البلاغة
التعريف
البلاغة في اللغة مصدر من المادة «ب ل غ» بمعنى بلوغ غاية الشيء ونهايته، ولذلك يطلق على الشخص الذي بإمكانه أن يعبّر عمّا في قلبه بكلام فصيح ـ يتوصّل من خلاله إلى بيان مقصوده بشكل كامل ـ بليغاً، حيث يقول ابن فارس في هذا المجال: الباءُ وَاللّامُ وَالغَينُ أصلٌ واحِدٌ وهُوَ الوُصولُ إلَى الشَّيءِ... وَالبُلغَةُ ما يُتَبَلَّغُ بِهِ مِن عَيشٍ... وكَذلِكَ البَلاغَةُ الَّتي يُمدَحُ بِهَا الفَصيحُ اللِّسانِ لِأَنَّهُ يَبلُغُ بِها ما يُريدُهُ.[١]
كما ذكر ابن منظور: بَلَغَ الشَّيءُ... وَصَلَ وَانتَهى... وَالبَلاغَةُ: الفَصاحَةُ. وَالبَلغُ، وَالبِلغُ: البَليغُ مِنَ الرِّجالِ. رَجُلٌ بَليغٌ وبَلغٌ وبِلغٌ: حَسَنُ الكَلامِ، فَصيحُهُ يُبلِغُ بِعِبارَةِ لِسانِهِ كُنهَ ما في قَلبِهِ.[٢]
ويقول أيضاً في بيان معنى الفصاحة: الفَصاحَةُ: البَيانُ... تَقولُ: رَجُلٌ فَصيحٌ، وكَلامٌ فَصيحٌ أي بَليغٌ.[٣].[٤]
البلاغة والفصاحة اصطلاحاً
كما لاحظنا في بيان المعنى اللغوي لكلمتي «الفصاحة» و«البلاغة»، فإنّ كلّ واحدة منهما استخدمت في موضع الاُخرى، ولذلك فإنّ هاتين الكلمتين لهما مفهوم متقارب من الناحية اللغوية، ولكنّ البلاغة تعني من الناحية الاصطلاحية: البلاغة في الكلام ومطابقته لمقتضى الحال، مع فصاحته، وأمّا الفصاحة فهي سلاسة الكلام ووضوحه وخلوّه من ضعف التركيب وتنافر الكلمات والتعقيد.
وللفصاحة ثلاثة فروع في علم البلاغة: الفصاحة في المفرد، والفصاحة في الكلام والفصاحة في المتكلّم، وأمّا البلاغة فهي إمّا في الكلام أو في المتكلّم، وليس للبلاغة استعمال في المفرد، أي ليس من الصحيح أن نقول: كلمة بليغة، إلا إذا استخدمت «الكلمة» بمعنى الكلام.[٥]
البلاغة والفصاحة في الكتاب والسنة
لمشتقّات مادّة «بلغ» استخدامات كثيرة في القرآن الكريم، مثل بلاغ، بالغ و...، ولا نجد فيه استخدام البلاغة بالمفهوم الذي نحن بصدد دراسته في هذا الباب، نعم ذكر موضوع الفصاحة مرة واحدة خلال نقل قصّة إرسال موسى (ع) لدعوة فرعون وملئه إلى التوحيد؛ فنراه يطلب من الله تعالى أن يؤازره أخوه هارون الذي هو أكثر فصاحة منه، في أمر الرسالة: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾[٦]
وقد تمّ تعريف البلاغة في روايات أهل البيت (ع) بأشكال مختلفة، مثل: البَلاغَةُ ما سَهُلَ عَلَى المَنطِقِ، وخَفَّ عَلَى الفِطنَةِ.
وكذلك: البَلاغَةُ أن تُجيبَ فَلا تُبطِئَ، وتُصيبَ فَلا تُخطِئَ.
كما ورد في رواية أن الإمام علياً (ع) قال في بيان خصائص أفصح الناس: «المُجيبُ المُسكِتُ عِندَ بَديهَةِ السُّؤالِ» ٣
ومن خلال التأمّل في الروايات التي جاءت في تعريف البلاغة، ووصف الشخص البليغ والفصيح، وبيان خصوصيّات الكلام البليغ والفصيح، يتّضح أنّ التعريف الجامع للبلاغة والفصاحة من وجهة نظر الروايات هو نفس ما ذكرناه في الدراسة اللغوية لهاتين الكلمتين، وأنّ ما جاء في هذه الروايات، هو في الحقيقة بيان أبعاد الفصاحة والبلاغة وآثارهما ومراتبهما. وسنلقي فيما يلي نظرة إجمالية إلى روايات هذا الباب وتقييمها[٧]:
نظرة عامة إلى أحاديث الفصاحة والبلاغة
من خلال إلقاء نظرة عامّة على أحاديث الفصاحة والبلاغة، يمكن تقسيم هذه الروايات إلى قسمين:
الإشادة بالفصاحة والبلاغة
المجموعة الاُولى: الأحاديث التي تَعتبر الفصاحة والبلاغة زينة الإنسان وكمال المؤمن، وتعتبرهما من خصوصيات كلام الله وأوليائه؛ مثل ما روي عن رسول الله (ص): «جَمالُ الرَّجُلِ فَصاحَةُ لِسانِهِ» [٨] كما روي عن الإمام الباقر (ع): «إنَّ اللهَ تَعالى أعطَى المُؤمِنَ البَدَنَ الصَّحيحَ، وَاللِّسانَ الفَصيحَ» [٩]
وروي عن الإمام علي (ع) أنه قال: «إنّا لَأُمراءُ الكَلامِ، وفينا تَنَشَّبَت عُروقُهُ، وعَلَينا تَهَدَّلَت غُصونُهُ» [١٠].[١١]
ذمّ الفصاحة والبلاغة
المجموعة الثانية: الأحاديث التي تذمّ الفصاحة والبلاغة بشدّة، وتُشيد بفقدان هذه الصفة، مثل ما روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: «إنَّ اللهَ عز وجل يُبغِضُ البَليغَ مِنَ الرِّجالِ، الَّذي يَتَخَلَّلُ بِلِسانِهِ تَخَلُّلَ الباقِرَةِ بِلِسانِها» [١٢]
أو ما قاله مخاطباً عبد الله بن رواحة: «كُفَّ عَنِ السَّجعِ؛ فَما اُعطِيَ عَبدٌ شَيئا شَرّا مِن طَلاقَةٍ في لِسانِهِ» [١٣]
أو ما نقل عنه في الإشادة بالعجز عن الكلام: «الحَياءُ وَالعِيُّ شُعبَتانِ مِنَ الإِيمانِ، وَالبَذاءُ وَالبَيانُ شُعبَتانِ مِنَ النِّفاقِ» [١٤]
كما روي عن الإمام الصادق (ع) قوله: «إنَّ الحَياءَ وَالعَفافَ وَالعِيَّ ـ عِيَّ اللِّسانِ لا عِيَّ القَلبِ ـ مِنَ الإِيمانِ، وَالفُحشَ وَالبَذاءَ وَالسَّلاطَةَ مِنَ النِّفاقِ» [١٥].[١٦]
تقييم أحاديث الفصاحة والبلاغة
بغضّ النظر عن إسناد هاتين المجموعتين من الأحاديث، إلّا أنّ بإمكاننا القول في الاستنتاج منها وتقييمها إنّها لا تتعارض مع بعضها البعض، علماً أنّ الفصاحة والبلاغة هما في الحقيقة عبارة عن فنّ التحدّث بشكل جيد، وهذا الفنّ من شأنه ـ كأيّ فنٍّ آخر ـ أن يكون من القِيَم أو أن يتنافى مع القِيَم. فإذا ما وُظّف هذا الفنّ في خدمة الإنسان والقِيَم الأخلاقية والإنسانية، فإنه سيكون كمالاً وقَيّماً للغاية، وإذا ما وُظّف في اتّجاهٍ معاكسٍ للقيم الأخلاقية والإنسانية، فإنّه يكون نقصاً ومذموماً للغاية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ المراد من الروايات التي تعتبر الفصاحة والبلاغة من القِيَم، المواضع التي يوظَّف فيها هذا الفنّ باتّجاه الأهداف الإنسانية والإلهية الصحيحة، وأما الروايات التي تذمّهما فإنّها تعني المواضع التي يوظَّف فيها هذا الفنّ باتّجاه الأهداف غير المشروعة والمناهِضة للقيم؛ مثل ما نُقل في كتاب سعد السعود من «الزبور» عن الله تعالى: أفصَحتُم فِي الخُطبَةِ وقَصَّرتُم فِي العَمَلِ، فَلَو أفصَحتُم فِي العَمَلِ وقَصَّرتُم فِي الخُطبَةِ لَكانَت أرجى لَكُم، ولكِنَّكُم عَمَدتُم إلى آياتي فَاتَّخَذتُموها هُزُوا، وإلى مَظالِمي فَاشتَهَرتُم بِها. [١٧].[١٨]
حِكمٌ تخصّ الخطباء
- الصمت والسلامة: نذكر في الختام بعض الملاحظات للأشخاص الذين يتمتّعون بنعمة الفصاحة والبلاغة:
الاُولى: ينبغى للخطيب ألّا يستخدم قدرته البيانيّة في كلّ مكان، بل عليه أن يأخذ آفات الكلام بنظر الاعتبار فيقلّل من كلامه، بل عليه ألّا يتكلّم ما لم تستوجب الضرورة: «إن كانَ فِي الكَلامِ البَلاغَةُ فَفِي الصَّمتِ السَّلامَةُ مِنَ العِثارِ». [١٩]
- أفضل من البلاغة: الملاحظة الثانية: إنّ الكلام لا يكون مؤثّرا في كلّ المواضع، بل إنّ الصمت قد يكون مؤثّرا أكثر من الكلام: قالب:نص حدي [٢٠]
- أكثر عبرةً من الواعظ البليغ: الملاحظة الثالثة: إنّ التأمّل في الحوادث الملهمة للدروس والعبر من شأنه أن يعلّم الإنسان أكثر من أيّ خطيب قدير: «... لِيَعِظَكُم هُدُوّي، وخُفوتُ إطراقي، وسُكونُ أطرافي؛ فَإِنَّهُ أوعَظُ لَكُم مِنَ النّاطِقِ البَليغِ» [٢١]
وعلى هذا الأساس، فإنّ البليغ الحكيم هو الذي لا يستخدم قدرتَه في كلّ مكان، بل هو الذي يوظّف قدرتَه في إيصال رسالته حسب ما تقتضيه الحكمة.[٢٢]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ معجم مقاييس اللغة: ج ١ ص ٢٠١ «بلغ».
- ↑ لسان العرب: ج ٨ ص ٤١٩ «بلغ».
- ↑ لسان العرب: ج ٢ ص ٥٤٤ «فصح».
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٥.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة (كتاب)|موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٦.
- ↑ سورة القصص، الآية ٣٤.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٦-٢٦٧.
- ↑ مسند الشهاب: ج ١ ص ١٦٥ ح ٢٣٣، الفردوس: ج ٢ ص ١١٠ ح ٢٥٨٣ كلاهما عن جابر بن عبد الله، صفة الصفوة: ج ١ ص ٢١٣، كنز العمّال: ج١٠ ص ١٥٢ ح ٢٨٧٧٥.
- ↑ المناقب لابن شهر آشوب: ج ٤ ص ١٨٠، بحار الأنوار: ج ٦٧ ص ٣٠٣ ح ٣٣.
- ↑ نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٣، أعلام الدين: ص٣٢١، غرر الحكم: ج٢ ص٣٣٦ ح٢٧٧٤ وفيه «تشّبثت فروعه» بدل «تنشّبت عروقه»، الأمالي للمرتضى: ج ٤ ص١٩ وفيه «منّا تفرّعت فروعه» بدل «فينا تنشّبت عروقه» من دون إسناد إلى أحد من أهل البيت (ع)، بحار الأنوار: ج ٧١ ص ٢٩٢ ح ٦٢.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٧-٢٦٨.
- ↑ سنن أبي داوود: ج ٤ ص ٣٠٢ ح ٥٠٠٥، سنن الترمذي: ج ٥ ص ١٤١ ح ٢٨٥٣، مسند ابن حنبل: ج ٢ ص ٥٦٥ ح ٦٥٥٤، المصنّف لابن أبي شيبة: ج ٦ ص ٢١١ ح ٤، المعجم الأوسط: ج ٥ ص ٢٠٥ ح ٥٠٩١ كلّها عن عبد الله بن عمر، معرفة علوم الحديث: ص ١٠٢، كنز العمّال: ج ٣ ص ٥٦٣ ح ٧٩١٨ نقلاً عن أبي نصر السنجري في «الإبانة» وص ٥٦٢ ح ٧٩١٧.
- ↑ تفسير القرطبي: ج ١٢ ص ٢٨١، الفردوس: ج ٤ ص ١٢٠ ح ٦٣٧٣ عن ابن عبّاس وليس فيه «كُفّ عن السجع»، كنز العمّال: ج٣ ص٥٥٦ ح٧٨٩٢.
- ↑ سنن الترمذي: ج ٤ ص ٣٧٥ ح ٢٠٢٧، مسند ابن حنبل: ج ٨ ص ٣٠٨ ح ٢٢٣٧٥، المستدرك ف على الصحيحين: ج ١ ص ٥١ ح ١٧، شعب الإيمان: ج ٦ ص ١٣٣ ح ٧٦٠٦، مسند ابن الجعد: ص ٤٣٣ ح ٢٩٤٩، كنز العمّال: ج ٣ ص ١٢٠ ح ٥٧٦٥ وراجع: سنن الدارمي: ج ١ ص ١٣٦ ح ٥١٥، المصنّف لعبد الرزاق: ج ١١ ص ١٤٢ ح ٢٠١٤٧، المصنّف لابن أبي شيبة: ج ٨ ص ٣٠٣ ح ٥٣، السنن الكبرى: ج ١٠ ص ٣٢٨ ح ٢٠٨٠٨، المعجم الكبير: ج ١٩ ص ٣٠ ح ٦٣.
- ↑ الزهد للحسين بن سعيد: ص ٧٠ ح ٢١، الكافي: ج ٢ ص ١٠٦ ح ٢ وليس فيه ذيله من «والفحش» وص ٣٢٥ ح ١٠ وليس فيه صدره إلى «من الإيمان» وكلّها عن الحسن الصيقل، بحار الأنوار: ج ٧١ ص ٢٨٩ ح ٥٦.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٨-٢٦٩.
- ↑ سعد السعود: ص ٥١، بحار الأنوار: ج ١٤ ص ٤٨.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة (كتاب)|موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٦٩-٢٧٠.
- ↑ غرر الحكم: ج ٣ ص ٥ ح ٣٧١٤.
- ↑ غرر الحكم: ج ٢ ص ٤٤٧ ح ٣٢٤٥، عيون الحكم والمواعظ: ص ١٢٢ ح ٢٧٨٧.
- ↑ الكافي: ج ١ ص ٢٩٩ ح ٦، نهج البلاغة: الخطبة ١٤٩ نحوه، بحار الأنوار: ج ٤٢ ص ٢٠٦ ح ١١.
- ↑ محمد الريشهري، موسوعة معارف الكتاب والسنة، ج٩، ص ٢٧٠-٢٧١.