الغيرة والحمية في علم الأخلاق
التمهيد
الغيرة والحمية علامة المروّة، بل يظهر من الرّوايات انّها علامة الإيمان. فمن لا غيرة له لايعدّ من الرجال ولا من المؤمنين، فلذلك روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال لأهل الكوفة الّذين لم يدافعوا عن حريم الإسلام: «يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ وَ لاَ رِجَالَ»[١]
قال رسول اللَّه (ص): «اَلْغَيْرَةُ مِنَ اَلْإِيمَانِ وَ اَلْبَذَاءُ مِنَ اَلْجَفَاءِ»[٢] بل القرآن ايضاً جعلها علامة للايمان وقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾[٣]
ومعنى الآية الشريفة ونظيرها - والله أعلم - ان المؤمن هو الّذي يدافع عن حريم الإسلام ما تمكّن منه.
والغيرة هي ملكةٌ باعثة على الدّفاع عن مهام الأمور العرفيّة أو الشرعيّة وعلى المجاهدة على حفاظها، ويقال لذلك الدفاع الحميّة، فالحميّة من الحمايه. فهي عن مقولة الفعل، والغيرة أصلها وهي تنشأ منها. فهي من مقولة الصفات. نعم قد تطلق الغيرة على الحميّة والحميّة على الغيرة مجازاً.
وهذه الفضيلة ذات مراتب كسائر الفضائل، فالمرتبة الضعيفة منها مطلوبة وكلما اشتدت زادت مطلوبيتها فليس لها طرفا افراط وتفريط حتّى يكونا مذمومين.
نعم قد تستعمل في غير محلها جهلًا، فهي مذمومة بالعرض اي باعتبار استعمال الشّيء في غير محلّه. ويقال لها حينئذٍ التعصب الجاهلي والحميّة الجاهلية، حتّى يطلق عليها الحسد ايضاً.
قال علي بن الحسين (ع): «الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَ لَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَ لَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ»[٤]
وقال تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[٥]
واطلق عليهم الحميّة الجاهلية، لأنهم منعوا في الحديّبيه ان يسجلّ «البسملة» في عقد الإسلام، ومنعوا ان يدخل المسلمون المسجد الحرام، وان يبلغ الهدى محلّه.
وقال الباقر (ع): «غَيْرَةُ اَلنِّسَاءِ اَلْحَسَدُ»[٦].[٧]
اقسام الغيرة والحميّة
والغيرة والحميّة بحسب المتعلق تنقسم إلى اقسام:
١. الغيرة والحميّة في الدين، وهذه أحسن الاقسام وأجودها، والدفاع عن حريم الشرع من أوجب الواجبات وليس في الإسلام واجب أوجب منه، ويجب على كلّ مسلم بذلكلّ ما يحب في سبيل الإسلام.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[٨]
ويجب على كلّ مسلم المجاهدة على محافظة الإسلام، فلذا أوجب الله الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مؤكدّاً حتّى جعل المسلمين خير أمة، لكونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[٩]
كما وقد أوجب الله ما يوجب بقاء الإسلام وتقويته، فأوجب تأسيس الحوزات العلميّة.
قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[١٠]
وأوجب تأسيس لجنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[١١]
وأوجب تعظيم الشعائر. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[١٢]
ورتّب ثواباً عظيماً وأجراً جزيلًا على المجاهدة في سبيله تعالى وتقوية الإسلام والدفاع عن حريمه والسعي على محافظته حتّى قدّم ذلك على مثل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام.
قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[١٣]
٢. الغيرة والحميّة على حفظ عفّة أهله وأسرته وأكثر استعمالها في هذا المعنى.
فالدفاع عن حريم امرأته والسعي على حفاظ على عفتها لازم حتّى ان القرآن الشريف أمر باستيذان النساء والاطفان غير البالغين حين أن خلى المرء بزوجته.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾[١٤]
ثمّ أمر باستيذان الأطفال وإن لم يكن وقت الخلوة إذا بلغوا الحلم.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[١٥]
وفي روايات نهى عن أن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر اليهما، منها: عن رسول اللَّه (ص): «ايّاكم وان يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر اليهما»[١٦]
وملخّص الكلام ان الغيرة والحميّة في هذا المورد من أهمّ الواجبات شرعاً، فلذا أجاز الإسلام قتل المرأة لو رأها بعلها وهي تزني كما أجاز قتل الزاني. وهذا دليل واضح على اهتمام الإسلام بهذا القسم من الغيرة والحميّة.
الغيرة والحميّة في العفة العامّة. والمراد منها الغيرة على نساء المؤمنين من الأقارب كالبنت والامّ والأخت ومن غير الأقارب ايّ مرأة كانت بل نساء غير المؤمنين أيضاً.
فالدفاع عن عفّتهنّ لازم والسعي فيه واجب. الأقرب فالأقرب.
فأشاعة الفاحشة من الكبائر الموبقه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾[١٧]
والقرآن اهتم بهذه العفة اشدّ الاهتمام، فلذا:
اوّلًا اهتماماً بشؤون المسلمين، أمر بجلد الزانية والزّاني، ولم يكتف بذلك بل أمر بحضور طائفة من المؤمنين عند جلدهما. قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[١٨]
وثانياً نهى عن النظر إلى الاجنبيّة لكونه سهماً من سهام إبليس. قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[١٩]
وثالثاً نهى عن معاشرة الرجل الاجنبيّة ومواجهتهما إلّالضرورة داعية إليها. قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾[٢٠]
ورابعاً نهى عن تبرج النساء وان يجلبن نظر الأجنبي إلى أنفسهنّ. قال تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[٢١]
وخامساً نهاهنّ عن الخضوع في القول. قال تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾[٢٢]
وسادساً امرهنّ بحفظ وجوههنّ وادناء جلبابهن عليها. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[٢٣] ولو لم يكن لحفظ العفاف واهتمام الشرع به غير ما ذكر من الآيات لكفى بها شاهداً عليه. فلذا وردت في الحديث: «إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ وَ لِغَيْرَتِهِ حَرَّمَ اَلْفَوَاحِشَ ظَاهِرَهَا وَ بَاطِنَهَا»[٢٤]
الغيرة والحميّة في الأموال والأولاد والأقرباء والجيران والشعب والوطن بل مطلق الناس غير المحاربين منهم بل مطلق الحيوانات غير المؤذية. فالدفاع عنهم لازم عقلًا وشرعاً والتفصيل في كلّ ذلك يحتاج إلى افراد كتاب، نرجو منه سبحانه وتعالى أن يوفقنا له. فنقول اجمالًا: ان الإسلام ارشاداً إلى حكم العقل نهى عن تضييع المال.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾[٢٥] وأمر بحفظ الأولاد وتثقيفهم وتأديبهم بالأدب الإسلامي.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[٢٦]
وأمر بصلة الرحم ونهى بشدّةٍ عن قطعه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[٢٧]
وأمر بمراعاة الجيران حتّى سلب وصف الإيمان عمن لا يراعى حق الجار، بل هدّده بالويل الّذي هو من ألفاظ القهر والعذاب. وكذلك أمر بمراعاته الأمة الإسلاميّة وبرفع حوائجهم على الميسور.
قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾[٢٨]
وقال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[٢٩]
وأمر الإنسان على الاطلاق بالبرّ.
قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[٣٠]
واستفادة ما اشتهر عن «حب الوطن من الإيمان» من الآية الشريفة ليست بصعب، كما أن استفادة البر إلى مقاتلي المسلمين في غير الدين من المقاتلة في الاغراض الشخصيّة أو القوميّة ليست بمشكل. واما حسن البر بالحيوانات غير المؤذية والدفاع عن تلك الحيوانات والسعي على محافظتها والحماية عنها فقد وردت في ذلك رواياتٌ، منها:
عن الصادق (ع) قال: «أَقْذَرُ اَلذُّنُوبِ ثَلاَثَةٌ قَتْلُ اَلْبَهِيمَةِ وَ حَبْسُ مَهْرِ اَلْمَرْأَةِ وَ مَنْعُ اَلْأَجِيرِ أَجْرَهُ»[٣١]
«عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِنَّ اِمْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ عَطَشاً»[٣٢] «عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاِبْنِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ إِنِّي قَدْ حَجَجْتُ عَلَى نَاقَتِي هَذِهِ عِشْرِينَ حِجَّةً فَلَمْ أَقْرَعْهَا بِسَوْطٍ قَرْعَةً فَإِذَا نَفَقَتْ فَادْفِنْهَا لاَ يَأْكُلْ لَحْمَهَا اَلسِّبَاعُ»[٣٣] «قَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إِنَّ اَلدَّوَابَّ إِذَا لُعِنَتْ لَزِمَتْهَا اَللَّعْنَةُ»»[٣٤] «عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي اَلدَّوَابِّ وَ لاَ تَضْرِبُوا اَلْوُجُوهَ وَ لاَ تَلْعَنُوهَا فَإِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَعَنَ لاَعِنَهَا»[٣٥]
هذا كلّه في هذه الفضيلة ولكن لابد من أن نذكر في الخاتمة امرين:
- ان أقسام الغيرة والحميّة المشار إليها هي بحسب الواقع وكذلك بحسب المعنى اللغوي، ولكن بحسب المتفاهم العرفي فاستعمالها في غير المعنيين الثاني والثالث تكلف فلذا قلنا إن الشائع في استعمال العرف الغيرة هي في العفّة الخاصّة أو العامة، ولكن الّذي يسهّل الخطب كوننا بصدد بيان الملكات من الفضائل والرّذائل وما يترتب عليها، ولسنا بصدد بيان المعاني وموارد الاستعمالات حتّى نحتاج إلى تدقيق في ذلك.
- قد ذكر علماء الأخلاق لهذه الفضيلة طرفي افراط وتفريط ثمّ جعلهما من الرّذائل قالوا: ان الافراط من الغيرة هو العصبيّة والتّجسس في البواطن، وان طرف التفريط منها هو الاهمال في الحفاظ على ما يجب عقلًا أو شرعاً.
ولكن هذه الكلام ليس بسديد، لأن الغيرة والحميّة مقولتان مشكّكتان كما مرّ في أوائل البحث، لكنّ الشدة والعصبيّة وتجسّس البواطن ليست من مقولة الغيرة ومن مراتبها، وإن كانت من الملكات أو الافعال الرّذيلة. وسيأتي ذكرها وبيان ما يترتب عليها من المفاسد.
نعم قد يستعمل الجاهل بمواقع الأمور تلك الفضيلة في غير محلّها. قال أمير المؤمنين (ع) في رسالته إلى ابنه الإمام المجتبى (ع): «إيّاكَ والتَّغايُرَ في غيرِ مَوضِعِ الغَيرَةِ، فإنَّ ذلكَ يَدعُو الصَّحيحَةَ مِنهُنَّ إلَى السَّقَمِ»[٣٦]
فترى ان أمير المؤمنين (ع) لم ير الشدّه على النساء من مراتب الغيرة، بل يرى الشدة عليهن من استعمال الغيرة في غير محلّها وليس هو إلّامن فعل الجاهل الخسيس، فيقال لها تارة التعنّت والشدة وأخرى الغيرة الجاهلية.
موجز ما سيأتي ان شاء اللَّه من بيان رذيلة الشدة: ان الشدة من الرّذائل الّتي يترتب عليها مفاسد إذ لا يرى صاحبها شيئاً إلّايخاف منه. فالشدة في الدين هو تحميل ما لا يطاق، بل ما هو صعب على الناس على نفسه أو على غيره فينتهى إلى المال عنه وقد تنتهى إلى سوء الظّنّ بالدين بل إلى الكفر.
قال رسول اللَّه (ص): «إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَ لاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اَللَّهِ؛ فَإِنَّ اَلْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ، وَ لاَ ظَهْراً أَبْقَى»[٣٧] وهذه الرواية هي أسوة المؤمنين في استعمال الغيرة وقد روى شيخنا الكليني في باب الاقتصاد في العبادة روايات عدّة فراجع وتأمل فيها. واما الشدة في العفة فتنتهى إلى فواحش باطنة أو ظاهرة فالمراقبة على النساء بافراطٍ والمحافظة البالغة عليهنّ لأجل الأوهام المرجوحة عقلًا وشرعاً والمبالغة على حفظهن الستر غير المتعارف عند المتدينين. ومنعهن عن الخروج عن البيت إلى المجالس الراجحة والتجسّس عن حالهن في الخلوات والجلوات و.... ينتهى ذلك كلّه إلى الفساد وإلى اللجاج وإلى الفحشاء و...
فإذا اطمئن المرء من عفّتهن ودينهن فيلزم عليه ان يعطيهنّ نحو استقلال في الأمور، فهو مع قيمومته [٣٨] عليهن يعطيهنّ الاستقلال في أمورهن وفي حفظهن عن الأجانب وفي حفظ عفتهنّ وفي جميع شؤونهنّ وملخّص القول إن المراقبة عليهن لازمة واعمال الغيرة في عفتهن واجبة ولكن الرفق والمدارى وعدم الشدة عليهنّ ايضاً لازم واجب. وبكلمة أخرى ان الغيرة والحميّة لابدّ من أن تكون مع الرفق والمدارى وإلّااستعملت غالباً في غير محلها فتوجب المفاسد.
واما الشّدة على الأولاد في تربيتهم فتوجب عقدة النقص فيفعل الولد خلاف ما يقصده الوالدان والمربّي. فلو شدّد على الأولاد في تثقيفهم أو غلظ عليهم في الكلام أو ضربهم وشتمهم لما حصل على الغاية المطلوبة، بل النعكس الامر ضدّه.
والقرآن الشريف حين ان أشار إلى سيرة سيّدنا لقمان في تثقيفه وتأديبه ولده يعلّمنا معاشر المؤمنين التلطّف بالأولاد والمداراة معهم.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[٣٩] وان كانت في بعض الموارد في محلّها.
واما الشدّة في الأموال فهو البخل الّذي نهى عنه القرآن.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[٤٠]
وهو ينتهى إلى ترك الانفاقات الواجبة والمندوبة، فإذا لا يكون المال عليه إلّاوزراً ووبالًا.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[٤١]
وبما ذكرنا يظهر تبعات الشدة في الأقرباء وفي الجيران وفي الأمة والشعب وفي الوطن والقومية، والتفصيل يوجب الملال والخروج عما نحن بصدده.
وملخّص الكلام ان الشدّة في كلّ شيء غير جائز، والرفق والمداراة في كلّ شيء لازم. فعليك بالرفق والمداراة وايّاك والشدة والتعنّت والحميّة الجاهليّة والغيرة بهذا المعنى الّتي ليست بغيرة، بل انّها مبغوضة عند العقل والشرع.
قال رسول اللَّه (ص): «من الغيرة غيرة يبغضها اللَّه ورسوله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة» [٤٢]
وقال أمير المؤمنين (ع): «لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالسوء من اجلك» [٤٣] هذا كله في الافراط في الغيرة.
واما طرف التفريط فقيل: انه عدم الغيرة، ولكن معلوم ان العدم لا يعقل ان يكون من مراتب الشئ.
ولا يترتب عليه شئ. فما قيل: تبعاتها من الدّياثة والقيادة ومن ترك الامر بالمعروف والنهى عنى المنكر والجهاد في سبيل اللَّه ومن إشاعة الفحشاء ومن سوء تربية الأولاد ومن تسلط الظالمين عليه وعلى وطنه و.... فغير صحيح. لأنّ هذه التبعات لأجل حرمانه عن فضيلة الغيرة.
فمن كانت له الغيرة والحميّة فليس بديوث ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد في سبيل اللَّه بماله ونفسه ويمنع عن إشاعة الفحشاء ويسعى في تثقيف عياله وتربيتهم ويمنع الظالم عن ظلمه. ومن ليست له تلك الفضيلة فمحروم عن هذه المثوبات والحسنات فليس عدم الغيرة بشيءٍ ولا يترتب عليه شئ.[٤٤]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ٢٧.
- ↑ بحار الأنوار، ج ٧١، ص ٣٤٢، باب ٨٤، ح ٢.
- ↑ سورة الفتح، الآية ٢٩.
- ↑ نور الثقلين، ج ٥، ص ٧٣، ح ٧٠.
- ↑ سورة الفتح، الآية ٢٦.
- ↑ فروع الكافي، ج ٥، ص ٥٣٧.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٤٣٧.
- ↑ سورة التوبة، الآية ٢٤.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١١٠.
- ↑ سورة التوبة، الآية ١٢٢.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٠٤.
- ↑ سورة الحج، الآية ٣٢.
- ↑ سورة التوبة، الآية ١٩-٢٢.
- ↑ سورة النور، الآية ٥٨.
- ↑ سورة النور، الآية ٥٩.
- ↑ بحار الأنوار، ج ١٠٣، ص ٢٩٥، باب ٨، ح ٥١.
- ↑ سورة النور، الآية ١٩.
- ↑ سورة النور، الآية ٢.
- ↑ سورة النور، الآية ٣٠-٣١.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٥٣.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٣٣.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٣٢.
- ↑ سورة الأحزاب، الآية ٥٩.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ١٤، باب ٧٧، ح ٢.
- ↑ سورة الإسراء، الآية ٢٧.
- ↑ سورة التحريم، الآية ٦.
- ↑ سورة الرعد، الآية ٢٥.
- ↑ سورة الماعون، الآية ١-٦.
- ↑ سورة الطلاق، الآية ٧.
- ↑ سورة الممتحنة، الآية ٨-٩.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ٨، ص ٣٩٧، من أبواب احكام الدّوابّ، ح ٢.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ٨، ص ٣٩٧، باب ٥٣، من أبواب احكام الدّوابّ، ح ١.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ٨، ص ٣٩٧، باب ٥١، من أبواب احكام الدّوابّ، ح ١.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ٨، باب ١٠، من أبواب احكام الدّوابّ، ح ٨.
- ↑ وسائل الشيعة، ج ٨، ص ٣٩٨، باب ١٠، من أبواب احكام الدّوابّ، ح ٦.
- ↑ بحار الأنوار، ج ٧٧، ص ٢١٤.
- ↑ أصول الكافي، ج ٢، ص ٨٦ و٨٧، باب الاقتصاد في العباد، ح ١.
- ↑ ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا﴾، سورة النساء، الآية ٣٤.
- ↑ سورة لقمان، الآية ١٣.
- ↑ سورة آل عمران، الآية ١٨٠.
- ↑ سورة التوبة، الآية ٣٤-٣٥.
- ↑ جامع السعادات، ج ١، ص ٣٠٥، مبحث الغيرة.
- ↑ جامع السعادات، ج ١، ص ٣٠٥، مبحث الغيرة.
- ↑ حسين المظاهري، دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، ج١، ص ٤٣٨.