المعاد في نهج البلاغة
التمهيد
قال الإمام أمير المؤمنين (ع): «عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولَى»[١].
هنا يجري الحديث عن الأصل الخامس من أصول الدين وهو المعاد، وبحث المعاد من أكثر الأمور التي عني بها الإمام (ع) في كلمه، في خطبه وكتبه وكلماته القصار، فنجده يذكر المعاد ويذكِّر به في كل مناسبة لذلك.
وحديث المعاد مترامي الأطراف وهو يتعلق بأحاديث عن الدنيا والآخرة ويتصل بموضوع الجنة والنار والبرزخ والبعث والنشور وأمور كثیرة هي في مجموعها من عالم الغيب الذي إنما نأخذ ما نعلم من تفصيلاته من القرآن الكريم ومن أحاديث رسول الله والأئمة عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.[٢]
أولاً: تعريف المعاد
التعريف اللغوي
المعاد لغةً: البعث يوم القيامة.
التعريف الاصطلاحي
واصطلاحاً يعرِّفُهُ علماء الكلام بأنه الوجود الثاني للأجسام وإعادتها بعد موتها وتفرقها[٣].
وهذا نصٌ على أن المعاد يتعلق بإعادة الأجسام وليس إعادة الأرواح فقط كما يعتقد آخرون. في الكلمة التي افتتحنا بها هذا البحث يقول (ع)[٤]:
- «عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولَى».
فالإمام (ع) يتعجب أن ينكر الإنسان النشأة الآخرة وهي المعاد في حین أنه يرى النشأة الأولى التي هي الخلق والحياة في الدنيا، فقد خُلِقَ الإنسان وقد أتى عليه حین من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً، فمن الممكن والأَولى أن يعاد خلقه بعد أن أصبح رفاتاً، وهذا مصداق لقوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾[٥].
وفي هذا المجال يشیر الإمام إلى ناحية أخرى وهي ما عرَّفَ به علماء الكلام المعاد -كما ذكرنا- فيقول (ع)[٦]:
- «حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ اَلْأُمُورُ وَتَقَضَّتِ اَلدُّهُورُ وَأَزِفَ اَلنُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ اَلْقُبُورِ وَأَوْكَارِ اَلطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ اَلسِّبَاعِ وَمَطَارِحِ اَلْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلاً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ اَلْبَصَرُ»: فيمكث الإنسان دهوراً في البرزخ، حتى إذا أزف (أي قرب) النشور، يخرج البشر من أماكن شتى كانوا متفرقین فيها، فبعضهم كان في قبر وبعضهم أكلته الطيور في أوكارها وبعضهم أكلته السباع في أوجرتها (أي جحورها) أو في أماكن ومطارح أخرى يموت فيها البشر كقيعان البحار وغيرها، فيخرج الجميع مهطعن (أي مسرعین، وهو تعبیر قرآني) فيكونون في سیرهم كالرعيل أي القطعة من الخيل فلا ينفرد أحد عن الآخر بسبب سرعتهم فيكونون كلهم بین يدي الله تعالى يراهم ويحيط بهم وذلك تعببر الإمام «يُنْفِذُهُمُ البَصرَ».[٧]
ثانياً: سير الإنسانية
فقد أعطى الإمامُ نبذةً مختصرةً وهي جامعة لسير الإنسانية ابتداءً وانتهاءً. فمن ذلك قوله (ع)[٨]:
- «عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اِقْتِدَاراً وَمَرْبُوبُونَ اِقْتِسَاراً»:
فقد خلقهم بقدرته وهو مهيمن عليهم بهذه القدرة، وهذا لا يعني أنهم مجبورون على الأعمال بل القسر هنا هو من ناحية الخلق من الأساس، كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية بأن الإنسان مخیرٌ ظاهراً مسیرٌ باطناً، وهذا لا يعني الجبر في شيء بل يعني أن أساس الخلق كان قسراً ولم يكن باختيار الإنسان، فالإنسان لم يختر أن يأتي للدنيا ولا يختار كيف يخرج منها ولم يختر أن يكون له عقل، بل إن كوننا مختارين في أعمالنا هو في حد ذاته أمر قسري علينا لا خيار لنا فيه.
- «وَمَقْبُوضُونَ اِحْتِضَاراً وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً وَكَائِنُونَ رُفَاتاً»: فالله تعالى يقبض أرواحنا ويحضرها إليه، وأما أجسادنا فتوضع في الأجداث أي القبور، ثم بعد ذلك ينقلب سیر الإنسانية فتتحلل هذه الأجساد وتصبح رفاتاً تحت التراب.
- «وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَمَدِينُونَ جَزَاءً وَمُمَيَّزُونَ حِسَاباً»:
وتلك مرحلة أخرى من سیر الإنسانية، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[٩]، وقوله تعالى في موضوع التمييز بین الناس في الحساب كل بعمله: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾[١٠]، وقوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾[١١]، فكلٌّ مدينون ومجزيون بأعمالهم، إن خیراً فخیر وإن شرًّا فشر ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[١٢].
- «قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ اَلْمَخْرَجِ وَهُدُوا سَبِيلَ اَلْمَنْهَجِ وَعُمِّرُوا مَهَلَ اَلْمُسْتَعْتِبِ وَكُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ اَلرِّيَبِ وَخُلُّوا لِمِضْمَارِ اَلْجِيَادِ... فِي مُدَّةِ اَلْأَجَلِ»:
ولله الحق أن يعاتبهم ويحاسبهم فقد أمهلهم وأعطاهم الحياة وأعطاهم الاختيار وأوضح لهم الطريق ومكَّنهم من التنافس في المضار نحو الخیرات والمكارم لنيل الجنة.[١٣]
ثالثاً: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾[١٤]
وفي هذا المجال نلاحظ قوله (ع)[١٥]:
- «حَتَّى إِذَا بَلَغَ اَلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاَلْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ وَأُلْحِقَ آخِرُ اَلْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ».
ومن أقواله (ع):
- «تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ»[١٦].
فهم مجموعون جميعاً أولهم وآخرهم في عرصة واحدة ومجمع واحد، فبعدذلك البِلى والتحلل في التراب أو في أحشاء الحيوان أو في قاع البحار يشاء الله تعالى أن يعيد الناس من جديد فيكون ذلك الموقف الرهيب:
- «أَمَادَ اَلسَّمَاءَ وَفَطَرَهَا وَأَرَجَّ اَلْأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا وَقَلَعَ جِبَالَهَا وَنَسَفَهَا وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْرِيقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُ مِنْ مُسَاءَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا اَلْأَعْمَالِ وَخَبَايَا اَلْأَفْعَالِ وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلاَءِ وَاِنْتَقَمَ مِنْ هَؤُلاَءِ...».
وميَّزهم بأعمالهم فريقین: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[١٧]، وعندها «لا يظعَنُ النُزَّالُ» أي لا يرتحلون بل يقيمون فيقال لأهل الجنة: خلود، ويقال لأهل النار: خلود.
وقال (ع)[١٨]:
- «يومٍ تَشْخَصُ فيهِ الأبصارُ، وتُظلِمُ له الأقطارُ... يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ وَتُظْلِمُ لَهُ اَلْأَقْطَارُ ... وَيُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَتَذِلُّ اَلشُّمُّ اَلشَّوَامِخُ وَاَلصُّمُّ اَلرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً وَمَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً فَلاَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَلاَ حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَلاَ مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ»: وذلك قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً﴾[١٩].[٢٠]
رابعاً: عدل وعفو ومداقَّة
يتحدث الإمام (ع) عن هذا العدل والعفو والتدقيق في الحساب في عدة مواطن، فمن ذلك:
قوله (ع) في كتابٍ كتبه إلى محمد بن أبي بكر[٢١]:
- «فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ اَلصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَاَلْكَبِيرَةِ وَاَلظَّاهِرَةِ وَاَلْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ».
فمن جانب نجد الإحاطة التامة من الله تعالى بأعمال العباد والدقة في تسجيل جميع شؤونهم ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾[٢٢]، والتعبیر بالعباد تعبیر مهم وله مدلوله وهو أن الله تعالى هو المولى والناس عبيده فهو إذن يملك أمر مساءلتهم وحسابهم على أعمالهم صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها وتلك هي الدقة في رصد الأعمال لأنه تعالى مطلع على كل شيء ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[٢٣]، فإنْ عذَّبَ اللهُ تعالى عباده فذلك هو العدل لأنه إنما يعذبهم بأعمالهم، وإِنْ عفا عنهم فهو العفوُّ الكريم.
إذن ففي ذلك مشهد وشأن من شؤون المعاد والقيامة، ونلاحظ أن في مجموع ذلك وما سيأتي أيضاً حكماً وأدلةً عقليةً توجب أن يكون المعاد حقًّا وأنه لا بد منه، وإلا لما كان هناك عدلٌ وانتظام ولكان القويُّ في هذه الحياة الذي يظلم ويفتك لا يُؤخَذُ منه الحق للضعيف المظلوم وهذاخلاف العدل والحكمة الإلهية، وتضييعٌ لحقوق الإنسان من النفس والمال والحريات.[٢٤]
خامساً: صورتان للنعيم والجحيم
تحدث الإمام عن نعيم الجنة وعن جحيم النار في مواطن عديدة، فمن ذلك قوله (ع):
- «وَاِعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ اَلْفِتَنِ وَنُوراً مِنَ اَلظُّلَمِ وَيُخَلِّدْهُ فِيمَا اِشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ اَلْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اِصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ»[٢٥]:
فالجنة فيها ما لا عینٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد وصفها الإمام (ع) بهذه العبارات الكبیرة، وإن أمر الجنة وما تحويه لدليل على عِظَمِ تكريم الله تعالى للإنسان لو وعى الإنسان ذلك، وإذا كانت الجنة بهذا المستوى من النعيم والتكريم الإلهي وبما فيها من المقربین، وقد أرادها الله تعالى لعباده - فما الذي يجدر بالعباد أن يصنعوا؟
- «فَبَادِرُوا اَلْمَعَادَ وَسَابِقُوا اَلْآجَالَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ اَلْأَمَلُ وَيَرْهَقَهُمُ اَلْأَجَلُ وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ اَلتَّوْبَةِ».
وبعد أن أشار الإمام إلى الجنة وما يجدر بالإنسان أن يصنعه لينال ذلك التكريم - يشیر الإمام (ع) إلى جحيم النار بقوله:
- «وَاِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا اَلْجِلْدِ اَلرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى اَلنَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ اَلدُّنْيَا فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ اَلشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَاَلْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَاَلرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى اَلنَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ»: والإمام هنا يتحدث عن أشياء محسوسة ندركها ولكنا قدنغفل عنها، فهو يذكِّرنا بها لكي تكون أكثر حجة وتأثیراً فينا، فقد جَرَّبَ الإنسان مقدار تحمله لمصائب الدنيا وضعفه أمامها، فالشوكة تدميه، وجسده ضعيف لا يقوى على الآلام فكيف يصنع بألم النار وشدة العذاب وأهوال الجحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾[٢٦]، ومالكٌ خازنُ النار لا يحتاج لإشعالها حتى تضطرب بل إنه إذا غضب عليها اضطربت وتأججت وحطَمَ بعضها بعضاً.
ثم يخاطبُ الإمام كبار السن بشكل خاص لضعفهم وقرب أجلهم عادة، بقوله:
- «أَيُّهَا اَلْيَفَنُ اَلْكَبِيرُ اَلَّذِي قَدْ لَهَزَهُ اَلْقَتِيرُ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا اِلْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ اَلنِّيرَانِ بِعِظَامِ اَلْأَعْنَاقِ وَنَشِبَتِ اَلْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ اَلسَّوَاعِدِ»: فهو يذكر هذا الشيخ ضعيف البدن بأطواق النار التي تطوِّقُه، وبالجوامع (الأغلال) التي تأكل لحم سواعده، وهذا ما لا يحتمله الإنسان، فلو تدبر فيه لم يُقدِم على المعصية.
فقد جمع الإمام (ع) ذكر الجنة ونعيمها وذكر الجحيم وعذابها، وما ينبغي للعباد أن يصنعوه، ثم ختم بقوله:
- «أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَاَللّٰهُ اَلْمُسْتَعٰانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ».
وقال(ع)[٢٧]:
- «فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلنَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَإِنَّكُمْ طُرَدَاءُ اَلْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ اَلْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَاَلدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَحَرُّهَا شَدِيدٌ وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ...»: فالتسابق مُتاحٌ للجميع وبإمكان كل فرد أن ينال الجنة بعمله، كما أنه له الخيار أن يدخل النار بعمله أيضاً.
وقد عبر الإمام (ع) عن عذاب النار بأنه جديد وذلك قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾[٢٨]، وإن النار ليس فيها رحمة من جهة العذاب لأن من فيها لا يستحق ذلك.[٢٩]
سادساً: نومتان عن الجنة والنار مرديتان
قال (ع)[٣٠]:
- «أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا».
فهناك من يطلب الجنة ولكنه في مجال العمل لا يعمل للوصول إليها بل ينام عن ذلك أو أن الجنة نظراً لما فيها من النعيم العظيم والتكريم ينبغي أن لا ينام من يطلبها لأنها تستحق العمل الدائم من أجلها، فمن يعشق شيئًا دنيويًّا نجده يحرص على نيله وإذا كان موعده قريباً نجد أنه لا ينام شوقاً إليه وخوفاً من أن يفوته غداً.
وكذلك فإن النار بما فيها من أهوال كيف ينام من يريد الهرب منها، فإن من يحذر من أمر دنيوي نجده قلقاً مضطرباً خائفاً فلا ينام بسبب ذلك أو أنه يستميت في سبيل التخلص منه والبعد عنه.
وهاتان النومتان عن الجنة والنار هما النومتان المرديتان فإن نتيجتهما الهلاك والحرمان من نعيم ليس فوقه نعيم.[٣١]
سابعاً: الخير والشر الحقيقيان
قال (ع)[٣٢]:
- «مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ اَلنَّارُ وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ اَلْجَنَّةُ وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ اَلْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَكُلُّ بَلاَءٍ دُونَ اَلنَّارِ عَافِيَةٌ».
وما أروع أمیر المؤمنین في فكره وهديه وقولِه وعملِه، فهو يبین (ع) هنا أن جميع ما في الدنيا من نعيمٍ وملكٍ ومالٍ يُؤتاهُ الإنسان، فيكون كفرعون أو قارون أو معاوية أو يزيد أو هذه النماذج من الماضین والباقین الذين نالوا من الدنيا أكبر النعيم وتحكموا بها، ومع ذلك حينما يكون عاقبة كل ذلك إلى النار ينكشف الواقع وأن ما كانوا عليه لم يكن نعيماً حقيقيًّا بل نعيماً زائفاً ولم يكن خیراً حقيقيًّا، وإن هذا النعيم كله تُنسيهِ حالةٌ واحدةٌ ولحظاتٌ قليلة في نارِ جهنم ومشهدٌ واحدٌ من مشاهد القيامة.
وأما من ينال بلاءً وشرًّا دنيويًّا فيُظْلَم، ويُنهَب ويُشتَم ويُشَهَّرُ به ويُفترَى عليه ويُحتقَرُ وهو في رثِّ الثيابِ وليًّا من أولياءِ اللهِ تعالى لو أقسم على اللهِ لأبرَّ قَسَمَه، ومع كل ذلك البلاء الذي يناله فإن ذلك ليس شرًّا حقيقيًّا، لماذا؟ لأن وراءه نعيم الجنة وهو النعيم والخیر الحقيقي ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾[٣٣]
إذن نحن نؤمن ونؤكد بأن هذه المشاهد وهذه الحقائق عن المعاد يجب أن تبقى في أذهاننا وتخالط مشاعرنا لأن الارتباط بالمعاد له أكبر الأثر في سیر الإنسان نحو الله تعالى ونيل رضوانِهِ وجنانِهِ.
وفي نفس الوقت نلتمس جانباً آخر غیر الخوف من الآخرة وهو جانب من الألطاف الإلهية ألا وهو التمسك بولاء أمیر المؤمنین (ع) والتزام نهجه وسیرته، وإن ما ينال المؤمن بسبب هذا الولاء، من البلاء والمضايقة في عمل أو دراسة أو في سائر الأمور، لا لشيءٍ إلا لأنه يوالي محمداً وآلَ محمد، فكل ذلك البلاء يهون ما دام الإنسان على الحق وما دامت عاقبته إلى النعيم.
ولذلك أحببتُ أن أختم هذا الدرس الشريف بذكر بعض من آثار الولاء لأولياء الله تعالى، محمدٍ وآلِ محمد، وبعضٍ من آثار العداء والبعد عنهم.
- «وَإِنَّ عَلَى اَلْكَوْثَرِ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَفِي يَدِهِ عَصَاءٌ مِنْ عَوْسَجٍ يَحْطِمُ بِهَا أَعْدَاءَنَا فَيَقُولُ اَلرَّجُلُ مِنْهُمْ إِنِّي أَشْهَدُ اَلشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولُ اِنْطَلِقْ إِلَى إِمَامِكَ فُلاَنٍ فَاسْأَلْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ فَيَقُولُ تَبَرَّأَ مِنِّي إِمَامِيَ اَلَّذِي تَذْكُرُهُ فَيَقُولُ اِرْجِعْ وَرَاءَكَ فَقُلْ لِلَّذِي كُنْتَ تَتَوَلاَّهُ وَتُقَدِّمُهُ عَلَى اَلْخَلْقِ فَاسْأَلْهُ إِذْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرُ اَلْخَلْقِ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ فَإِنَّ خَيْرَ اَلْخَلْقِ حَقِيقٌ أَنْ لاَ يُرَدَّ إِذَا شَفَعَ فَيَقُولُ إِنِّي أَهْلِكُ عَطَشاً فَيَقُولُ زَادَكَ اَللَّهُ ظَمَأً وَزَادَكَ اَللَّهُ عَطَشاً قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى اَلدُّنُوِّ مِنَ اَلْحَوْضِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ قَالَ وَرِعَ عَنْ أَشْيَاءَ قَبِيحَةٍ وَكَفَّ عَنْ شَتْمِنَا إِذَا ذَكَرَنَا وَتَرَكَ أَشْيَاءَ اِجْتَرَأَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِحُبِّنَا وَلاَ لِهَوًى مِنْهُ لَنَا وَلَكِنْ ذَلِكَ لِشِدَّةِ اِجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَتِهِ وَتَدَيُّنِهِ وَلِمَا قَدْ شُغِلَ بِهِ نَفْسُهُ عَنْ ذِكْرِ اَلنَّاسِ فَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُنَافِقٌ وَدِينُهُ اَلنَّصْبُ وَاِتِّبَاعُهُ أَهْلَ اَلنَّصْبِ وَوَلاَيَةَ اَلْمَاضِينَ وَتَقْدِيمُهُ لَهُمَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ»[٣٤].
هذا حال عدو آل محمد، فماذا عمن يوالي محمداً وآل محمد:
- «وَأَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ عَلَى اَلْحَوْضِ يُصَافِحُهُ وَيَرْوِيهِ مِنَ اَلْمَاءِ وَمَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى وُرُودِهِ اَلْحَوْضَ حَتَّى يَرْوِيَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ اَلْجَنَّةِ مَعَهُ مَلَكٌ مِنْ قِبَلِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ اَلصِّرَاطَ أَنْ يَذِلَّ لَهُ وَيَأْمُرُ اَلنَّارَ أَنْ لاَ يُصِيبَهُ مَنْ لَفَحَهَا شَيْءٌ حَتَّى يَجُوزَهَا وَمَعَهُ رَسُولُهُ اَلَّذِي بَعَثَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ»[٣٥].[٣٦]
المراجع والمصادر
الهوامش
- ↑ نهج البلاغة، الكلمة رقم ١٢٦.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩٧.
- ↑ النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، للمقداد السيوري/ ٨٦.
- ↑ نهج البلاغة، الحكمة رقم ١٢٦.
- ↑ سورة مريم، الآية ٦٧.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ٨٣.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩٧-٣٩٩.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ٨٣.
- ↑ سورة الأنعام، الآية ٩٤.
- ↑ سورة يس، الآية ٥٩.
- ↑ سورة هود، الآية ١٠٥.
- ↑ سورة الأنعام، الآية ١٦٤.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٣٩٩-٤٠٠.
- ↑ سورة إبراهيم، الآية ٤٨.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ١٠٩.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ٢١.
- ↑ سورة الشورى، الآية ٧.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ١٩٥.
- ↑ سورة طه، الآية ١٠٥-١٠٦.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٤٠٠-٤٠٢.
- ↑ نهج البلاغة، الكتاب رقم ٢٧.
- ↑ سورة الكهف، الآية ٤٩.
- ↑ سورة ق، الآية ١٦.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٤٠٢-٤٠٣.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ١٨٣.
- ↑ سورة التحريم، الآية ٦.
- ↑ نهج البلاغة، الكتاب رقم ٢٧.
- ↑ سورة النساء، الآية ٥٦.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٤٠٣-٤٠٦.
- ↑ نهج البلاغة، الخطبة ٢٨.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٤٠٦-٤٠٧.
- ↑ نهج البلاغة، الحكمة رقم ٣٨٧.
- ↑ سورة التوبة، الآية ٧٢.
- ↑ كامل الزيارات/ ١٠٢.
- ↑ كامل الزيارات/ ١٢٣.
- ↑ محسن علي المعلم، العقائد من نهج البلاغة، ص٤٠٧-٤٠٩.