سورة الصف
التمهيد[١]
سورة الصف سورة مدنية، آياتها ١٤ آية، نزلت بعد سورة التغابن.
وهي سورة تدعو إلى وحدة الصف، وتماسك الأمة، وتحثّ على الجهاد، وتنفّر من الرياء، وتبيّن أنّ الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى الأرض، وأنّ رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل، وقد أرسل الله سبحانه موسى(ع) بالتوراة، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء، أرسل الله عيسى(ع) مجدّدا لناموس التوراة، ومبشّرا برسالة محمد(ص).
وقد كانت رسالة محمد(ص) بالهدى ودين الحق، متممة للرسالات السابقة، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة، وقد كره المشركون انتصار النور والخير، فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها، ولكنّ الله أيّد الإسلام، حتّى طوى ممالك الفرس والروم، وعمّ المشارق والمغارب.
وقد حاولت الصليبيّة الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة، من بينها الحرب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين، ووجّهت الصليبيّة ضرباتها للمسلمين في الأندلس، وحاولت تصفية الإسلام أيّام الدولة العثمانية، وأطلقت على تركيا اسم «الرجل المريض»، والبلاد التي تحت يدها «تركة الرجل المريض». فلمّا قام كمال أتاتورك، وأعلن إلغاء الخلافة الإسلامية، كبّر له الغرب وهلّل، وتراجعت الجيوش الغربية من أمام تركيا، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية.
وفي هذه الأيام، تقوى الحركة الإسلامية في تركيا، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين، وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.
سبب نزول السورة
جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حينما اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[٢]. فلمّا أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله، كره الجهاد قوم، وشقّ عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[٣].
هدفان للسورة لسورة الصف هدفان رئيسان:
الهدف الأول: الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه، والتحذير من كراهيته، والفرار منه، وبيان ثوابه وفضله، وأنّه تجارة رابحة. وتبع ذلك ترسيخ العقيدة، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن، ووجوب الطاعة للقائد، وتماسك الأمّة، وترابط بنيانها حتّى تصبح صفّا واحدا، محكم الأساس، قويّ الوشيجة والرّباط، كأنّه بنيان مرصوص.
فالآيات الأربع الأولى: دعوة الجهاد، والتحذير من الخوف والجبن، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء، حتّى يصبح جيش الإسلام قويّ البنيان، متلاحم الصفوف.
والآيات [١٠- ١٢] صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه، فهو أربح تجارة، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة، وهو باب النصر والفتح، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزّة.
والهدف الثاني: بيان وحدة الرسالات. فالرسالات الإلهية كلّها دعوة إلى التوحيد، وثورة على الباطل، وإصلاح للضمير، وإرساء لمعالم الفضيلة، ومحاربة للرذيلة. وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله، وتكفّل كلّ رسول بإرشاد قومه وهدايتهم، ونصحهم إلى ما فيه الخير، وتحذيرهم من الانحراف والشر.
وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبيّن رسالة موسى(ع) لقومه، وتذكر عنت اليهود، وإيذاءهم لموسى، وتجريحهم له، وانصرافهم عن روحانيّة الدعوة إلى مادّية المال.
وفي الآية السادسة، نجد عيسى ((ع)) يجدّد أمر الناموس، ويصيح باليهود صيحات ضارعة، ويعظهم ويدعوهم للإيمان، ويحثّهم على الصدقة، والعناية بالروح، وتقديم الخير لوجه الله.
والمسيح يبشّر برسالة أحمد خاتم المرسلين. فالرسالات كلّها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها، والمهيمن عليها فقد حفظ تاريخها في القرآن، ودعا إلى الإيمان بالملائكة والكتاب والرسل. قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[٤].
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله(ص) قال: «إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ».
وقال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[٥].
وفي آخر آية من السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله، كما نصر الحواريون دين عيسى، أيّام كان دينه توحيدا خالصا والعاقبة دائما للمتقين.
والعبرة المستفادة من هذه الدعوة: استنهاض همّة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية، المختارين لهذه المهمّة الكبرى استنهاض همتهم لنصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسالته وشريعته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [[[الآية]] ١٤].
المقصد الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الصف هو: «عتاب الذين يقولون ولا يعلمون بمقتضى ما يقولون، وتشريف صفوف الغزاة والمصلّين، والتنبيه إلى جفاء بني إسرائيل، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان».
ترابط الآيات في السورة[٦]
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الصفّ بعد سورة التّغابن، ونزلت سورة التغابن بعد سورة التحريم، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الصف في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[٧]. وتبلغ آياتها أربع عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
غرض هذه السورة الحثّ على الجهاد في سبيل الله، وتوبيخ المنافقين على تقاعسهم عنه، وقد كان هذا ناشئا من موالاتهم للمشركين، فكانوا يكرهون قتالهم لأنّهم يبطنون الشرك مثلهم، فالسياق فيها مع المنافقين كالسياق في السورة التي قبلها، ولهذا ذكرت بعدها.
الحث على الجهاد الآيات [١- ١٤]
قال الله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[٨]، فذكر تسبيح كل شيء له ليسبّحه أولئك المنافقون ويؤمنوا به ثمّ وبخهم على أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، فيقولون ما لا يفعلون، ويتقاعسون عن الجهاد مع المسلمين.
وذكر جلّ وعلا أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا، فيثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون. ثمّ حذرهم عاقبة زيفهم، أن يزيغ قلوبهم فيصيروا إلى الكفر الصريح، كما أزاغ قلوب قوم موسى حينما زاغوا وآذوه، ثم رغّبهم في الإيمان بتبشير عيسى بالنبي الذي يدعوهم إليهم: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[٩]. ثم ذكر سبحانه أنهم يريدون إطفاء نوره، وأنه سيتمّ نوره ويظهر دينه على الدين كله ثم دلّهم على ما ينجيهم في أخراهم، وهو أن يصدقوا في إيمانهم، ويجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، ليغفر لهم ذنوبهم في أخراهم وينيلهم نصرا قريبا في دنياهم، وهو فتح مكة ثم أمرهم أن يكونوا أنصارا لله مخلصين كحواريي عيسى حينما قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾[١٠].[١١]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها»، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٩- ١٩٨٤.
- ↑ سورة الصف، الآية ٤.
- ↑ سورة الصف، الآية ٢-٣.
- ↑ سورة البقرة، الآية ٢٨٥.
- ↑ سورة البقرة، الآية ١٣٦.
- ↑ انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن»، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.
- ↑ سورة الصف، الآية ٤.
- ↑ سورة الحشر، الآية ١.
- ↑ سورة الصف، الآية ٦.
- ↑ سورة الصف، الآية ١٤.
- ↑ السيد جعفر شرف الدين، الموسوعة القرآنية، ٩: ٢٣٣ - ٢٤٠.