علم الله
تمهيد
هذا مبحث مهم من مباحث علم الكلام، وقد وقع خلاف كثير في كيفيّة تعلّق علمه تعالى بالأشياء. وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لابدّ من تقديم مقدمة.
العلم الحضوري والعلم الحصولي والفرق بينهما
هناك نوعان من العلم: العلم الحضوري والعلم الحصولي. والفرق بينهما كالتالي[١]:
- العلم الحصولي هو أن تكون صورة الشيء المعلوم موجودة في ذهن العالِم. أمّا العلم الحضوري فهو أن يكون نفس الشيء المعلوم حاضراً عند العالِم. مثل علم الإنسان بنفسه وصفاته وأفعاله. وهذا ينطبق على كلّ موجود مجرّد عن المادة، فهو يعلم بذاته؛ لأنّ ذاته حاضرة عنده. وكذلك علم الله تعالى بنفسه ومخلوقاته هو علم حضوري، أي أنّ المخلوقات حاضرة عند خالقها بوجودها نفسه.
- في العلم الحصولي، وجود الشيء المعلوم في الذهن يختلف عن وجوده في الخارج. أمّا في العلم الحضوري، فوجود الشيء المعلوم في العلم هو نفس وجوده الحقيقي.
- العلم الحصولي ينقسم إلى تصور وتصديق. أمّا العلم الحضوري فلا ينقسم إلى تصور وتصديق.
أقسام العلم الحضوري
وهناك ثلاثة أقسام للعلم الحضوري:
- علم الشيء بذاته.
- علم الشيء بما ينتج عنه (معلوله).
- علم الشيء الفاني بالشيء الذي فنى فيه.
وبناءاً على هذه المقدّمة، فإنّ كلّ موجود مجرّد له علم بذاته؛ لأنّ ذاته حاضرة عنده. وذات الله تعالى هي الوجود المطلق الذي لا حدود له. وكلّ وجود وكمال في الخلق موجود عند الله بشكل أسمى وأكمل. وبهذا يثبت أنّ لله علماً حضوريّاً بذاته.
علم الله بغيره
والمخلوقات هي نتائج صادرة عن الله وقائمة به، فهي حاضرة بوجودها عنده. فالموجودات المجردة معلومة لله بذواتها علماً حضوريّاً. أمّا الموجودات المادية فمعلومة لله بصورها المجردة. فنستنتج أنّ لله تعالى علماً حضوريّاً بذاته وهو عين ذاته. وله علم حضوري تفصيلي بالأشياء في مرتبة ذاته قبل إيجادها، وهذا أيضاً عين ذاته. وله علم حضوري بالأشياء بعد وجودها، وهذا خارج عن ذاته. وعلم الله تعالى بمخلوقاته يستلزم علمه بما عندها من علم أيضاً.
مناقشة الأقوال في كيفية تعلق علم الله بالأشياء
هناك عدّة أقوال في هذه المسألة، منها:
القول الأوّل: إنّ لله علماً بذاته فقط وليس بمخلوقاته؛ لأنّ ذاته أزلية والمخلوقات حادثة.
والردّ: أنّ علم الله بالمخلوقات منذ الأزل لا يستلزم وجودها منذ الأزل.
القول الثاني: إنّ للماهيات وجوداً خارجيّاً قبل وجودها الفعلي، وهي التي يتعلّق بها علم الله قبل الإيجاد. وهذا منسوب للمعتزلة.
والردّ: أنّ هذا يستلزم القول بثبوت وجود للمعدوم، وهو محال.
القول الثالث: إنّ للماهيات وجوداً علميّاً تابعاً لأسماء الله وصفاته، وهو متعلّق علم الله قبل الإيجاد. وهذا منسوب للصوفية.
والردّ: أنّ القول بأصالة الوجود وأنّ الماهيات اعتبارية ينفي أيّ وجود مفترض للماهية قبل وجودها الفعلي.
القول الرابع: إنّ علم الله التفصيلي هو الموجودات النورانية المفارقة (المثل الإلهية) التي تجمع كمالات الأنواع، وهذا منسوب لأفلاطون.
والردّ: أوّلاً لم تثبت لنا هذه المثل. وثانياً حتّى لو ثبتت فهي تكفي لتصوّر العلم التفصيلي في مرتبة الأشياء لا في مرتبة ذات الله، فتبقى الذات بدون الكمال العلمي وهو خلاف الفرض.
القول الخامس: إنّ الله تعالى يعلم كلّ الأشياء، سواء كانت مجرّدة أو مادية، وهي حاضرة عنده ولا تغيب عنه. وهذا ما يسمّى بعلمه التفصيلي بالأشياء. وقد اختار هذا الرأي بعض الحكماء.
ولكن يمكن الاعتراض على هذا القول بأنّ:
المادية تتناسب مع العلم الحصولي (أي العلم الذي يكتسبه الإنسان عن طريق التعلم والتجربة) وليس مع الحضور (أي العلم الذي يكون بحضور الشيء نفسه).
هذا القول يكفي لبيان العلم التفصيلي لله بالأشياء، ولكن يبقى علمه بذاته غير واضح.
القول السادس: إنّ الله تعالى يعلم العقل الأوّل (وهو أوّل مخلوق) بحضور ذاته عنده، ويعلم بقية الأشياء بانعكاس صورها في العقل الأوّل. وهذا القول منسوب إلى أحد الفلاسفة القدماء.
ولكن يرد على هذا القول نفس الاعتراض السابق.
القول السابع: إنّ ذات الله تعالى علم تفصيلي بالمخلوق الأوّل، وعلم إجمالي بما دونه. وذات المخلوق الأوّل علم تفصيلي بالمخلوق الثاني وعلم إجمالي بما دونه، وهكذا.
ويرد على هذا القول أيضاً نفس الاعتراض السابق.
القول الثامن: إنّ علم الله يكون باتحاده مع المعلوم. وهذا القول منسوب إلى أحد الفلاسفة أيضاً.
ويمكن الاعتراض عليه بأنّه يكفي لتوضيح كيفيّة تحقّق العلم، أي أنّه يكون بالاتحاد مع المعلوم وليس بطريقة أخرى. ولكنّه لا يثبت أنّه علم تفصيلي بالأشياء قبل خلقها.
القول التاسع: إنّ علم الله بذاته هو علم إجمالي بالأشياء، أي أنّه يعلم كلّ الأشياء بشكل إجمالي بعلمه بذاته. أمّا علمه التفصيلي بالأشياء فيكون بعد وجودها؛ لأنّ العلم يتّبع الموجود، ولا يوجد معلوم قبل وجوده. وهذا رأي معظم الفلاسفة المتأخّرين.
ولكن يمكن الاعتراض على هذا القول:
- هذا القول يتعلّق بمرتبة الأشياء، أمّا في مرتبة ذات الله فتبقى ذاته خالية من الكمال العلمي.
- هذا القول يصحّ لو كان علم الله على شكل انعكاس وحصول، ولكن ثبت أنّ المجرد (غير المادي) لا يمكن أن يكون فيه علم حصولي.
القول العاشر: إنّ علم الله بالأشياء قبل خلقها يكون بحضور ماهيّاتها (حقائقها) لذاته تعالى، على نظامها الوجودي، وليس باتّحادها أو دخولها في ذاته. بل تكون قائمة بذاته بصورة ذهنية كلّية، أي أنّ العلم لا يتغيّر بتغيّر المعلوم. فهو علم حضوري يستتبع وجود الأشياء الخارجي.
وهذا القول منسوب إلى أتباع أرسطو، وقد اعتمده كثير من المتكلمين بعد أن انتقدوا فكرة وجود الكليات في العلم الإلهي.
ويرد عليه نفس الإشكالين السابقين، بالإضافة إلى أنّه يثبت وجوداً ذهنيّاً من غير وجود خارجي.
وبناءاً على ما سبق، يمكن استخلاص النتائج التالية:
- المادة سبب الخفاء، والتجرد منشأ العلم الحضوري.
- الله تعالى عالم بالأشياء قبل وجودها في مرتبة ذاته، وهذا هو عين ذاته، وليس في مرتبة الأشياء حتّى يقال إنّه لا يوجد معلوم قبل وجوده. وقد أشار الإمام علي (ع) إلى ذلك بقوله: «عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا»[٢].
- إثبات العلم الإجمالي فقط لله بالموجودات قبل وجودها يستلزم خلوّ ذاته من الكمال العلمي، وهذا غير معقول؛ لأنّ الله تعالى وجود محض لا ينقصه أيّ كمال.
حضور الأشياء المادية لدى الله غير معقول؛ لأنّ المادية لا تتناسب مع الحضور. الله عالم بالكليات والجزئيات: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾[٣]، وهذا أقصى ما يمكننا تصوره في كيفية تعلق علمه تعالى بالأشياء، فهو العالم بالحقائق. معنى القدرة عند البعض هي أن الفاعل إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل. ولكن القرآن الكريم يعطينا تعريفاً أجمل للقدرة حيث يقول: ﴿وَ مَا كَان اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾[٤]. فمعنى أنّ الله قادر، هو أنّه لا يعجزه شيء.
والدليل على ذلك هو أنّ الله هو الوجود اللامتناهي واللامحدود، ويستحيل أن يكون عاجزاً؛ لأنّ العجز ينشأ عادةً من أحد ثلاثة أسباب:
أمّا الأول فهو منتفٍ؛ لأنّ الوجود المحض كلّه كمال، ولا يمكن أن يدخله النقص، فلا يمكن أن يكون ضعيفاً.
وأمّا الثاني فلا يقف عائقاً أمام إرادة الله، بل يستطيع أن يعطي المحل قابلية أكبر.
وأمّا الثالث فإنّه يستطيع إزالة تلك الموانع.
ويمكن تقديم ذلك بطريقة أخرى، فنقول: إذا لم يكن الله قادراً على كلّ شيء، فهل يمكن تصور وجود آخر قادر على خلق ذلك الشيء؟
إن قلنا لا توجد قدرة أخرى على خلقه، فهذا يدلّ على أنّ الشيء في ذاته مستحيل.
وإن قلنا توجد قدرة أخرى، فهذا يعني وجود شيء أكمل من الله تعالى، وهذا غير صحيح، بعد أن عرفنا أنّه لا يعوزه أيّ كمال على الإطلاق[٥].
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ أجاد أستاذنا المرحوم الشيخ محمدرضا المظفر في شرح قسمي العلم، انظر: المنطق ٢: ۱۲، الطبعة الثانية.
- ↑ صبحي صالح، نهج البلاغة: ٤٠
- ↑ سورة سبأ، الآية ٣.
- ↑ سورة فاطر، الآية ۴۴.
- ↑ انظر: السيد فاضل الميلاني، العقائد الإسلامية: ١٠١ - ١٠٧.