أن يتبينوا حال الكفار قبل قتالهم، ولا يقتلوا من يلقي إليهم السلام منهم طمعا في أموالهم، وذكر لهم أنهم كانوا كفارا مثلهم فمنّ عليهم بالإسلام، وقد يمنّ عليهم بالإسلام مثلهم.
ثم ذكر أنه لا يستوي القاعدون عن الجهاد والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، واستثنى من القاعدين أولي الضّرر لأنه لا جهاد عليهم، ثم ذكر من فضل المجاهدين على القاعدين ما ذكر، وأتبعه بوعيد من قعد عن الجهاد في دار الكفر، وأوجب عليهم الهجرة منها إلى دار الإسلام، واستثنى منهم المستضعفين الذين لا يمكنهم الهجرة، ثم رغّبهم في الهجرة بأنهم يجدون بها في الأرض مراغما كثيرا وسعة، وهذا إلى ما يكون لهم عند الله من عظيم الأجر.
ثم بيّن لهم كيف يؤدون الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو، فأباح لهم قصر الصلاة إذا ضربوا في الأرض للجهاد، فإذا صلّوا خلف النبي (ص) في حال الحرب، فليقسموا أنفسهم في الصلاة خلفه، ولا يصلّوا خلفه دفعة واحدة، فإذا زال الخوف أتوا بالصلاة على وجهها المعروف، ثم ختم الكلام على القتال وأحكامه بقطع العذر عليهم فيه فقال ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾[٤٣].
تحريم المحاباة في الحكم الآيات [١٠٥- ١٢٦]
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾[٤٤] وكان طعمة بن أبيرق سرق درعا، فلما طلبت منه رمى بها واحدا من اليهود، فجاء قومه يطلبون من النبي (ص) أن يعينهم عليهم، فذكر له أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس بما يريه إياه، ونهاه أن يخاصم للخائنين وأمره أن يستغفره من ذلك، تعريضا بمن فعل ذلك من قوم طعمة، ثم وبّخهم على ما كان منهم، وذكر أنهم إذا جادلوا عن الخائنين في الدنيا، فمن يجادل عنهم يوم القيامة، وأن من يعمل سوءا ويستغفر الله ولا يرم به بريئا يغفره الله له، ومن يعمل سوءا ثم يرم به بريئا، فقد أضاف إليه إثما أشنع منه، ثم ذكر أنه لولا فضله على النبي (ص) لأضلوه بذلك، وأنهم لا يضلون إلا أنفسهم، وأنه أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلّمه ما لم يكن يعلم فتضاعف بهذا فضله عليه، ثم ذكر أن ما يتناجون به من ذلك وغيره لا خير فيه، وإنما الخير في التناجي بالأمر بالصّدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فله عظيم الأجر، ومن يمض في شقاقه إلى أن يرتدّ عن دينه كأولئك المنافقين فله شديد العقاب، ولا يغفر الله له أبدا، لأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. ثم ذكر من قبائح شركهم أنهم لا يدعون من دونه إلا إناثا كاللّات والعزّى، وإلا شيطانا مريدا يضل الناس ويزين لهم القبائح ويمنّيهم أنه لا بعث ولا حساب، ثم ذكر أنه لا صحة لأمانيهم ولا لأمانيّ أهل الكتاب أنه لن يدخل الجنة غيرهم، فمن يعمل سوءا يجز به في يوم الجزاء، ومن يعمل صالحا يدخله الجنة ولا يظلمه شيئا، وليس هناك أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله واتّبع ملة إبراهيم في توحيده ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً﴾[٤٥].
أحكام أخرى في النساء الآيات [١٢٧- ١٣٤]
ثم قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾[٤٦].
وكانوا قد سألوا التخفيف في ما نزل في أول السورة في يتامى النساء اللاتي كانوا ينكحوهن طمعا في أموالهن، وفي اليتامى الذين كانوا يحرمونهن من الميراث، وفي العدل مع الزوجات في عشرتهن وعند مفارقتهن، فذكر لهم أن ما تلاه عليهم أول السورة في اليتامى هو الذي يفتيهم الآن به، لأنه لا سبيل إلى تغييره، وأن الصلح بين المرأة وبعلها عند خوفها من نشوزه أو إعراضه خير من التسريح والفراق، ولو اقتضى ذلك أن تتنازل المرأة عن بعض حقوقها في القسم والنفقة ونحوهما، وتتغلب بذلك على ما جبلت عليه الأنفس من الشّحّ، ثم ذكر أن ما أمر به في أول السورة من العدل بين الزوجات لا يمكن الإتيان به على وجهه الكامل، فليأتوا منه ما في استطاعتهم من العدل في القسم ونحوه. فإذا لم يمكنهم ذلك العدل المستطاع، ولم ترض الزوجات أن ينزلن عن حقهن فيه، فليتفرّقا يغن الله كلّا من سعته، ثم ذكر أن ما أمرهم به في ذلك من التقوى التي وصّى بها أهل الكتاب من قبلهم، ويوصيهم بها من بعدهم، وأنهم إذا كفروا ولم يتّقوه فإنه غنيّ عنهم، وأنه إن يشأ يذهبهم ويأت بغيرهم، وأن من يريد ثواب الدنيا بالطمع في أولئك الضعاف ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾[٤٧].
تحريم المحاباة في الشهادة الآية [١٣٥]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾[٤٨].
فأمرهم أن يكونوا قوامين بالعدل في كل أمورهم، وأن تكون شهادتهم لله ولو كان فيها ضرر على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وإذا كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا يكتموا الشهادة لرضا الغني أو الترحم على الفقير، ونهاهم عن متابعة الهوى ليستطيعوا القيام بما أمروا به من ذلك ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾[٤٩].
عود إلى المنافقين وأهل الكتاب الآيات [١٣٦- ١٧٥]
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[٥٠]. فعاد إلى الكلام على المنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين فأمرهم أن يؤمنوا إيمانا صادقا بما أمرهم أن يؤمنوا به، وذكر أنه لا يغفر لمن يتذبذب في إيمانه مثلهم، ثم أمر النبي (ص) أن يبشرهم بما لهم من عذاب أليم تهكّما بهم، وذكر أنهم يتخذون الكافرين من اليهود أولياء من دون المؤمنين، فيجلسون إليهم ويسمعون إلى طعنهم في القرآن، مع أنهم قد نهوا عن سماع ذلك منهم، ثم ذكر تذبذبهم بين المسلمين والكفار، فإن كان للمؤمنين فتح طلبوا أن يشاركوهم في الغنائم، وإن كان للكفار ظفر امتنوا عليهم بمنعهم من المسلمين، وأنهم يخادعون الله بذلك وهو خادعهم، وأنهم يقومون إلى الصلاة متكاسلين يراءون الناس فيها. ثم ذمّهم على تلك الذبذبة، وحذر المؤمنين أن يتذبذبوا مثلهم، فيوالوا الكفار كما والوهم. وذكر أنه أعدّ للمنافقين أشنع عقاب، مبالغة في التحذير منهم، واستثنى من ذلك من تاب من نفاقه وأخلص دينه له، لأنه لا حاجة له في عذاب أحد، وإنما يعذب الناس ليحملهم على التوبة من ذنوبهم، ثم ذكر أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول كما يفعل أولئك المنافقون، وأباح لمن ظلم أن يجهر بما وقع عليه من الظلم، ولمن يأتي بخير أن يظهره أو يخفيه، وفضّل لمن ظلم أن يعفو عمن ظلمه.
ثم انتقل إلى اليهود فحكم بكفرهم لأنهم يريدون أن يؤمنوا ببعض كتبه ورسله دون بعض، ثم أوعدهم على ذلك عذابا مهينا، ووعد الذين يؤمنون بسائر الرسل بأنه سوف يؤتيهم أجورهم يوم القيامة، ثم ذكر من تعنّتهم على النبي (ص) أنهم سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يعاينونه حين ينزل، وأن تعنّتهم على موسى أكبر من ذلك، فطلبوا منه أن يريهم الله جهرة، وعبدوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات، إلى غير هذا من تعنتهم وعنادهم. ثم ذكر أنهم تعنتوا على مريم ونسبوها إلى الزنى، وأنهم تعنتوا على المسيح وزعموا أنهم قتلوه، وذكر أنهم لم يقتلوه يقينا بل رفعه إليه، وأنه لا يموت بعد رفعه حتى يؤمن به من كذبه منهم، ثم ذكر أنه جازاهم على تعنتهم بتشديده عليهم في الدنيا، فحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم من الطيبات، وأعدّ في الآخرة للكافرين منهم عذابا أليما. ثم استدرك على ذلك بأن الراسخين في العلم منهم لا يتعنتون على النبي (ص)، بل يعلمون أنه النبي المبشّر به، ويؤمنون به وبما أنزل إليه وما أنزل من قبله، ثم ذكر أنه أوحى إلى النبي (ص) كما أوحي إلى الأنبياء من قبله، وأنهم إذا لم يشهدوا بذلك فإنه يشهد به هو والملائكة، ثم أوعدهم على كفرهم وتعنّتهم بما أوعدهم به، وختم الكلام معهم بدعوتهم الى الإيمان بما جاءهم من الحق، لأنه خير لهم من كفرهم وتعنتهم.
ثم انتقل إلى النصارى فنهاهم عن الغلوّ في دينهم بتعظيم المسيح إلى مرتبة الألوهية، وذكر أنه إنما هو رسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. ثم أمرهم أن يؤمنوا به وحده ويتركوا عقيدة التثليث، ونفى أن يكون له ولد كما يزعمون، وذكر أن المسيح والملائكة المقربين لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا له، وأوعد من يستنكف عن عبادته بما ذكره في وعيده، ووعد الذين يؤمنون به بما وعدهم به، ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن جاءهم برهان به وأنزل إليهم نورا مبينا ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾[٥١].
حكم الكلالة الآية [١٧٦]
ثم قال تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾[٥٢]. فذكر أنهم استفتوه في الكلالة من الورثة، وهم الحواشي الذين يدلون بالوالدين إلى الميت، وقد ذكر في أحكام الميراث السابقة نصيب الكلالة إذا كانوا إخوة لأم، وذكر هنا نصيب الكلالة إذا كانوا من العصب، وقد أفتاهم في ذلك بأن الأخت لها النصف، وبأن أخاها يرث مالها كلّه إن لم يكن لها ولد ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[٥٣].[٥٤]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة النساء، الآية ٢.
- ↑ سورة النساء، الآية ٦.
- ↑ سورة الجمعة، الآية ١٠.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢٢.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٨٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٥٨-٥٩.
- ↑ سورة النساء، الآية ٧٤.
- ↑ سورة الأنفال، الآية ٦٠.
- ↑ سورة محمد، الآية ٧.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٢٠٠.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٢٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ٨٨.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٠٠.
- ↑ سورة النساء، الآية ١.
- ↑ سورة النساء، الآية ١.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢.
- ↑ سورة النساء، الآية ٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ٧.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٤.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٨.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٩.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢٨.
- ↑ سورة النساء، الآية ٢٩.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣٤.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ٣٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ٤٢.
- ↑ سورة النساء، الآية ٤٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٤٣.
- ↑ سورة النساء، الآية ٤٤.
- ↑ سورة النساء، الآية ٥٧.
- ↑ سورة النساء، الآية ٥٨.
- ↑ سورة النساء، الآية ٧٠.
- ↑ سورة النساء، الآية ٧١.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٠٤.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٠٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٢٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٢٧.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٣٤.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٣٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٣٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٣٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٧٥.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٧٦.
- ↑ سورة النساء، الآية ١٧٦.
- ↑ السيد جعفر شرف الدين، الموسوعة القرآنية، ج٢، ص ١٤٠.