النبوة في معارف الإمام الحسين وسيرته

من إمامةبيديا

التمهيد

قال الإمام الحسین(ع): «وَبَلَّغَتْ أَنْبِياؤُكَ وَرُسُلُكَ، مَا أَنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِكَ، وَشَرَعْتَ لَهُمْ مِنْ دِينِكَ»[١].[٢]

التعريف اللغوي

النبيّ والنبوة في اللغة:

النبوة: هي النبأ أو الخبر و«أنبأه إيّاه به: أخبره... والنبيء: المخبر عن الله تعالى... والاسم النبوءة»[٣]. وقال في المصباح المنير: «والنبيء على فعيل مهموز؛ لأنه أنبأ عن الله، أي: أخبر، والإبدال والإدغام لغة فاشية»[٤]. وبهذا يتضح أن النبيّ مهموز في الأصل، ثم أُبدلت الهمزة وأُدغمت في النبيّ والنبوة.[٥]

التعريف الاصطلاحي

أما النبيّ والنبوة اصطلاحاً: فقد عُرِّف النبيّ بأنه: الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر. وعُرِّف كذلك بأنه: إنسان كامل مخبر عن الله تعالى بالوحي؛ لأن الوحي مختص بالأنبياء، وهو نوع علاقة وقعت بينه وبين أنبيائه، قال الطباطبائي: «إن الوحي نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ[٦].[٧].[٨]

أقسام النبوة

لا يخفى أن النبوة تُدرَس في المنهج الكلامي على قسمين:

القسم الأول: ويختص بدراسة النبوة العامة، ومسائلها بشكل عام من دون تخصيصه بنبي معين، من قبيل البحث عن الحاجة إلى بعثة الأنبياء، وطرق معرفتهم، ووجوب عصمتهم، ولا بد أن يكون النبيّ مؤيداً بمعجزة، مسدداً بالبيّنات، ونحو ذلك من الأبحاث.
القسم الثاني: ويُبحث فيه حول النبوة الخاصة، والمراد بها نبوة نبي بخصوصه، كالبحث عن نبوة نبينا، والأبحاث التي ترتبط بالنبوة الخاصة، من قبيل البحث عمّن هو النبيّ. وما هي الظروف الاجتماعية والأوضاع الزمانية والمكانية في زمن بعثته؟ وما هي معجزته التي زُوّد بها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تنصب على نبوة نبي بعينه.[٩]

النبوة العامة

الأدلة على ضرورة إرسال الأنبياء في كلمات الإمام(ع)

الدليل الأول: إيصال الإنسان إلى كماله في الدنيا والآخرة

قال الإمام الحسین(ع) _ حكاية عن أبيه علي بن أبي طالب(ع) في شرح كلمات الأذان «أشهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسولُ الله ِ» _: «أشْهَدُ أَنْ لَا حَاجَةَ لِأَحَدٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا إِلَى اللهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، المُفْتَقَرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنْ عِبَادِهِ وَالْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّداً إِلَى النَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ، وَسِرَاجاً مُنِيراً...»[١٠] . وقال(ع): «وَيَا فَارِجَ الْهَمِّ وَيَا بَاعِثَ الرُّسُلِ وَيَا صَادِقَ الْوَعْدِ»[١١]. وفي دعاء آخر: «يَا مَولايَ... أنتَ الَّذي كَفَيتَ، أنتَ الَّذي هَدَيتَ»[١٢] .

لكي يتضح الدليل على ضرورة إرسال الأنبياء من خلال كلمات الإمام الحسين(ع)، ينبغي بيان مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: الغاية من خلق الإنسان وصوله إلى كماله

تقدّم في مباحث صفات الله تعالى أنّه حكيم، ومن الواضح أنّ الحكيم لا يصدر منه فعل من دون غاية وهدف، كما قال الإمام الحسين(ع): «وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ الْبَدائِعِ، واَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعَ»[١٣] .

وواحدة من خصائص صنع الله تعالى، هو إيصال كلّ مخلوق وموجود إلى كماله، فلا يوجد في هذا الكون الفسيح شيء إلا وله غاية خُلق لأجلها، كما قال تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[١٤].

وهذا ما يُسمّى بالهداية العامّة، وهو قانون يشمل كلّ شيء في الكون، فنحن إذا تأمّلنا في الموجودات، نلمس ونشاهد أنّها تتكامل تدريجياً، سواء كانت هذه الموجودات ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان، أم أنّها ذات حياة فقط كالنبات، أو أنّها من غير ذي الحياة كالموجودات الطبيعية، فنجد أنّ جميع هذه الموجودات تسير سيراً تكوينياً معيناً وعلى مراحل مختلفة، حتى ينتهي كلّ منها إلى نهاية كماله.

ومن الواضح أنّ الإنسان غير مُستثنى عن هذا القانون الجاري في جميع الكائنات؛ حيث إنّ الإنسان يسير نحو كماله المرسوم له وهو سعادته في الدنيا والآخرة، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بالقرب الإلهي؛ لأنّ الله تعالى محض الكمال وعين الكمال.

المقدّمة الثانية: محدودية العقل الإنساني إنّ العقل وإن كان هو الأساس في إثبات الكثير من المسائل الدينية التي للعقل فيها نظر، إلا أنّ العقل يبقى محدوداً، وليس له إحاطة كاملة بجميع نظام الوجود وعالم الغيب، وجميع مصالح الإنسان ومفاسده في هذا العالم، وطريق السعادة في النشأة الآخرة وخصوصياتها، وعلى هذا الأساس؛ فلا يستطيع العقل أن يضع القانون المجدي، ويرسم خطوطاً لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

والنتيجة: بناءً على المقدّمتين السابقتين _ غاية خلق الإنسان وصوله إلى كماله، وأنّ العقل البشري محدود وغير قادر على تحقيق كمال الإنسان _ فإنّ مقتضى العناية الإلهية أن يُبيّن الطريق الموصل إلى كمال الإنسان وسعادته، وحيث إنّ كلّ إنسانٍ لا يمكنه أن يتصل بالله تعالى مباشرةً ويأخذ منه، ولم يكن لأحد مشاهدته تعالى، ولا يتيسر لأحد مشافهته، فمن الحكمة الإلهية أن يبعث الله تعالى نبياً يهدي الإنسان إلى طريقه الموصل إلى كماله، ويأخذ بيده إلى مقصده الحقيقي.

ولا يخفى أنّ هذا الدليل على بعثة الأنبياء من باب اللطف الإلهي، وإلا فلا يوجد لأيّ مخلوقٍ حقّ على الله تعالى؛ لأنّ الكلّ وما يملكون هم ملك لله تعالى[١٥].[١٦]

الدليل الثاني: إقامة العدل

قال الإمام الحسين(ع): «لعَمري، ما الإمام إلا العامل بالكتابِ، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات اللهِ»[١٧].

لكي يتضح هذا الدليل ينبغي تقديم الأُمور الآتية:

الأمر الأول: المراد من الإمام ما يشمل الأنبياء والمرسلين

الإمامة: هي قيادة البشرية بتنصيب من الله تعالى.
والإمام: هو القائد، وهو مَن يقوم بتدبير الأُمّة وسياستها والدفاع عنها، وإقامة العدالة في أوساطها.

والإمام يشترك مع النبيّ والرسول في هذه الخصوصية، فيقوم النبيّ والرسول بتدبير الأُمّة، فلا يكون نبيّ أو رسول إلا وهو إمام، نعم قد تقتضي المصلحة والحكمة الإلهية أن يبعث الله تعالى نبياً من الأنبياء لإبلاغ الخلق ما فيه مصلحتهم، ولا يكلّفه بالقيام بأعباء الأُمّة وقيادتها.

إذاً، المراد من الإمام في كلامه(ع) المتقدم: «فَلَعَمري مَا الإِمامُ إلَا العامِلُ بِالكِتابِ...». ما يشمل النبي والرسول.

الأمر الثاني: الفطرة تدفع الإنسان إلى استخدام الآخرين من الواضح أنّ الإنسان مفطور على حبّ ذاته، وحبّ كمالاته؛ لذا فالإنسان يندفع من تلقاء فطرته إلى استخدام كلّ ما يؤمّن له حاجاته وكمالاته، ولهذا لا يمكن أن يعيش الإنسان منعزلاً عن الآخرين من أبناء جنسه؛ لأنّه لا يتمكن من تكميل نقصه المادي والمعنوي، وتحقيق منافعه بمفرده، فهو بحاجة إلى الاشتراك مع بقية أفراد البشر في ممارسة الحياة، وهذا هو معنى أنّ الإنسان مدني بالطبع، أي: إنّ الإنسان بحاجة إلى أبناء جنسه، وإنّ حياته لا تتكامل، لا في الجانب المادي، ولا المعنوي، إلا من خلال العيش مع الآخرين.

الأمر الثالث: حصول التزاحم والاختلاف في تحقيق المنافع لمّا كان الإنسان مندفعاً لتحقيق النفع لنفسه، وهذه النزعة مركوزة عند كلّ أفراد البشر مما يُفضي إلى وقوع الاختلاف بين أفراد الإنسان؛ لأنّ كلّ إنسان يريد أن يجلب المنفعة الأكثر لنفسه، وهذه هي غريزة الأنانية، وهي غريزة فُطِر عليها الإنسان، ولا يمكن زوالها من النفس الإنسانية، ومن الواضح أنّ هذا التزاحم في الرغبات والمنافع يُفضي إلى حصول الاختلاف والانحراف، فيستفيد القوي من الضعيف، وينتفع الغالب من المغلوب، ويقابله الضعيف المغلوب بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابلَ ظالمه بأشدّ الانتقام، ومن الواضح أنّ هذا الاختلاف والنزاع يؤدي إلى الهرج والمرج، وتاريخ الإنسانية يشهد لهذا النحو من الاختلاف والنزاع.

النتيجة: إنّ نزعة حبّ الكمال والنفع المركوزة لدى الإنسان تؤدي إلى تزاحم الرغبات والمصالح، مما يتسبب في حصول الاختلاف بين البشر، وحصول الفساد في الحياة الاجتماعية، ومقتضى العناية الإلهية إيصال الإنسان إلى سعادته في الدنيا والآخرة، ومن الواضح أنّ سعادة الإنسان، لا سيما في دار الدنيا لا تتحقق إلا بقانون عادل، يلتقي عليه كلّ أفراد البشر؛ لأجل استقرار المجتمع بنحو ينال كلّ ذي حقٍّ حقّه، وإقامة العدل الاجتماعي الذي ينهض بمهمة إيجاد التوازن المطلوب لدوام الحياة الإنسانية، ويحقق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، ومهمة تطبيق قانون العدل في دار الدنيا هي مهمة الأنبياء والرسل والأئمة، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين(ع) بقوله: «فَلَعَمري مَا الإِمامُ إلَا العامِلُ بِالكِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفسَهُ عَلى ذاتِ الله». قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[١٨]، حيث تُصرّح الآية المباركة بأنّ الوظيفة الأولى للأنبياء هي بيان الأحكام: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ)، بمعنى زوّدناهم بتشريعات شاملة، وبيان الأحكام؛ لأجل إقامة العدل: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، ومن الواضح أنّ إقامة القسط والعدل لا تتحقق إلا من خلال إقامة حكومة قوية؛ لكي يتمكن الأنبياء من خلالها من إقامة العدالة الاجتماعية، لذا تقول الآية المباركة: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[١٩]، والحاكم والمنفّذ هو النبيّ، أو الرسول، أو الإمام، وهذا يكشف عن ضرورة إرسال الأنبياء من قِبل الله تعالى[٢٠] .

إن قيل: إنّ العقل قادرٌ على إيجاد قوانين اجتماعية عادلة، مضافاً إلى أنّ العقل يدعو إلى اتباع الحقّ والفضيلة، ونبذ الشرّ والفساد، وهذا يعني إمكان الاكتفاء بالعقل والاستغناء به عن النبوة.

والجواب: إنّ العقل الإنساني يستطيع أن يكتشف بعض القوانين الاجتماعية في دار الدنيا، كقانون الضمان الاجتماعي، وقانون الحرية والديمقراطية والمساواة، لكن هذه القوانين ليست هي الهدف الأصيل للإنسان، بل الهدف الأساس والرئيس للإنسان هو السعادة في الدنيا والآخرة التي هي القرب الإلهي، والعقل الإنساني يعجز عن اكتشاف القوانين الاجتماعية التي تكون نتائجها إيجابية في النشأة الآخرة، وذلك لجهله بنتائج وقوانين تلك النشأة، وعاجز كذلك عن إيجاد الروابط التكوينية بين الأعمال في دار الدنيا والجزاء في دار الآخرة، والسبب في عجز العقل الإنساني عن اكتشاف القوانين التي تسعد الإنسان في الحياة الدنيا والآخرة هو أنّ قوانين الآخرة وربطها بقوانين الدنيا هي غيب من الغيوب، وليس للعقل البشري مجال للحديث عن الغيب، ليحكم فيها أو يتنبأ عنها؛ لأنّ الغيب خارج عن مساحة وحدود العقل البشري.

وبهذا يتضح أنّ العقل البشري عاجزٌ عن اكتشاف القوانين الاجتماعية _ التي تضع الدنيا بما توافق الكمال الأخروي والقرب الإلهي _ إلا من خلال الدين والنبوة. فالنبوة حالة إلهية تهدي الإنسان إلى حياة إنسانية، وتوصله إلى كماله الذي خُلق لأجله.

إشكالية (استقرار المجتمعات كاشفة عن الاستغناء عن دور النبوة) وحاصل هذه الإشكالية: إننا حتى لو سلمنا عدم قدرة العقل البشري على حل الاختلاف بين أفراد المجتمع، لكنَّ هذا الاختلاف والتفاعل بين أفراد المجتمع يؤدي بهم في نهاية الأمر إلى إيجاد مجتمع صالح، مناسب لمحيط الحياة الاجتماعية، ويضمن سعادة المجتمع، ومما يشهد لذلك هو ما نلمسه واضحاً في كثير من المجتمعات الإنسانية، لا سيما المعاصرة منها كما في بعض الدول التي وصلت إلى سعادة مجتمعاتها وصلاحها.

وحاصل الإجابة: إن ميل الطبيعة الإنسانية إلى الكمال والسعادة، هو أمر مما لا خلاف ولا شك فيه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المجتمع الصالح الذي تدعو إليه هذه الطبيعة الإنسانية، لكن الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه هو أن هذه المجتمعات سواء المنقرضة أو المعاصرة، تتوجه صوب السعادة والكمال الجسمي المادي، وليس إلى الكمال الحقيقي للإنسان، وهو القرب الإلهي الذي من خلاله يتحقق الكمال والسعادة في الحياة الدنيا والآخرة، ومن الواضح أن الكمال الجسماني ليس هو الكمال والسعادة الحقيقية للإنسان.

وعلى هذا الأساس؛ لا بد أن يكون قانون العدل الإلهي هو الجهة الإلهية التي اقتضت حكمتها إرسال الأنبياء؛ لإرشاد الناس إلى كمالهم الذي خُلقوا لأجله، وإقامة العدالة الاجتماعية في دار الدنيا.[٢١]

اصطفاء الأنبياء في كلمات الإمام الحسين (ع)

قال الإمام الحسين (ع): «إنَّ الله َ اصطَفى مُحَمَّداً (ص) عَلى خَلقِهِ، وَأكرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، واختارَهُ لِرِسالَتِهِ»[٢٢]. وقرأ (ع) قوله تعالى - حينما برز على الأكبر إلى الميدان[٢٣] -: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[٢٤].

قال الفراهيدي: «الصفو نقيض الكدر، وصفوه كل شيء خالصه وخيرته... والاصطفاء: الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى، والأنبياء المصطفون»[٢٥].

وقال الراغب في المفردات: «الاصطفاء: تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار: تناول خيرته... واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافيا عن الشوب الموجود في غيره... قال تعالى: ﴿اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ[٢٦]، والصفي والصفية: ما يصطفيه الرئيس لنفسه»[٢٧].

التعريف اللغوي

فالمعنى اللغوي للاصطفاء يتضمن المعاني الآتية:

  1. خلوص وصفاء المصطفين من كل شائبة وكدر، فيكون المصطفى في أعلى رتبة من النزاهة والكمال ذهنيا وسلوكيا.
  2. إن الاصطفاء قريب من معنى الاختيار، والفرق بينهما هو أن الاختيار: أخذ الشيء من بين الأشياء، بما أن ذلك الشيء هو خيرها. أما الاصطفاء: فهو أخذ الشيء من بين الأشياء، بما أنه صفوته وخالصته.
  3. إن الاصطفاء ملازم لمعنى الامتياز والتقدم على الآخرين؛ ليكون المصطفى أُنموذجاً وقدوةً يُقتفى ويُهتدى به في طريق الخير والصلاح.

التعريف الاصطلاحي

أما الاصطفاء في الاصطلاح:

فهو عين المعنى اللغوي، وهو اختيار الأفضل، وقد حظي مفهوم الاصطفاء بعناية فائقة في النصوص القرآنية في موارد عديدة، لتسجل حقيقة قرآنية مهمة، وهي أن الله تعالى قد اصطفى واختار أفراداً من خلقه وعباده، وهذه الحقيقة القرآنية يعكس مضمونها عدة من الآيات القرآنية، منها: الآية التي ذكرناها في بداية البحث والتي قرأها الإمام الحسين (ع)، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ[٢٨]،﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[٢٩]

فالإمام (ع) حينما قرأ هذه الآية يريد أن يشير إلى حقيقة، وهي أن الله تعالى قد اصطفى بعضاً من ذرية إبراهيم (ع) لا جميع ذريته، ولا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك، وإن كان الله عز وجل قد فضل بني إسرائيل على العالمين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[٣٠]، لكنَّ تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم عليهم من جهات أخرى. فإن الله تعالى يصطفي أنبياءه وأولياءه، ويوفر لهم ما يحتاجونه في كل مواقع المسؤولية في الحياة، سواء في النبوة أم في الإمامة، وهذا ما يمكن استيحاؤه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً...[٣١].[٣٢]

فلسفة الاصطفاء

قال الإمام الحسين (ع): «إنَّ الله َ اصطَفى مُحَمَّداً صَلّى الله ُعليهِ وَآلهِ عَلى خَلقِهِ، وأكرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، واختارَهُ لِرِسالَتِهِ»[٣٣].

انطلاقاً من قول الإمام الحسين (ع) المتقدم، يتضح أن الاصطفاء الإلهي ليس غاية في ذاته، بل يُنبئ عن إرادة ربانية في اختيار الأمثل من البشر؛ لأجل حمل مسؤولية الرسالات الإلهية، وهذا ما يشير إليه قوله (ع) آنف الذكر، فيختار الله عز وجل أنبياءه ورسله، لما يجده فيهم من مقومات عظيمة ومؤهلات عالية، ولما يراه مناسباً لقومهم، وملائماً لعصرهم وزمانهم، فهو تعالى الذي يختار ويجتبي صفوته من خلقه، فيستخلصهم لنفسه، ويولي عنايته الخاصة بهم وينقيهم من كل شوب ودنس وكدرة؛ كل ذلك لأجل النهوض بأعباء ومسؤوليات النبوة والإمامة.

ثم إن هناك أسباباً ومناشئ لهذا النحو من الاصطفاء، أصولها العلم، والعدل، والحكمة، فإن الله تعالى لو علم باستعداد إنسان لكمالات معينة، فإنه تعالى بمقتضى حكمته وعدله سوف يهيئ له ما يوصله إلى ما استعد له.

وعلى هذا الضوء؛ لما علم[٣٤] الله تعالى منذ الأزل باستعداد هذه المجموعة من البشر _ وهم الأنبياء والأوصياء _ لتحمل مقامات الرسالة والولاية، فإن الله تعالى قد اصطفاهم واختارهم، وهيأ لهم ما يمكنهم من وصولهم إلى ما استعدوا له.[٣٥]

المراجع والمصادر

  1. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني

الهوامش

  1. ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ص٧٨.
  2. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٣.
  3. الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ج١، ص٢٩.
  4. الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير: ج٢، ص٥٩٢.
  5. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٣.
  6. سورة النساء، الآية ١٦٣.
  7. الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج٢، ص١٤٢.
  8. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٣.
  9. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٥.
  10. الصدوق، محمد بن علي، التوحيد: ص٢٣٨. الصدوق، محمد بن علي، معاني الأخبار: ص٣٨. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٨٤، ص٢٤. النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج٤، ص٦٥.
  11. ابن طاووس، علي بن موسى، مهج الدعوات: ص١١.
  12. الكفعمي، إبراهيم، البلد الأمين: ص٢٥٥، مقطع من دعاء عرفة.
  13. الكفعمي، إبراهيم، البلد الأمين: ص٢٥٥، مقطع من دعاء عرفة.
  14. سورة طه، الآية ٥٠.
  15. هذا الدليل هو الذي ذكره الحكماء والفلاسفة، وهو مأخوذ من كلمات أهل البيت(ع)، كما أشار إليه الإمام الحسين(ع)، وكذلك ورد عن الإمام الصادق(ع)، أنّه قال للزنديق الذي سأله: من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: «إنّا لَمّا أثبَتنا أنَّ لَنا خالِقاً صانِعاً مُتَعالِياً عَنّا وعَن جَميعِ ما خَلَقَ، وكَانَ ذلِكَ الصّانِعُ حَكيماً مُتَعالِياً، لَم يَجُز أن يُشاهِدَهُ خَلقُهُ، ولا يُلامِسوهُ، فَيُباشِرَهُم ويُباشِروهُ، ويُحاجَّهُم ويُحاجّوهُ، ثَبَتَ أنَّ لَهُ سُفَراءَ في خَلقِهِ، يُعَبِّرونَ عَنهُ إلى خَلقِهِ وعِبادِهِ، ويَدُلّونَهُم عَلى مَصالِحِهِم ومَنافِعِهِم وما بِهِ بَقاؤُهُم، وفي تَركِهِ فَناؤُهُم. فَثَبَتَ الآمِرونَ وَالنّاهونَ عَنِ الحَكيمِ العَليمِ في خَلقِهِ وَالمُعَبِّرونَ عَنهُ جَلَّ وعَزَّ، وهُمُ الأَنبِياءُ (ع) وصَفوَتُهُ مِن خَلقِهِ، حُكَماءَ مُؤَدَّبينَ بِالحِكمَةِ، مَبعوثينَ بِها، غَيرَ مُشارِكينَ لِلنّاسِ ـ عَلى مُشارَكَتِهِم لَهُم فِي الخَلقِ وَالتَّركيبِ ـ في شَيءٍ مِن أحوالِهِم، مُؤَيَّدينَ مِن عِندِ الحَكيمِ العَليمِ بِالحِكمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذلِكَ في كُلِّ دَهرٍ وزَمانٍ مِمّا أتَت بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنبِياءُ مِنَ الدَّلائِلِ وَالبَراهينِ، لِكَيلا تَخلُوَ أرضُ اللهِ مِن حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلمٌ يَدُلُّ عَلى صِدقِ مَقالَتِهِ وجَوازِ عَدالَتِهِ». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج١، ص١٦٨؛ ويمكن تقريب ذلك بمقدّمتين: المقدّمة الأولى: إنّ الله خالق الإنسان وهو الربّ القادر العالم، كما ثبت في مباحث التوحيد. المقدّمة الثانية: إنّ الإنسان غير قادر على الوصول إلى كماله في الدنيا والآخرة؛ لمحدودية عقله، فهو محتاج إلى مَن يهديه إلى كماله في الدنيا والآخرة. النتيجة: من الحكمة واللطف الإلهي أن يُرسل إليه مَن يهديه ويدلّه على منافعه ومصالحه، ويزجره عن الظلم وينهاه عن الفواحش.
  16. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٥-٢٣٨.
  17. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج٤، ص٢٦٣.
  18. سورة الحديد، الآية ٢٥.
  19. سورة الحديد، الآية ٢٥.
  20. اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج٢، ص١٣١.
  21. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٣٨-٢٤٢.
  22. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك: ج٣، ص٢٨.
  23. انظر: ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج٥، ص١٣٠.
  24. سورة آل عمران، الآية ٣٣-٣٤.
  25. الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين: ج٧، ص١٦٢.
  26. سورة الحج، الآية ٧٥.
  27. الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن: ص٤٨٧-٤٨٨.
  28. سورة آل عمران، الآية ٣٣.
  29. سورة آل عمران، الآية ٣٤.
  30. سورة الجاثية، الآية ١٦.
  31. سورة آل عمران، الآية ٣٣.
  32. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٤٣-٢٤٤.
  33. الطبراني، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك: ج٣، ص٢٨.
  34. قد يقال: إن علم الله بالأشياء قبل خلقها ينافي اختيارية الإنسان. والجواب: لا تنافي بين علم الله تعالى بما يؤول إليه الإنسان وبين الاختيار؛ وذلك لأن العلم الإلهي تعلق بكيفية صدور الفعل عن الإنسان على النحو الاختياري بقيد الاختيار؛ لأنه لو كان صدور الفعل من الإنسان جبراً لتخلف علمه عن الواقع، فالله تعالى شاءت إرادته أن لا يوجد الفعل إلا بعد تحقق شرطه، وهو اختيار الإنسان.
  35. علي حمود العبادي، أصول العقيدة في النص الحسيني، ص٢٤٥.