تنزيه الله في نهج البلاغة

من إمامةبيديا

التمهيد

أثر واقعنا على فهمنا للصفات الإلهية

قال أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم: «اللهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الوَصْفِ الجَمِيل».

إننا بطبعنا العادي ونظرًا لكوننا ماديین نميل دائماً إلى المحسوس ونقيس الأمور على واقعنا فا نتعقل مثلاً أن يكون السمع بلا حاسة، لماذا؟ لأننا وما حولنا من حيوانات نراها نسمع بحاسة هي الأذن، وهذه الناحية هي في الواقع قصور ذاتي فينا، ولو طبقنا هذه المادية وهذا القصور في فهمنا لصفات الله تعالى لكان ربنا مثلنا تعالى الله وتقدس، وهو تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[١].

وعلى هذا فإن نسبة السمع والبر والكلام نسبة صحيحة وصادقة ولكن ينبغي فهمها من منطلق ما يليق بالله تعالى، وقد أكّد أمیر المؤمنین (ع) على هذه الناحية كثیرًا كما رأينا ونرى في كلامه (ع).[٢]

أقوال سيد الموحدين (ع) في وصف الله

١. قال (ع)[٣]: «وكلُّ سميعٍ غیرَهُ يَصَمُّ عن لطيفِ الأصواتِ ويُصِمُّهُ كبيرُها ويذهب عنه ما بَعُدَ منها»:
هناك أصواتٌ للنمل في المكان البعيد في الأرض، وأصوات لحيوانات في قعر البحار، وأصوات لطيور في أجواء السماء البعيدة وهذه لا ندركها ولا نحسها، كذلك الإنسان، الصوت القويُّ يُصِمُّ آذانه وقد تصل الحالة إلى أنه لا يستطيع تمييز الصوت وفهمه وهذا أمر مشاهَدٌ بالتجربة، إذن الإنسان وكل سامع من المخلوقات له حدَّان أدنى وأعلى لمدى قدرته على السمع[٤].
وهذا نقص في المخلوق والخالق منزَّه عنه، وكذلك هو الأمر في مجال البصر ومداه، يقول (ع):
«وكلُّ بصيرٍ غيره يعمى عن خفيِّ الألوان[٥] ولطيفِ الأجسام»:
وهذا ما نعرفه اليوم من وجود المخلوقات التي لا ترى بالعین المجردة ونحتاج لنراها إلى الجهر، بل يقررون أن ثمة أجسامًا تعيش في النار وبعضها يعيش في الجليد وغیر ذلك وهي ذات ألوان ولكن لا تقع عليها أعيننا، ولكن الله أحاط بكل هذه الأمور فهو خالقها، فضلاً عن إحاطته تعالى بخلقه الذي لا نراه من ملائكة وجن وغیر ذلك، وأتصور أن الإمام (ع) في حديثه هذا عن السمع والبصر في حق الله تعالى أراد إعلام الناس على قدر عقولهم ومن واقع تجاربهم وأن الله تعالى فوق هذه المدرَكات والمدرِكات من مخلوقاته.
٢. وتحدث (ع) عن صفات الله تعالى فقال[٦]: «لا تقع الأوهامُ له على صفة»:
وقد بيَّنا فيما سبق من الدروس أن هذا لا يعني عدم وصف الله تعالى وأنه خالٍ من الصفات فقد وصف نفسَه ووصفه رسوله ووصفه أمیر المؤمنین عليها وآلهما الصلاة والسلام، وإنا المعني -كما سبق- استحالة الصفة بعنوان أنه شيء غیر الذات المقدسة فيلزم التركيب والتجزيء وهذا ما لا يصح.
«ولا تُعْقَدُ القلوبُ منه على كيفيَّةٍ»: لأن معرفة كيفيته تستدعي إحاطة ممكن الوجود بواجبِ الوجود، والقاصر بالكاملِ وهذا غیر معقول.
«ولا تنالُه التجزئةُ والتبعيضُ»: يمكن تفسر هذه العبارة الشريفة بعنوان نفي التجسيم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، كما يمكن تفسیرها بعنوان أن صفاته عین ذاته، فلو جزَّأنا الصفات عن الذات أو جعلنا كل صفة منفصلة عن الأخرى لجزَّأنا الله تعالى وبعَّضْناه وذلك يستدعي التركيب، والتركيب يستدعي مركِّبًا إلى آخر هذه اللوازم الفاسدة، تعالى الله علوًّا كبیرًا.
ولهذا قال (ع) في آخر هذه الفقرة الشريفة:
«ولا تُحيطُ بِهِ الأَبْصارُ والقُلُوبُ»: الأبصار كوسيلةٍ للشيء المنظور لا تحيط به وإنما ترى آثار سلطانه وقدرته، والقلوبُ وإنِ انعقدت على معرفته ووجوب وجوده وتوحيده، فهذا شيءٌ وأما الإحاطة به فيءٌ آخر، وكيف تحيط به وهي بعض ما خلق.
٣. وتحدث حول اطلاع الله تعالى عل أعمال العباد، فقال(ع)[٧]: «إِنَّ اللهَ سبُحْانَهُ وتَعَالى لا يَخْفَى عَلَيْهِ ما العِبادُ مُقْترفُونَ في لَيْلِهِمْ ونَهارِهِمْ»:
فهو مطلعٌ على العباد ليلاً ونهارًا ولا فرق لديه لأنه العالم النافذ ولأنه منفصل عن الزمان، ولهذا قال بعد هذه العبارة:
«لَطُفَ به خُبرْا وأحاطَ به علماً»: واللطف: هو الرقة الخاصة التي تستوجب النفوذ والتوغل في أعاق الشيء الدقيق، وهو شبيه بما نعرف الآن -ولله المثل الأعلى- بعالم الأشعة التي تمكننا من التصوير من العلو إلى قيعان البحار وأعماق وخفايا الأرض، وهذا اللطف والدقة في العلم والإحاطة شيء معجز من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الإحاطة تستوعب كل خلق الله تعالى بأعداده الهائلة من إنسان وجان ومَلَكٍ وحيوان وغیر ذلك وهذا إعجاز آخر.
«أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ»: وهذه الأعضاء ليست مصادر علمه تعالى وتقدس بل هو الذي جعلها شهودًا وأنطقها سواء كان النطق هذا الذي نعرفه أو أنها تحفظ آثار الجريمة التي تنطبع عليها، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[٨].
«وَضَمائِرُكُمْ عُيُونُهُ»: وهذا لطف في التعبیر لأن الضمیر بطبعه يناسبه الكتمان بينما العيون شاخصة بارزة، وإنما جمع بينهما الإمام (ع) ليخبر بأن الله تعالى لا يُفَرِّقُ عنده حال العبد في السرِّ أو العلانية.
«وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه»: يرتكب الإنسان إثماً في خلواته بعيدًا عن الناس لكن هذه الخلوة هي عِيانٌ عند الله أي معايَنة ومشاهَدة.
٤. وقال (ع)[٩]: «ليسَ في الأشياءِ بِوَالِج، ولا عنها بِخَارِج»:
ولتقريب حجم المخلوقات والمعلومات فلنأ خذ قريتَنا هذه وما فيها من البناء والبشر والمخلوقات والماء والنخيل والأرض والسماء فنجد أنها دنيا واسعة وما هي إلاَّ قطرة صغيرة في بحر محيط بالنسبة لخلق الله، ومع ذلك فإن الله مستغنٍ بعيدٌ ليس بداخلٍ فيها كما أنه -في بُعدِه- معها ومحيطٌ بها.
٥. ووصف (ع) ملك الموت، وهذا أسلوب لأمیر المؤمنین (ع) إذْ يدلل بعجزنا عن الإحاطة بالمخلوقات على عجزنا عن الإحاطة بخالقها ومبدعها، وقد رأينا فيما سبق مثالًا آخر من هذا في وصفه (ع) للطاووس، فيقول هنا في وصف ملك الموت[١٠]:
«هل تَحسُّ بِهِ إذا دَخَلَ مَنْزِلً أَمْ هَلْ تَرَاهُ إذا تَوفَّی أَحَدًا»: فقد جاء في الروايات أنه يتفقد البيوت كل يوم وإذا قبض روح أحدهم قال إن لي معكم عودات[١١]. ثم يترقى الإمام (ع) في بيان عجزنا عن وصف هذا الملك بقوله (ع):
«بل كيف يتَوَفَّ الجنینَ في بطنِ أمِّه! أَيَلِجُ عليهِ مِنْ جَوَارِحِها أَمِ الروحُ أجابتْه بإذنِ ربِّها؟». ثم يَخلِصُ الإمام (ع) إلى الدرسِ من ذلك بقوله (ع):
«كيفَ يصِفُ إلهَه مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مخلوقٍ مِثْلِه».[١٢]

خاتمة

تحدثنا عن بعض صفاته تعالى وتقدس وأن نسبتها إليه تعالى صحيحة صادقة ولكن ليس كما نتصوّر ونعايش في واقعنا، وهذا ينطبق على غیر الصفات مما يتعلق بالله تبارك وتعالى كما نقرأ في القرآن الكريم مثلاً، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ[١٣]، فإن «قد» هنا كما نعلم من اللغة تفيد أنه قد يعلم وقد لا يعلم، ولكن يجب حملها على غیر هذا المعنى لأنه لا يليق بالله تعالى وتقدس، ويذكر في النحو أن «قد» تفيد التكثیر وقد تفيد التوكيد.
كما أن كان وأمثالها من أفعال يذكرون أنها مع الله تكون مسلوبة الدلالة على الزمان، ولهذا فإن بعض العلماء يرتِّب على أمثال هذه الأمور آثارًا حتى في الإعراب لكي يتلاءم وجلال الله وما يليق به تبارك وتعالى، فمثلاً،في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[١٤] لا يُعرِبُ كلمة «حكيماً» بحسب ظاهرها «خبرًا لكان» لأن هذا يستلزم أنه تعالى كان جاهلاً -ونستغفر الله لهذه الكلمة- ثم عَلِم، بل يعربها حالًا أي أن حال الله في كينونته هي العلم دائماً وأبدًا، لذلك يجب تفسر مثل هذه الألفاظ بما يليق به تعالى، وهذا ما عبَّرنا عنه سابقًا بضيق الخناق.[١٥]

المراجع والمصادر

  1. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة

الهوامش

  1. سورة الشورى، الآية ١١.
  2. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص١٠٥.
  3. خ ٦٥، ص ٩٦.
  4. يقول المختصون: إن الإنسان يسمع الأصوات من تردد «٢٠ هرتز» كحدٍّ أدنى، إلى تردد «٢٠.٠٠٠ هرتز» كحدٍّ أعلى، والإنسان «يَصَمُّ عن لطيفِ الأصواتِ» أي ما هو أقل من «٢٠ هرتز»، «ويُصِمُّهُ كبيرُها» أي ما هو أكثر من «٢٠.٠٠٠ هرتز»، وقد يكون مراد الإمام (ع) هذا المعنى أو معنى لا ندركه.
  5. كالأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، القادمة من الشمس.
  6. خ ٨٥، ص ١١٥ .
  7. خ ١٩٩، ص ٣١٨ .
  8. سورة فصلت، الآية ٢١.
  9. خ ١٨٦، ص ٢٧٤ .
  10. خ ١١٢، ص ١٦٧ .
  11. بحار الأنوار ٦/ ١٤١ - ١٤٣ و١٦٩، ومنهاج البراعة ٨/ ٣٧ .
  12. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص١٠٥-١١٠.
  13. سورة الأحزاب، الآية ١٨.
  14. سورة النساء، الآية ١٧.
  15. محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص١١٠.