الشجاعة في علم الأخلاق
التمهيد
الشّجاعة فضيلة هامّة بحيث انّ القرآن الشّريف ذكرها في عداد أُسَس الحكم الإلهي .
قال اللَّه تعالى: ﴿َ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[١] وجعلها مورد محبّته وعنايته الخاصّة .
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾[٢]
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[٣] وذكرها في صفات المؤمنين .
قال اللَّه تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[٤]
تعريف الشّجاعة
ومعنى الشّجاعة قوّة القلب وهي مقولة بالتّشكيك فالمرتبة الضّعيفة منها مطلوبة والرّتبة الشّديدة منها اشدّ مطلوباً منها، فليس مرتبة منها ضعيفة كانت أو شديدة غير مطلوبة . فلا يتصوّر فيها طرفا تفريط وافراط .
فما قيل من انّ تفريطها هو الجبن وهو من الرّذائل وانّ افراطها هو التّهوّر وهو من الرّذائل ايضاً ليس بسديد، لانّ التّهوّر ليس افراط الشّجاعة، بل انّه من مقولة الفعل لا من مقولة الصّفات . وانّ الجبن عدم قوّة القلب، فهو ايضاً ليس تفريط الشّجاعة، بل انّه من باب العدم والملكة لا من باب الصّفات .
توضيح ذلك: انّ التّهوّر بمعنى السّقوط، كما لوبنى بنّاءٌ على أرض رخوةٍ لا قرار لها، فالعامل تهوّر في عمله، والبِناء متهوَّر .
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[٥]
فمن استعمل قوّته القلبيّة في غير محلّها الّذي لم يقرّ عليه العقلاء يقال له المتهوّر، كمن جعل نفسه في معرض التّهلكة وكمن يدنو إلى الأسد أو إلى العدوّ من غير سلاح وبلا داع عقلائي أو شرعي .
قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[٦]
فالتّهوّر من الافعال المذمومة لا من رذائل الصّفات، فهو من القبائح العقليّة والمحرمات الشّرعيّة لا من الرّذائل الخُلقيّة . كما انّ الجبن بمعنى ضعف القلب، فمن ليس بشجاع ذيقوة القلب يقال له الجبان، فالجبن ليس بأمر وجودي حتّى يقال انّه من الافعال أو الصّفات أو يقال انّه تفريط الشّجاعة .
نعم من كان جباناً فهو محروم عن كثير من النّعم ويصيبه كثير من النّقم فلو لم تحرم إلّا عن الجهاد والامر بالمعروف والنّهى عن المنكر ونظائرها لكفاه ان يقال انّه محروم من السّعادت الأبديّة، كما انّه لو لم يكن له إلّاالكسل والذّلّ والمهانة وعدم الثّبات والعار من قبول الفضائح لكفى به أن قال انّه كتب عليه الشّقاء، إلّاانّ ذلك كلّه لعدم قوّة القلب، فجبنه يمنعه عن النّعم الكثيرة ويسوقه إلى النّقم الكثيرة .
كما انّ المتهوّر مضافاً إلى كفران النّعمة، لاستعمال نعمة الشّجاعة العظيمة في غير محلّها، يوقع نفسه بل غيره في الهلكات فيوجب مفاسد كثيرة . وبعض أصحاب الائمّة (ع) المتهوّرون لتهوّرهم كانوا يفشون الاسرار ويوقعون الشّيعة في معرض التّهلكة، فلذا كانوا (ع) يؤاخذونهم ويلومونهم .
مراتب الشّجاعة
انّ للشّجاعة مراتب ضعفاً وشدّة ولكلّ منها مراتب أخر شدّة وضعفاً .
فاوّل مرتبتها هي الغلبة على العدوّ في المعركة أو غيرها أو الغلبة في البحث أو الغلبة في السبّق و. . . . وإلى هذه الرّتبة أشار قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[٧]
والثّانية منها هي الغلبة على النّفس الامّارة والهوى .
قال رسول اللَّه (ص): «أَشْجَعُ اَلنَّاسِ مَنْ غَلَبَ هَوَاهُ» [٨] وقال: «مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوُا اَلْجِهَادَ اَلْأَصْغَرَ وَ بَقِيَ عَلَيْهِمُ اَلْجِهَادُ اَلْأَكْبَرُ قِيلَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ وَ مَا اَلْجِهَادُ اَلْأَكْبَرُ قَالَ جِهَادُ اَلنَّفْسِ»[٩]
والغلبة في هذا الميدان لا يتأتّى إلّا بفضل اللَّه ورحمته .
قال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[١٠]
قال تعالى: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[١١]
والثّالثة هي الغلبة على الصّعاب في جزر الدّنيا ومدّها وزخرفها وزبرجها وفي سنن الله من الابتلائات والامتحانات .
قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[١٢]
فالكتاب والسّنة والاختبار والتّاريخ شاهدة على انّ الإنسان مغلوب إلّاما رحم اللَّه .
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾[١٣]
وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾[١٤]
الرّابعة وهي المرتبة العالية الأخيرة الّتي ليست مرتبة اعلا منها، هي الغلبة على الصّفات الرّذيلة سيّما قلعها عن نفسه وغرس الفضائل في النّفس خلفه . وهي ولاتمكن لاحد إلّابرحمته وفضله .
قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾[١٥]
ولقد أجاد من قال: انّ هذه الغلبة كحفر بئر بالإبرة ولكن هذه المكافحة لازمة، بل مرّ الكلام في انّها من أوجب الواجبات عقلًا وشرعاً .
قال تعالى بعد أن أتى بأحد عشر قسماً مع تأكيدات بليغة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[١٦]
ثمّ نقل قصّة ثمود وشمول عذاب الاستيصال لهم لطغيانهم ولجاجهم، فالسّورة المباركة من اوّلها إلى اخرها تدلّ على انّ تهذيب النّفس من أوجب الواجبات.[١٧]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٤٧.
- ↑ سورة المائدة، الآية ٥٤.
- ↑ سورة الصف، الآية ٤.
- ↑ سورة الفتح، الآية ٢٩.
- ↑ سورة التوبة، الآية ١٠٩.
- ↑ سورة البقرة، الآية ١٩٥.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٤٧.
- ↑ نهج الفصاحة، ح ٢٩٩ .
- ↑ بحار الأنوار، ج ٧٠، ص ٦٤، ح ١ .
- ↑ سورة يوسف، الآية ٥٣.
- ↑ سورة يوسف، الآية ٣٣.
- ↑ سورة العنكبوت، الآية ٢-٣.
- ↑ سورة المعارج، الآية ١٩-٢٢.
- ↑ سورة الفجر، الآية ١٥-١٧.
- ↑ سورة النور، الآية ٢١.
- ↑ سورة الشمس، الآية ٩-١٠.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٣٦٥.