كرامة النفس في علم الأخلاق
التمهيد
كرامة النّفس من الفضائل الّتي يترتّب عليها آثار عدّة، وكلّ واحد منها خير من الدّنيا بما فيها ؛ منها الثّبات والتّحمّل في الشّدائد والمصائب. فصاحبها كالجبل الرّاسخ لاتحرّكه العواصف، ومنها علوّ الهمّة الّذي به يرتقي الإنسان إلى أعلى المراقي في النشأتين، ولا يتوقّف عند حدٍّ ودرجة، بل كلّما وصل إلى درجة يرى أعلى منها فيرتقى دائماً، ولا يرضى بما وصل اليه.
فلذلك لا يحصل له عجب اصلًا، ولا يتكبّر بما وصل إليه على من لم يصل. والعجب والتّكبّر من صغر النّفس ودنوّ الهمّة. وسيأتي بيانهما ان شاء اللَّه تعالى.
ومنها التّواضع لأهله والكبّر عند مستحقّه، قال اللَّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾[١]
ومنها سعة الصّدر الّتي بها يتمكّن من حلّ المشاكل فضلًا عن تحمّلها، وتصير الأمور له يسراً بعد ما كان عسراً، وتحصل له الإرادة النافذة. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[٢]
ومستخلص القول انّ لهذه الفضيلة آثاراً ولكلّ أثر آثار، فلقائل أن يقول انّ هذه الفضيلة هي أم الفضائل وبجدتها.
ولو لم يكن لها إلّاالحرّيّة والاباء عن سلطان طواغيت الانس والجنّ لكفاك ان تعدّها من خير الفضائل كلّها. وللذكر الحكيم دلالة واضحة على انّ من قبل سلطة الأجانب لا كرامة له ولا ذاتيّة، فليس بشيءٍ، قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾[٣]
وهكذا يقول انّ المؤمن التّقى ليس عليه سلطان الشّيطان، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾[٤]
والسّرّ في ذلك انّ المذنب أهان نفسه اوّلًا ثمّ أذنب واعتدى على النّاس. فلو كان له كرامة وشخصيّة لم يتسلّط عليه الشّيطان.
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[٥]
والقرآن اهتمّ بكرامة الإنسان غاية الاهتمام، فلذا عدّه:
اوّلًا خليفة الله، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[٦]
وثانياً نسب روحه إليه تعالى وان كانت النّسبة تشريفياً فهي كرامة على كرامة. قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[٧]
وثالثاً جعله مسجود الملائكة. قال تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[٨]
ورابعاً جعله امين اللَّه فقال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[٩]
وخامساً وجّهه بتاج الكرامة وقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[١٠]
وسادساً خلق العالم لأجله وخلقه لنفسه وقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[١١] وقال: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾[١٢]
وسابعاً جعل قيمته قيمة النّاس جميعاً، قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾[١٣]
مراتب الكرامة واقسامها
كبر النّفس والهويّة كسائر الفضائل لا تنقسم إلى اقسام بل انّها من باب التّشكيك وانّها ذات مراتب ضعفاً وشدة، فالضّعيفة منها مطلوبة والشّديدة منها اشدّ مطلوباً حتّى تصل شدّتها إلى العقل الكلّ (ص) إلّاانّها باعتبار اضافتها إلى الغير تنقسم إلى اقسام ثلاثة:
- الشّخصيّة الفرديّة،
- الشّخصيّة الاجتماعيّة،
- الشّخصيّة الدّينيّة.
والمراد من الأولى ادراك الإنسان نفسه حيث يرى ذاتيّة نفسه وقيمتها وهي تمنعه عن ارتكاب الافعال الدّنيّة عرفيّة كانت أو شرعيّة.
والمراد من الثّانية ادراك المجتمع شخصيّة ذلك الإنسان وهويّته. وهذا هو الّذي سمّى في القرآن بالودّ تارة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[١٤]
وبالوجاهة أخرى.
قال تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾[١٥]
والمراد من الثّالثة تطابق ذاتيّته مع ذاتيّة الإنسان المتصوّرة في الشرع. وفي عرف القرآن لا يكون احدٌ ذاكرامة إلّاالتّقى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[١٦]
الشّخصيّة ذاتيّة واكتسابيّة
انّ رفعة النّفس وعظمتها قد تكون ذاتيّة للنّفس فلها علوّ الهمّة والثّبات والاستقامة في الشّدائد وسعة الصّدر والتّواضع والحرّيّة، وقد تكون اكتسابية، فبايجاد الكملات والسّجايا الحميدة يحصل له تلك الفضيلة. وأكثر استعمال الشّخصيّة سيّما عند علماء معرفة النّفس في هذا القسم من الشّخصيّة حتّى انّهم أطلقوا على نفس السّجايا والكمالات «الشّخصيّة».
وقد مرّ انّ الشريعة ترى التّقى المتزّين بنور العلم، ذا كرامة ورفعة وقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[١٧]
ولا يخفى انّه ليس مرادنا بكونها ذاتيّة، ذاتىّ باب البرهان بحيث تكون لازمة للإنسان غير منفكّة عنه، بل مرادنا بالذّاتيّة نظير مطلق الفضائل للإنسان كالرّحمة والعفّة والشّجاعة. فهي كسائر الفضائل قابلة للزّوال وقابلة لورود الضّعف والشّدة عليها، فبالغفلة تزول كما انّها تزول بارتكاب ما ينافيها، وباعمالها وترتب الآثار عليها تشتدّ، وكلّما زاد العمل وترتّب الأثر زاد الاشتداد.[١٨]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة المائدة، الآية ٥٤.
- ↑ سورة طه، الآية ٢٥-٢٨.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٢٨.
- ↑ سورة النحل، الآية ٩٩-١٠٠.
- ↑ سورة الحجرات، الآية ١٣.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٣٠.
- ↑ سورة الحجر، الآية ٢٩.
- ↑ سورة الحجر، الآية ٣٠-٣١.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٧٢.
- ↑ سورة الإسراء، الآية ٧٠.
- ↑ سورة لقمان، الآية ٢٠.
- ↑ سورة طه، الآية ٤١.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٣٢.
- ↑ سورة مريم، الآية ٩٦.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ٤٥.
- ↑ سورة الحجرات، الآية ١٣.
- ↑ سورة المجادلة، الآية ١١.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٤١٩.