آية التبليغ في التاريخ الإسلامي

من إمامةبيديا

تمهيد

قصد رسول اللّه(ص) الحجّ في العام العاشر من الهجرة. وقبل أن ينطلق تلقاء «الحرم الإلهي» أمر النبيّ(ص) أن يُخبروا الجميعَ بعزمه على الحجّ، فتطلّع المسلمون إلى البيت العتيق واجتمعوا للحجّ من كلّ فجّ عميق، فاحتشد منهم جمع عظيم.

خطب النبيّ الأقدس(ص) الناس مرّات في ذلك الموسم المهيب، ثمّ راح في خطبته الطويلة يوم «عرفة» يهاجم آخر بقايا الثقافة الجاهليّة، وَيَلقي بما تبقّى من معاييرها في قاعٍ سحيق، وهو يدعو الناس إلى الثبات على الحقّ، وبناء حياتهم وفق المعايير الإلهيّة وقِيَم السماء. كما أهاب بهم التمسّك بكتاب اللّه وسنّة العترة النبويّة المطهّرة.

في ذلك السفر عاد النبيّ(ص) يؤكّد ما سبق أن أعلنه للاُمّة في ذلك العام بالكناية والتلميح تارة، وبصراحة ووضوح تارة اُخرى، من أنّ هذه السنة التي يُمضيها بينهم هي آخر سنيّ عمره الشريف.

لهب متأجّج راح يسكن النفوس، ولوعة متفجّعة راحت تتدافع في الصدور لهذا النبأ المرتقب، حملت المسلمين على موج من التطلّع والشوق لنبيّهم، والى أن يستفيدوا ويتعلّموا ويزدادوا من معلّمهم العظيم ما واتتهم الفرصة المتبقّية لذلك.

والنبيّ أيضاً هاجت به أشواقه، وفاضَ به حماسه الطهور لهذا الحضور المتألّق بين أفواج المسلمين في هذا الموكب المهيب، وبانتظار تبليغ كلمة هي آخر كلمات السماء وأهمّها على الإطلاق، وإيصال رسالة هي الأكمل والأخطر.

حماس عارم من الاُمّة، وترقّب نبويّ يشوبه التوجّس لنبأ عظيم حانت لحظته أو كادت. هذا هو المشهد الذي انتهت إليه حَجَّة الوداع.

المسلمون يعودون بعد انتهاء الموسم، يسلك كلّ فريق السبيل الذي يؤدّي به إلى أهله وسكناه، لكن في وادي غدير خمّ، وقبل أن تفترق بهم الطريق إذا صوت السماء يقرع فؤاد النبيّ، وإذا الوحي يأتيه من فوره، ملقياً عليه الأمر بجزم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ[١].

التأمّل في سياق الآية وما فيها من شدّة وتصميم على الإبلاغ، وما تنطوي عليه من تحذير جادّ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الرسالة هي من الخطورة بمكان، وإنّ عمليّة الإبلاغ تقترن بالتوجّس نظراً لمحتوى الرسالة وملابسات الموقف.

فيا تُرى، ما هو الأمر الذي يتحتّم على النبيّ(ص) أن يبادر إلى إبلاغه؟ وما هي الرسالة التي يبعث إبلاغها في نفس النبيّ(ص) كلّ هذه الخشية والتوجّس، وهو الصلب الذي تحمّل ما تحمّل في سبيل تبليغ كلمات اللّه ورسالاته ولم يبالِ، وذو العزم الراسخ في سبيل إعلان الحقّ وتوسيع مداه، وهو الطود الشامخ الذي واجه الشرك وحده؟

أطبقت كلمة أعلام الشيعة محدّثين ومفسّرين ومؤرّخين ومتكلّمين ـ ودون أدنى شائبة تردّد ـ أنّ الآية مرتبطة بواقعة «يوم الغدير»، وأنّ محتوى الرسالة وفحواها هو «الولاية» و«الإمامة العلويّة».

ومن ثَمّ ذهبوا إلى أنّ الآية المباركة نزلت في الثامن عشر من ذي الحجّة عام ١٠ ه لتؤكّد ـ والمسلمون محتشدون من كلّ حدب وصوب ـ على «الولاية العلويّه» للمرّة الأخيرة، في ظلّ أجواء أخّاذه مؤثّره تستعصي على النسيان.

أمّا علماء أهل السنّة فقد تفرّقت بهم السبل، فلم تتّفق كلمتهم بشأن زمن نزول الآية، كما لم يتوحّدهم رأي بشأْن محتوى الأمر الذي يتحتّم على النبيّ إبلاغه.

لقد رصد فخر الدين الرازي أغلب هذه الآراء، وأنهاها إلى عشرة أقوال، يتّفق القول الأخير منها مع رؤية الشيعة. لكن من اليسير أن نلحظ عدم استقامة ما ذكره، وإن يبدو وجود مؤيّدات أحياناً في كلمات الصحابة أو التابعين ذكرها غير الفخر الرازي في كتبهم.

وقبل أن نطلّ على بعض الرؤى التي اكتنفت الآية، من الجدير أن نتناول مفهومها بشيء من البحث والتحليل، عبر النقاط الآتية:

  1. قوله سبحانه: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ[٢]: تنصّ الجملة إلى أنّ المعنيّ بالخطاب هو رسول اللّه(ص)، وفيها دلالة على أنّ محتوى الرسالة يرتبط به أكثر، وقد اُمر بالإبلاغ، لكن ثَمّ حالة من التوجّس والخيفة تمنعه من الإجهار. ولقد ذكر هذه الحقيقة جميع رواة الشيعة، وأيّدتها بعض روايات العامّة [٣].
  2. قوله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ[٤]: تحتشد في هذا الجزء من الآية دِلالات تفيد أنّ رسول اللّه(ص) كان عند نزول الآية قد انتهى من تبليغ الرسالة، ووفى بحقّ هذا الدين، وأنّ هذا النبيّ حمل إلى الناس كلمات اللّه وهدي السماء وتعاليمها، ثم هو الآن في مواجهة «أمر» بلغ من عظيم شأنه وجلال خطره، أنّه إذا لم يُعلنه تصير «الرسالة» بأتمّها عرضة للضياع، حتى لكأنّه ما بلّغ من «الرسالة» شيئاً. هذا بدوره يُثبت صحّة الروايات التي ذهبت إلى أنّ نزول الآية جاءَ في سياق «سورة المائدة»، ومن جملة آخر الآيات المدنيّة، لا أنّها مستثناة منها، وأنّها نزلت في مكّة !
  3. قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ[٥]: ما الذي يخشاه النبيّ؟ القتل؟ ! الأذى والتعذيب؟ ! أم اهتياج المشركين واليهود وتفجّر سخطهم؟ ! هذه سيرة رسول اللّه(ص) تفصح بأنّ هذا العظيم لم يعرف الخوف إلى قلبه طريقاً قط عندما يتعلّق الأمر به. ثمّ اسمعوا وحي السماء؛ لتروا كيف تصف صلابة رُسُل اللّه، وشموخ حمله الرسالات وثباتهم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا[٦]! أوَ بعد هذا، يجوز أن يُنعت رسول اللّه(ص) بالخوف من البطش والأذى، أو الرهبة مِن القتل والتعذيب، وهو أفضل الرسل الكرام، وخاتم النبيّين، والحلقة الأخيرة في موكب حملة الحقّ ورسالات السماء ! هي إذاً خشيةٌ، بيد أنّها من «لون» آخر، فما كان يخشاه النبيّ هو أن لا يؤتي «البلاغ» ثماره المرجوّه، وما كان يبعث على توجّسه هو طبيعة الجوّ الذي يمنع من نفاذ كلمة الحقّ، ويردع عن أن يؤتي «البلاغ» آثاره المطلوبة. هذا ما كان يخشاه النبيّ ويبعث في نفسه التوجّس لاغير.
  4. قوله: ﴿مِنَ النَّاسِ[٧]: «الناس» هو لفظ مطلق بلا شكّ، والنصّ يتضمّن حفظ اللّه سبحانه وحراسته للنبيّ(ص)؛ حفظه من أحابيل اُولئك الذين ستنطلق جهودهم وهي تهدف الحؤول دون وصول «البلاغ» الى الناس، ومِن ثمَّ إفشال مهمّته.

فعلى هذا يتّضح أنّ المراد من «الكفر» في قوله: ﴿الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[٨] هو الكفر ببعض الآيات الربّانيّة، والمقصود من «عدم الهداية» في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي[٩] هو عدم نجاح خديعة هؤلاء، وفشل ما أبرموه للنَّيل من رسول اللّه(ص) في إبلاغ ﴿مَا أُنْزِلَ[١٠].

وإلّا لو كان المراد من «عدم الهداية» عدم الهداية إلى الإيمان، لتعارض ذلك مع أصل التبليغ ومهمّة الإبلاغ، ولم يتّسق مع فلسفة الدعوة والهداية بالأساس، حتى لكأنّ اللّه سبحانه يقول: ادعو هؤلاء الى حكم اللّه، بيد أنّني لن أهديهم !

وهكذا يتّضح ـ بلا أدنى شائبة ـ أنّ المراد في مدلول هذا الجزء من الآية أنّ جهود هؤلاء في إطفاء هذا النور ستصاب بالخيبة، وستبوء جهودهم للطعن بالنبيّ بالضلالة والخسران، وتذهب مساعيهم لإفشال هذا «البلاغ» أدراجَ الرياح، ولن يحصدوا من رمي النبيّ(ص) بتهمة الانحياز إلى بيته وقرابته القريبة إلاّ الذلّة والصغار.

فالمقصود إذاً: ستسقط كلّ اُمنيات هؤلاء للحؤول دون الإجهار بهذا البلاغ، وتصير كهشيم تذروه ريح عاتية.

تحوي هذه الآية من النقاط والعظات المضيئة أكثر بكثير ممّا سطّرته هذه الكلمات. لكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه في نقل الرؤى يهدف إلى تشييد معالم المشهد التاريخي للواقعة، وتجسيد أجواء النزول، أكثر ممّا يهدف إلى تبيين معنى الآية.

أمّا الآن فنمرّ على بعض الأقوال في الآية من خلال المحورين التاليين:

١. نزول الآية أوّل البعثة، والخشية من إبلاغ الدين !

يبدو أنّ أوّل من ذهب الى ذلك ـ وان لم يقطع به ـ هو محمّد بن إدريس الشافعي، فعلى أساس ما ذكره، أنّ النبيّ(ص) بعد أن أتاه الوحي ونزلت عليه:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[١١]، كبر ذلك عليه، وخاف التكذيب وأن يُتناول من قبل المشركين، فنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ، وقد كان ذلك عصمة له من قِبَل اللّه سبحانه كي يمضي على تبليغ ما اُمر به بثبات ودون خوف[١٢].

على أساس هذه الرؤية روي عن حسن البصري قوله: إنّ رسول اللّه(ص) قال: «لَمّا بَعَثَنِيَ اللّهُ تَعالى بِرِسالَتِهِ ضِقتُ بِها ذَرعَاً، وَعَرَفتُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يُكَذِّبُني»[١٣] فأمسك عن الدعوة حتى نزلت عليه الآية.

سورة المائدة هي من بين آخر السور التي نزلت على النبيّ(ص) إن لم تكن آخرها[١٤]. فما الذي كان يريده اللّه سبحانه من قوله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ولم ينزل على النبيّ(ص) شيء بعدُ؟ وما الذي كان يخشاه رسول اللّه(ص) ويمنعه عن الإبلاغ ولمّا يواجهِ المشركون بعدُ آيةً أو آيات من تلك التي تقضّ مضاجعهم، وتبعث فيهم النقمة والاهتياج !

إنّ هذا الذي يزعمونه لا يليق بمُبلِّغ عاديّ، وهو ليس خليق بإنسان متوسّط الحال لايزال في أوّل الطريق، أفيجوز على رسول اللّه(ص) وذلك القلب المجدول إلى السماء، الموصول باللّه أبداً؟ وهل يتّسق مع خطاه الراسخة وتلك الارادة الصلبة التي لا تعرف الوهن !

أمّا ما ذكروه من أنّ الباعث على نزول الآية هو ما كان من حراسة أبي طالب عمّ النبيّ لرسول اللّه(ص)؛ إذ بنزول الآية طلب النبيّ إليه أن يكفّ عن الحراسة بعد أن وعد اللّه سبحانه بعصمته وحمايته[١٥]؛ فإنّ فيه بالإضافة إلى ما تمّت الإشارة إليه في نقد الرؤية الاُولى، أنّه يتعارض مع الواقع التاريخي الصادق. فهذا الواقع خير دليل على أنّ رسول اللّه(ص) ظلّ يحظى بالحراسة سنوات خاصّةً في المدينة، وليس ثمة شاهد أقوى على ذلك من وجود «اُسطوانة الحرس».

٢. إخفاء بعض القرآن خوفاً من المشركين !

ذكروا أنّ رسول اللّه(ص) كان أيّام اقامته بمكّة يجاهر ببعض القرآن، ويُخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من أذى المشركين أو اليهود، وخوفاً ممّا يمكن أن يوقعوه به !

وممّا يبعث على الأسف أن يلتزم بعض الناس أحياناً بأقوال واهية وبآراء لا تليق كهذه. أفيجوز مثل هذا الظنّ على رسول اللّه(ص)؟ ثمّ هذه حياته التي تتفجّر بالحيويّة والحركة، وهذه سيرته كلّها مضاء وحزم وصِدام مع مظاهر الشرك والجاهليّة، فهل تجتمع هي وهذا الظنّ الواهي؟ وهل تستحقّ حياة نبيّ اللّه هذه الكلمات؟ !

إنّ ما تضمّه تفاسير أهل السنّة ومجاميعها الروائيّة من أقوال ورؤى حيال الآية، لايتعدّى ذلك الرصد الذي قدّمه الفخر الرازي للأقوال في المسألة، وَحين نتفحّص بقيّة الأقوال التي أحصاها الرازي فهي أضعف وأكثر وهناً من الرأي الذى عرضناه قبل قليل.

أمّا آخر الأقوال فقد ذكره الفخر الرازي على النحو الآتي: «نَزَلَتِ الآيَةُ في فَضلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ (ع)، ولَمّا نَزَلَت هذِهِ الآيَةُ أخَذَ بِيَدِهِ، وقالَ: مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ، وعادِ مَن عاداهُ فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقالَ: هَنيئاً يَا بنَ أبي طالِبٍ !أصبَحتَ مَولايَ ومَولى كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ، وهُوَ قَولُ ابنِ عَبّاسٍ وَالبَراءِ بن عازِبٍ ومُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ»[١٦].

ثم انعطف الفخر الرازي ليقول: «وَاعلَم أنَّ هذِهِ الرِّواياتِ وإن كَثُرَت إلّا أنَّ الأَولى حَملُهُ عَلى أنَّهُ تَعالى آمَنَهُ مِن مَكرِ اليَهودِ وَالنَّصارى، وأمَرَهُ بإِظهارِ التَّبليغِ من غَيرِ مُبالاةٍ مِنهُ بِهِم».

إنّ ما صرّح به الفخر الرازي من أنّ الروايات في هذا القول ـ الأخير ـ كثيرة، لهو أمر ثابت وصحيح. بَيد أنّ الذي يبعث على الدهشة هو حال اُولئك المفسّرين والمحدّثين والمتكلّمين الذين لا ينصاعون إلى كلّ هذا الحشد من الروايات، ولا يُذعنون إليه، بل يجنحون إلى معاذير وتفسيرات لا تلتئم والواقع التاريخي، ولا تنسجم مع شخصيّة رسول اللّه(ص)، أو تتواءم مع سيرته الوضيئة، وتتوافق مع خطاه الراسخة في إبلاغ الحقّ[١٧].

نزول الآية في واقعة الغدير لإبلاغ الولاية

يتّضح ممّا سلف؛ واستناداً إلى الروايات والأخبار الكثيرة التي أوردنا نصوصها، أنّ آية الإبلاغ نزلت في غدير خمّ للثامن عشر من ذي الحجّة عام ١٠ ه، عطفا على ما كان قد صرّح به النبيّ وذكره مرّات، وتأكيداً لما كان نزل على رسول اللّه (ص) من الوحي القرآني والبياني أكثر من مرّة.

على أنّ من الحريّ أن نؤكّد أنّ قوله سبحانه: «مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ» يشمل كلّ ما هبط على النبيّ (ص) في هذا المجال، على امتداد سنيّ الرسالة، سواء أكان وحياً قرآنيّاً أم وحياً بيانيّاً، وذلك في مختلف المواضع والمناسبات، وعلى صعيد كافّة التجمّعات ممّا قلّ منها أو كثُر.

والآن هذا هو النبيّ أمام صفوف متراصّة من المسلمين تبلغ عشرات الاُلوف قد قصدوا مكّة حجّاجاً من حواضر العالم الإسلامي وبواديه، وأمّوا البيت العتيق من كلّ فجٍّ عميق. وإذا صوت الوحي يأتي النبيّ من فوره، يأمره وهو في السنة الأخيرة من عمره الشريف وفي حَجَّة الوداع، أن يصدع بالولاية العلويّة، ويُعلن على الجميع إمامة عليّ بن أبي طالب، بصراحة تامّة، ودقّة متناهية لا تحتمل أدنى شائبة من تأويل، ولا تُطيق أيّ عذر أو تسويغ مهما كان.

يتوجّس النبيّ من الأمر ويخشاه، بيد أنّ خشيته لا على نفسه وهو الذي حمل روحه على كفّه وبذلها في سبيل الحقّ منذ أيّام الدعوة الاُولى، فقهر الصعاب وجعل المستحيل ذلولاً.

يتوجّس، لكن لا من المشركين وقد كسر شوكتهم، وصاروا على يديه فلولاً يائسة منهوكة.

يخاف، لكن أيضاً لامن اليهود والنصارى وقد لاذوا أمام عظمة المسلمين وجلال إهابهم، بصمت ذليل. إنّما الذي يخشاه رسول اللّه (ص) ويتوجّس منه لهو «داخل اُمّته» وما يريبه هو هذا «النفاق» الكامن الذي أخذ موقعه بين بعض المسلمين، وما يخشاه هو هذه الشكوك التي يبثّها النفر الذين تظاهروا بالإسلام، وهم في ريب من أصل الرسالة، وما يخاف منه هو هذه التُّهَم التي تهجم على الكلام النبوي، لترمي رسول اللّه (ص) بالفئويّة الاُسريّة الضيّقة، ومحاباة قرابته القريبة، وتتّهمه بتحميل أهله على الناس !

ممّا تكشف عنه لغة الآية والروايات ـ التي مرّت نصوصها فيما مضى ـ أيضاً أنّ أمين الوحي جبرائيل (ع) كان قد حمل في الأيّام الأخيرة عن اللّه سبحانه، إلى أمين الرسالة (ص) أهميّة هذا الإبلاغ، وأكّد على ضرورته مرّات، وأنّ رسول اللّه (ص) تحدّث عن توجّسه وخيفته؛ وها هو الآن البلاغ الأخير يقرع فؤاده: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ[١٨].

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ. مخاطبة رسول اللّه (ص) بعنوان الرسالة هو الخطاب الخليق بصفة التبليغ.

إيهٍ يا نبيّ اللّه ! هل تتوجّس؟ تُساورك الخشية، وتنتابك الخِيفة؟ لكن أيّ شيء هو شأنك غير البلاغ والدعوة؟ وهل لك مسؤوليّة اُخرى غير أن تصدع بكلمات اللّه وتجهر بها؟ فادعُ ـ إذا ـ واصدع وبلّغ، إنّما بدقّةٍ متناهية، وبصيغة مؤثّرة وثابتة «وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَا الْبَلَـغُ».

﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؛ تُرى ما الذي ﴿أُنْزِلَ إِلَيْكَ؟ ولماذا لم يُصرّح به؟ إنّما كان ذلك كي يكشف عن الموقع الرفيع الذي يحظى به الأمر. وجاء بهذه الصيغة إجلالاً وتعظيماً لذلك الأمر، ولكي يُشير إلى أنّه ليس لرسول اللّه (ص) من الأمر شيء، ولا له فيه إرادة واختيار، بل مهمّته الإبلاغ وحسب.

من جهة اُخرى تنمّ هذه الصيغة عن صحّة فراسة النبيّ لما كان يرتقبه من ردود فعل متوجّسة تصدر عن القوم، ممّا جعل اللّه سبحانه يدع الأمر في هالة من الغموض والإبهام، ما برحت تُلقي ظلالها على الموقف حتى تحين لحظة البلاغ، وينطق النبيّ بكلمة السماء.

﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ؛ يُحار الإنسان لاُولئك الذين جنحوا في تفسير الآية إلى كلام آخر، وحين راموا الصدود عن «الحقيقة» سلكوا طريقاً واهياً لا يأوي إلى قرار !

تُرى كيف يفسّرون هذه الجزء من الآية؟ وما هو المعنى الذي يسوقونه إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تُصرّح به بعض التعاليم الإلهيّة من النهي عن الكتمان؟

تُرى ما الذي يؤدّي كتمانه وعدم إظهاره والتأكيد عليه، ممّا نزل على رسول اللّه (ص)، إلى بلوغ حالة يصير فيها بنيان الرسالة في مهبّ الريح وكأنّها لم تُبلّغ !

وأيّ أمر هذا الذي إذا غاب عن الأذهان، واستطاع أعداء الرسالة وأْده والقضاء عليه في واقع المجتمع؛ يتقوّض أساس هذا الدين، وكأنّه لم يكن !

إنّ هذه الكلمة العجيبة المدهشة لتومئ من جهة إلى ما يحظى به هذا البلاغ من شأْوٍ عظيم، كما تؤشّر من جهة اُخرى إلى حقيقة تُفيد أنّه ليس ثمّة خيار أمام رسول اللّه (ص) إلّا تبليغ هذه الرسالة، حيث أنذره ربّه ـ إن هو لم يبلّغ ـ بتلاشي جميع الجهود، وضياع كلّ تلك الآلام والمشاقّ التي طوتها الأعوام الثلاث والعشرون من عمر الرسالة، واضمحلال ما أنفق فيها من جهد وجهاد.

﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[١٩]؛ في عين اللّه حراستك، وأنت في حفظه وحماه. كأنّك ـ يا رسول اللّه ـ تتوجّس خيفة من الأمر، وتخشى ردود فعل تلك النفوس المظلمة، وتتهيّب هياجها وما تُثيره من شحناء. لكن اعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير.

سيزول مكرهم جميعاً، ويغدو كهشيم تذروه الرياح، ويتلاشى كيد الناس، جميع «النَّاسِ» !

إنّ اللّه سبحانه ليؤكّد في هذا الجزء مجدّداً على عظمة البلاغ، كما يُشير اُخرى إلى ذوي الريبة والنفوس المدلهمّة. لكن مَن هم هؤلاء؟

لم يُفصح النصّ عن شيء، بل مضى يوعِد بزوال جميع ضروب المكر، وسقوط كلّ أحابيل الشيطان، وتلاشي المكائد جميعاً، من أيّ إنسان كان !

إنّ كلّ كلمة في الآية لتُسفِر عن عظمة هذا البلاغ وسموّه، وهي تُومئ أيضاً إلى مخاوف وهواجس، وإلى نفوس اُناسٍ موبوءة بالإحن والشحناء، مملوءة بالضغينة والغضب !

فيا ليت اُولئك المفسّرين والباحثين القرآنيّين الذين جنحوا إلى أقوال اُخَر يبصرون بتأمّل: أيّ شيء من «مَآ أُنزِلَ» يثير إبلاغه كلّ هذه الخشية والهواجس؟ حتى إذا ما ظهر إلى الناس أثار الحنق والغضب، وجرّ اُناسا إلى مواجهات ومواقف؟

ثمّ لهم أن يتأمّلوا في حقيقة التاريخ الإسلامي وواقعه الصادق، ليُبصروا ما الذي أثار الإحَن والفتن؟ وأيّ شيء أحدث كلّ هذا الهياج؟ ![٢٠].

المراجع والمصادر

  1. موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ

الهوامش

  1. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  2. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  3. شواهد التنزيل: ج١ ص٢٥٤ ح٢٤٨.
  4. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  5. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  6. سورة الأحزاب، الآية ٣٩.
  7. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  8. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  9. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  10. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  11. سورة العلق، الآية ١.
  12. الاُمّ: ج٤ ص١٦٨، والنصّ طويل وقد أخذنا منه مورد الحاجة.
  13. أسباب النزول للواحدي: ص٢٠٤ ح٤٠٢؛ الدرّ المنثور: ج٣ ص١١٦ نحوه.
  14. تفسير ابن كثير: ج٣ ص٣؛ التحرير والتنوير: ج٤ ص٢٥٥.
  15. الدرّ المنثور: ج٣ ص١١٨، المعجم الكبير: ج١١ ص٢٠٥ ح١١٦٦٣.
  16. تفسير الفخر الرازي: ج١٢ ص٥٣.
  17. موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ، ج١، ص ٥٢٤ - ٥٣١.
  18. نظراً لما كان يحظى به هذا البلاغ من أهمّية خطيرة، وما كان له من دور مصيري عظيم، فقد اُطلق على هذه الحجّة «حجّة البلاغ». ما أروعه من اسم يستوطن النفس ويحفّز الذاكرة، لكن وا أسفاه للمؤرّخين الذين مالوا إلى محو هذا الاسم المعبّر الأخّاذ عن الذاكرة ! يكتب ابن إسحاق في هذا السياق: «فكانت حجّة البلاغ، وحجّة الوداع، وذلك أنّ رسول اللّه (ص) لم يحجّ بعدها» (سيرة ابن هشام: ج٤ ص٢٥٣).
  19. سورة المائدة، الآية ٦٧.
  20. موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ، ج١، ص ٥٣١ -٥٣٥.